متواضع كعادته، ولا يحب الأضواء، يعد لدى أغلب رفاقه المرجع الأول والأخير لسبر أغوار النظرية الماركسية، ويعتبرونه حكيم حكماء حزب التقدم والاشتراكية، بعد أن فضل ترك كرسي الأمانة العامة للتنافس بين الرفاق. (كرتوش) ضيف "المغربية" هذا الأسبوع هو إسماعيل العلوي، الأمين العام السابق لحزب التقدم والاشتراكية، المعروف بلحيته البيضاء، الأنيقة والمتناسقة. حافظ على هدوئه المعهود طيلة الحوار مع "المغربية"، وأجاب عن جميع الأسئلة دون تحفظ وبنبرة هادئة، واعتبر أن الأحزاب المغربية تمكنت من تطوير نفسها بحكم التحولات السياسية التي جاء بها "الربيع العربي"، وأن المجتمع المغربي "دخل في مرحلة استثمار كل الإنجازات التي حصلت، منذ بداية حكومة التناوب التوافقي"، بقيادة عبد الرحمن اليوسفي. وقال "أظن أن ذاك الاختمار، الذي حصل منذ 15 سنة، بدأت تتضح نتائجه الآن، على المستوى الاجتماعي بالنسبة للتغطية الصحية، وعلى مستوى التطور الاقتصادي العام". اعتبرتم، في تعليق يعود لسنة 2009، أن الأحزاب المكونة للمشهد السياسي المغربي مازالت في قسم التحضيري، هل ما زلتم مقتنعين بهذا الرأي؟ أظن أن الظروف التي عشناها في السنة الماضية، وعاشها المغرب الكبير والعالم العربي برمته، جعلت الجميع يرتقي من صف التحضيري إلى صف آخر، واعتبر أن أحزابنا قامت بهذا التحول النسبي، ودون شك فإنها تطورت بحكم التطورات السياسية الحاصلة، لكن أريد أن أصحح شيئا، فعندما تكلمت عن التحضيري، لم أقصد الأحزاب بالذات، بل قلت إن "مجتمعنا السياسي ككل ما زال في التحضيري"، ولم أقل ذلك من باب التشفي، أبدا، لكن كانت ملاحظة، تبدو لي، موضوعية، إذ كنا نلاحظ نوعا من عدم الملاءمة في المواقف مع ما يفرضه الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمجتمع. إذن، أتمنى أن نكون قمنا بهذا الصعود التدريجي، وهذا شيء طبيعي أن يحصل، لأن ما هو صحيح بالنسبة لنا، صحيح بالنسبة لمجتمعات أخرى. هذا ما كنت أريد أن أقوله، وهذا ما يمكن أن أقوله الآن. دون شك، سيلاحظ الناس أن ذاك الوضوح في المشهد السياسي، الذي كنا نسعى إليه أو كما كان يتصوره الكثيرون، لم يحدث بعد. وأظن أن مجتمعنا دخل في مرحلة استثمار كل التوظيفات، التي حصلت منذ بداية حكومة التناوب التوافقي مع قيادة عبد الرحمن اليوسفي، وأظن أن ذاك الاختمار، الذي حصل منذ 15 سنة أو يكاد، بدأت تتضح نتائجه الآن، على المستوى الاجتماعي بالنسبة للتغطية الصحية وما إلى ذلك، دون أن ننسى أن حكومة التناوب هي من أقدمت على هذا الأمر، وعلى مستوى التطور الاقتصادي العام، دون إغفال القضايا والمشاكل، التي ما زالت عالقة، وهي كثيرة وكثيرة جدا. رغم ما قلتم إن سكة الإصلاح انطلقت مع حكومة التناوب، لكن ما يلاحظ اليوم، أن الحكومة الحالية بقيادة حزب العدالة والتنمية، هي التي تجني ثمار القطار الذي انطلق سنة 1998. - (ضاحكا)، ولم لا؟ فما يهمنا هو شعبنا وتطور هذا الشعب والوطن، أما قضية جني الثمار، فأظن أن الأقدار تريد ذلك، و"ماشي" مشكل بالنسبة لي، بل بالعكس، يمكن أن تكون تلك هي الوسيلة لتعميق المسار، الذي انطلق في 1998. كرجل خبر العمل السياسي والتمييز بين التصورات السياسية، هل يمكن، أمام المعطيات المتوفرة التي ساهمت في تشكل تحالف حكومي يجمع بين أحزاب لا يربط بينها أي تصور إيديولوجي، أن نقول إن البرنامج انتصر على التصور الإيديولوجي؟ - يبدو لي ذلك، وإنما الأمور بخواتمها، لأننا لم نصل بعد إلى نهاية المسير، لكن يبدو لي، فعلا، أن الأمور نضجت، وأخذت تسير في توجه، نتمنى أن يزيد في التعميق. لكن، على حساب مستقبل اليسار؟ - لا، أبدا، هنا، لابد أن نميز بين الهيئات التي تمثل اليسار، أو التي تدعي تمثيل اليسار، واليسار في حد ذاته. هنا أعود إلى كارل ماركس، وهو من رواد الحركة التحررية البشرية، وليس فقط الحركة العمالية، لأقول إنه كان يميز بين الحزب، الذي كان يراه حركة وتصورا، وبين التنظيمات الحزبية بهيكلتها ونظمها. إن التنظيمات الحزبية يمكن أن تفشل، إلى أن تضمحل، ويمكن لها أن تنمحي من الساحة، لكن الفكرة التي تمثلها هذه التنظيمات تبقى قائمة، وستجد، عند الاقتضاء، من يرفع المشعل لإحيائها مرة أخرى، وبالتالي، فأنا لست متخوفا بالنسبة لمصير اليسار، لأنه سيبقى موجودا وأفكاره تتجذر أكثر فأكثر، وستنتصر في نهاية المطاف، لأن تركيبة المجتمعات المعاصرة تفرض ذلك، فحتى، مثلا، ما يعتبره البعض بمثابة كارثة، مع انهيار المعسكر الاشتراكي، أعتبره تجربة من تجارب الإنسانية، وعنصرا عابرا في تاريخ البشرية، نستخلص منه العبرة، كما استخلصها من التجارب السابقة من سبقنا. وأشير هنا إلى تجربة " كمونة باريس" (1872)، التي استخلص منها ماركس دروسا ما زالت صالحة إلى اليوم. هذا التفاؤل بمستقبل اليسار، هل يستحضره التقدم والاشتراكية لبناء تكتل يساري كبير في المغرب؟ - هذا ما أتمناه، وهذا ما ناضلت وناضل ويناضل حزبي من أجله، وسأبقى مناضلا في هذا الاتجاه مع رفاقي الآخرين. لكن، كيف تفسر علامة الاستفهام الكبيرة لتحالف التقدم والاشتراكية مع العدالة والتنمية، ما محلها في المسار السياسي لحزبكم؟ طبعا، السؤال إذا طرحناه بالشكل الذي تفضلت بطرحه سيبدو غريبا، أو سيبدو دون جواب، أو غير قابل للجواب، لكن أظن أنه يجب أن ننظر إلى الأمور في حركيتها، وبرؤية جدلية، وبالتالي يجب النظر إلى العدالة والتنمية، أو إلى أي حركة ذات مرجعية إسلامية، بمنظور آخر غير المنظور الإيديولوجي المتسرع. فعلى سبيل المثال، إذا أخذنا الحركة ذات المرجعية المسيحية في أوروبا، نجد أن فيها توجهات مختلفة، وكان السائد فيها هو التوجه الوسطي أو التوجه اليميني، كما كان ومازال الأمر في إيطاليا وألمانيا، وحتى في فرنسا مع الحركة الجمهورية الشعبية التي كان من قاداتها لمدة، جورج بومبيذو، السيء الذكر بالنسبة لنا نحن المغاربة (وزير خارجية فرنسا، الذي كان له دور في نفي محمد الخامس، سنة 1953). لكن هناك توجهات أخرى لم تفلح لحد الآن في فرض وجودها بشكل قوي داخل هذه الحركة، لكنها موجودة مثل حركة "القساوسة العمال" في فرنسا، التي كان لها دور في اليسار، إذ من أعضائها من انخرط في الحزب الشيوعي الفرنسي، وكذلك حركة "الشهادة المسيحية"، وهي يسارية منذ أن كانت وبقيت ومازالت موجودة. وعلينا أن لا ننسى ما جرى ويجري خارج أوروبا، وفي أمريكا اللاتينية مع أنصار "لاهوت التحرر". إذن، علينا ألا نكون دغمائيين عندما ننظر في أوضاع الحركات السياسية الموجودة في الساحة، بل يجب أن نكون متبصرين والتبصر والموضعية يقتضيان اليقظة. وهذا صحيح حتى بالنسبة للحركات اليسارية، أعني بذلك حتى الحزب الذي أنتمي إليه، لأننا بشر، والبشر ليس منزها عن الخطأ. أحد المحللين السياسيين لما علم بقبول التقدم والاشتراكية الدخول في التحالف الحكومي علق ساخرا أن هذه التجربة نوتة نشاز في السيمفونية اليسارية، ما تعليقكم؟ - أظن أن السيمفونيات، كذلك، فيها أصناف وأنواع، ودون الشك، فإن سيمفونيات بروكوفييف أو باخ، أو سيمفونيات المغربي أحمد الصياد، ستبدو للبعض ومقارنة مع سيمفونيات موزار أو بيتهوفن نشازا على مستوى النغم والموسيقى، لكن تبقى سيمفونيات، ولا يمكن أن نحكم عليها بعدم الانسجام بناء على التصور العام، الذي يمكن أن يكون لشخص في ما يخص السيمفونيات عموما، وقس على ذلك في المجال السياسي. العدالة والتنمية كان في عهد حكومة التناوب معارضا شرسا لبرنامجكم في مجال الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، ماذا تغير في هذا الحزب حتى تتحالفوا معه؟ أعتقد أن إجراء النقد الذاتي، بصفة عامة، يكون على نحوين: إما بإجراء تقييم هادئ لكل الأعمال، مع استخلاص الخلاصات الضرورية، وإما بالممارسة. وحزب العدالة والتنمية قام بنقد ذاتي بالممارسة. ونتمنى أن يبقى على هذا النهج، وإذا زاغ عن هذا النهج، سنتبرأ منهم، وسنسترجع حريتنا. هل حرية الحزب مقيدة الآن؟ - لا، أبدا، لكن، عندما نلتزم، نكبل أنفسنا، وينقص الالتزام بعضا من الحرية، وعندما لا يحترم الطرف المتعاقد معه ذلك التعاقد، يصبح الاتفاق لاغيا في تلك الحالة. لو كنت أمينا عاما للتقدم والاشتراكية ماذا كنت ستفعله، بخلاف ما قام به نبيل بنعبد الله في هذه الفترة؟ - أولا، أذكّر بأن سلوك الأمين العام مقيد بقرارات المؤتمر، والمؤتمر هو الذي يضع الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها، وبالتالي، أكان إسماعيل العلوي أو نبيل بنعبد الله أو أي مناضل آخر، فعليه أن يلتزم بهذه الضوابط الواضحة، التي توضع في المؤتمر، والتي تندرج كذلك في التصور العام، وفي مقاصد العمل السياسي الخاص بالتقدم والاشتراكية. طبعا، هذا لا يعني أننا لسنا مختلفين، بل لكل واحد شخصيته وطريقة تعامله. ولو بقيت أمينا عاما للحزب، سوف لا تكون عندي الحيوية، التي يتحلى بها نبيل بنعبد الله، ولا القدرة على التواصل التي يتميز بها، والحق أنه ينجح في توصيل الخطاب بطريقة أكثر بشاشة مني. ودون شك، يلاحظ أن هناك تغييرا في طريقة الحزب التواصلية، وأن الحزب اليوم يعرف نجاحا في التسويق الإعلامي، بالمفهوم النبيل للكلمة، لعمله السياسي. يلاحظ أن نبيل بنعبد الله الذي يشرف على قطاع الإسكان والتعمير في الحكومة، يجد نفسه وجها لوجه مع شريحة مهمة من الفقراء والمستضعفين القاطنين في أحياء بنيت عشوائيا. هل ستؤثر قرارات الحكومة بمحاربة البناء العشوائي على الإشعاع السياسي للتقدم والاشتراكية؟ - يجب أن نتحلى بالموضوعية ونقول إن نبيل بنعبد الله لا يقوم بهذا العمل، لأنه وزير مكلف بالإسكان ووضع سياسة للمدينة، وأن من يقوم بالعمل "القمعي" هي السلطات الإدارية، التي من واجبها أن تسعى إلى تطبيق القانون واحترام مضامينه. والمشكل المطروح أعمق من ذلك، إذ نوجد في مجتمع فيه 13 مليون مواطن، على الأقل، يعيشون في الأرياف والبوادي، في ظروف لا تليق بالإنسان في القرن21. على وجه العموم، ورغم المجهودات التي بذلت منذ عقود، نعلم جميعا أن أولائك ال13 مليون نسمة مكتوب عليهم أن يقتاتوا من 9 ملايين هكتار من المساحة الصالحة للزراعة أو الفلاحة بشكل عام. وهذه المساحة نفسها وصلت إلى هذا المستوى في العقدين الأخيرين على حساب الغابة والأحراش والمراعي. الآن، لدينا 9 ملايين هكتار، ولنا، في المقابل، 13 مليون مغربي من سكان البوادي، وإذا قمنا بتوزيع "تعادلي" مطلق، فإن كل واحد منهم سيستفيد من أقل من هكتار، علما أننا لا نأخذ في هذا التوزيع بعين الاعتبار طبيعة الأراضي ودرجة خصوبتها. معنى هذا، أن ضمان القوت في هذا المجتمع شيء صعب، وما يزيد في صعوبته أن من يتعاطون للعمل على تلك الأراضي ليس لهم المستوى التكويني، ليكثفوا الإنتاج بشكل معقلن، مطابق للوسائل التي توفرها الحداثة والحياة العصرية. والمسؤولية لا تعود لهم كما نعلم، وهذا هو المشكل الذي يتسبب في وجود هجرة، ووجود أحياء في ضواحي المدن بشكل عشوائي، يسكن فيها هؤلاء الناس، الذين لا يمكنهم أن يقتاتوا بما فيه الكفاية في الأرياف. وباتصال مع الحراك العربي في السنة الماضية،، حصل تسيب في البناء وانتشرت البنيات العشوائية، ما جعل عملية التصدي لها مسألة أساسية، ولا يمكننا أن نلوم في ذلك الوزير، الذي لم يعمر في الوزارة إلا شهرين أو ثلاثة، ليجد الحل لهذه المعضلة. وعلى حد علمي، فإن نبيل بنعبد الله منكب حاليا على إيجاد الحل، وأتمنى أن يجده، لأن الحل، إذا ما وجد، سيعود بالخير على مجتمعنا برمته. وعلمت أنهم يعملون في وزارة الإسكان حسب الإحصاءات التي تتوفر لهم، والتي تشير إلى أن 850 ألف أسرة (وكل أسرة يوجد بها من 5 إلى 7 أفراد، حسب إحصائيات تعود إلى سنة 2007)، تعيش في ظروف غير لائقة، ويسعون لضمان سكن لائق لكل واحدة من هذه الأسر، في الخمس سنوات المقبلة. وفي حالة تحقيق هذا الهدف، هل تتصور الصدى لدى سكان الأرياف، الذين يعيشون في ظروف أكثر من صعبة؟ الجواب أن أغلب سكان الأرياف سيتشجعون للهجرة إلى المدينة، اقتداء بما فعله الآخرون، الأمر الذي يجب أن تتهيأ له الحكومة، ليس فقط ببناء مدن جديدة، أو ببناء أحياء جديدة ودور لائقة، لكن بإيجاد العمل، الذي يمكن أن يضمن القوت الكريم لهؤلاء الناس، وهذا ما يطرح مشكل الاستثمارات، وتوفير الميزانيات الكافية، خصوصا أن المغرب مهدد بالجفاف هذه السنة. من المتوقع أن يعرف المغرب هجرة قروية كبيرة هذه السنة بسبب الجفاف؟ - للأسف هذه السنة، السماء لم تكن إلى جانبنا، لكن لم نقنط من الرحمة الإلهية، وتمنينا أن تتهاطل الأمطار في شهر مارس، لأن المثل المغربي يقول "إذا كان مارس يسيل، وأبريل ظليل، وماي صافي صقيل، ثلثين الصابة تحيل"، بمعنى أن هذه الشهور الثلاثة إذا مرت على هذا النحو يمكن أن توفر ثلثي المحصول الزراعي، ووفرة من الحبوب. متى ترى مذكرات مولاي إسماعيل العلوي طريقها إلى الطبع والنشر؟ لدي ذاكرة تستحضر فقط المعطيات التاريخية، وتهمل تفاصيل الحياة الشخصية، كما لست متعودا على تدوين كل ما يحدث لي في اليوم. وهذا خطأ، وبالتالي، لن أكتب أي مذكرات لعدم تدوين المعطيات، ولأن الذاكرة تخطئ، وغير ذات مصداقية، لدرجة أن الإنسان قد يتذكر وقائع يظن أنه عاشها لكنه في الواقع لم يحيها إلا في مخيلته، وليس في الواقع، وبالتالي يجب التحلي بشيء من التحفظ في هذا الباب، في ما يخصني، زد على ذلك الكسل. من تعاملوا عن قرب مع إسماعيل العلوي يكتشفون تعامله الدافئ والإنساني، ما يجعلك محط احترام وإجماع، هل هذه الميزة الإنسانية صفة ضرورية يجب أن يتحلى بها أي قيادي، أم هي طابع خاص؟ - الجواب على هذا السؤال صعب ، وإلا سترغمني على القيام بنوع من التحليل الداخلي لنفسيتي، لأرى ما هو سبب في ذلك. غير أنني أعتبر أن الأمر يجب أن يكون طبيعيا لدى أي إنسان، ولا يمكن أن نتعايش في المجتمع دون أن يكون لنا إحساس مرهف في الواقع، لكن دون السقوط في نوع من المغالاة في العواطف، فلابد للإنسان أن يضع نفسه محل الآخرين، ويستنتج ما هي الأمور التي تدفع هذا الشخص أو ذاك للإقدام على سلوك معين أو على التعبير على شيء معين. وحبذا لو كان هذا الأمر موجودا لدى كل المناضلين، لأنه من خصال المناضل الذي عليه أن يكون دائما إيجابيا ومتواضعا، وأن يضع نفسه مكان الآخر. هل هذا يتحقق مع الجميع ؟ الله أعلم، لأن نفس الإنسان لوامة، إن لم نقل شريرة، ولذا أسهر في كل يوم حين أستعد للنوم على أن أحاسب نفسي شيئا ما، من أجل إعادة النظر في وضعي وأوضاع الآخرين، وأرى الأخطاء التي قمت بها، وما أكثرها في اليوم، إزاء الأقارب، والناس الذين أتعامل معهم. يمكن أن تتحدث عن نموذج من تلك الهفوات؟ - يبدو لي أنني لم أكن قاسيا مع أبنائي، في حين أن ابنتي تؤاخذني، وتدعي أنني كنت قاسيا معها في حالات معينة. وأتذكر أنني ضربتها مرة واحدة، لما كانت طفلة، لأنها قامت بسلوك يستحق الضرب في تلك السن، وهي تنفي ذلك السلوك، وتضيف أنني كنت متعودا على ضربها. إنني اعتبر نفسي بريئا، وهنا أطرح السؤال: ما هي الذاكرة التي على صواب، هل ذاكرتي أم ذاكرتها؟ الله أعلم. لهذا، يجب على الإنسان أن يحاسب نفسه، ويراجع مواقفه باستمرار. بصفتكم حكيم التقدم والاشتراكية، ماذا ستعملون من أجل رأب الصدع بين جناحي الداعمين للمشاركة في الحكومة والرافضين، بقيادة سعيد السعدي؟ - أعتقد في هذا الباب أن الكل راشد، ولا حق لي في أن أتدخل لإسداء النصيحة أو الأخذ بيد أي كان. وأومن أن الإنسان يتحمل مسؤولية تبعات مواقفه، وليس معنى ذلك أنني قاس، لأنني لست بجماد، أبدا، وحبذا لو تمكنت من فعل بعض الأشياء في هذا الاتجاه، وأنا على استعداد لهذا الأمر، لكن لا أدري كيف. ويبقى أن للحزب قواعده وأجهزته، وهي التي تفصل في أي تباين في النظر، يمكن أن يحصل بين المناضلين. هل اتصل الرافضون للمشاركة بلجنة الرئاسة للتدخل؟ لا ، أبدا، لم يتصلوا بي، والاتصال الوحيد الذي كان هو من الجهة الأخرى، لكن القرار لا يعود لي لوحدي، فنحن 11 عضوا في مجلس الرئاسة. وهل ستتركون الأمر على ما هو عليه، خصوصا أنكم أنتم من اقترح سعيد السعدي لتحمل حقيبة الأسرة والتضامن في حكومة التناوب؟ - لا، لست أنا من اقترحه، بل الحزب، وأنا كنت فقط أبلغ القرارات، ولم أكن لوحدي، بل كان معي رفيقي وصديقي عمر الفاسي. فعلا، سعيد السعدي ليس مقتدرا، فقط، بل هو مناضل فذ وكفؤ، وكان عمله في الحكومة في المستوى المنتظر، وقام بواجبه، وكان عدد من أعضاء الحكومة يرونه في كفاءة وزير الميزانية أكثر من كاتب دولة أو وزير منتدب مكلف بشؤون الأسرة والتضامن، واستطاع أن يتألق في القطاع الذي تحمل فيه المسؤولية. بخصوص النقاش الدائر في الحزب بين من يناصر الدخول إلى الحكومة وبين الرافضين، فإن الحزب سيعمق النقاش في هذا الباب، في ظل الحفاظ على وحدته، والنقاش الدائر هو من فضائل الحياة الديمقراطية، التي تتقارع فيها الأفكار والآراء، والفصل يكون في تنظيمات اللجنة المركزية، التي قالت كلمتها في شأن المشاركة في الحكومة، أو المؤتمر، أو الندوة الوطنية، عند الاقتضاء. كيف كانت علاقتك مع الراحلين علي يعتة وشمعون ليفي؟ علاقتي بهذين الرفيقين كانت علاقة مودة واحترام، ويمكن أن أقول إن علاقتي بشمعون ليفي كانت أكثر حرارة وحميمية من علاقتي بعلي يعتة، أولا، لأن علي يعتة كان متقدما في السن مقارنة بي، وكان لي نوع من الحدود معه، أما شمعون، فهو أصغر بكثير من سي علي يعتة، وكان لنا منذ اللقاء الأول نوع من التجاذب الفوري والعاطفي بيننا. طبعا، كل واحد منهما كان له مزاجه، إذ إن الرفيق علي يعتة كان دائما متزنا، يسعى إلى أخذ الآراء بالتوفيق بين الجميع، والخضوع إلى آراء الأغلبية، وكان إنسانا يقدر الممارسة الديمقراطية والنقاش الديمقراطي داخل الحزب. أما شمعون، فكان أمره يختلف، لأنه كان شيئا ما مشاغبا بطبيعته، يقاطع الناس حين يتكلمون كي يدلي برأيه بشكل فوضوي، وهذا يجعل بعض الرفاق، في بعض الأحيان، يشمئزون منه، لكن كانت له خصال كبيرة جدا، تتمثل في القدرة على التحليل، وإدراك خبايا الأمور، التي تتحكم في المسير الوطني، وأسدى خدمات كثيرة للحزب. كان، كما نقول، قلبه كبيرا، وكانت لي معه تلقائية في التجاوب إلى أن وافته المنية رحمه الله. يلاحظ أن مجلة "الأزمنة الحديثة" التي تشرفون عليها تسعى على إبقاء لحمة الكتلة الديمقراطية مجتمعة، إلا أن الواقع يوضح عكس ذلك،هل من مبادرات في المستقبل لإعادة الروح إلى الكتلة؟ - الكتلة، كمعطى سياسي، هي الآن مبتورة وليست موجودة، والبتر بدأ، منذ إقصاء الحزب الاشتراكي الموحد عمليا، وهذا لا يعني أن الكتلة كفكرة انمحت، وحين نعود إلى الميثاق المؤسس لها، نلاحظ أن هناك عددا من الأشياء يجب أن نعمل على تحقيقها، ومازالت هناك حظوظ لانبعاث الكتلة بطرق أخرى، ليس بالضرورة بالطريقة الكلاسيكية، التي اعتمدناها.