قبل أن يمتطي وزير الخارجية السوفياتي، شيفر نادزة، الطائرة لمحاورة نظيره الأمريكي جيمس بيكر حول سقطة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في العراق في صيف 1990، كان علي يعتة، زعيم التقدم والاشتراكية الراحل، يصرح جهارا بأنه ضد الغزو العراقي للكويت. حدث ذلك في وقت لم يكن أحد من الزعامات السياسية يجهر برأيه الحقيقي. وقد كان علي يعتة من بين القلائل الذين تنبهوا إلى تداعيات نهاية الحرب الباردة، وانعطف بحزبه في اتجاه آخر أكثر واقعية ومرونة. الذين شاهدوا علي يعتة يُنَظِّرُ لأسباب انتكاسة حكومة التناوب لعام 1993، أدركوا أن الرجل وضع مسافة بينه وبين رفاقه في المعارضة (الاتحاد الاشتراكي والاستقلال) منذ ذلك الوقت، إلا أن خليفته إسماعيل العلوي اضطر إلى مجاراة «الكتلة الديمقراطية» لحيازة قطعة من الحلوى في حكومة عام 1998، ولو أن تلك القطعة انشطرت بينه وبين التهامي الخياري، الذي انشق عن الحزب الشيوعي «سابقا» وأسس جبهة القوى الديمقراطية. وقتذاك، بدا أن الحزب الصغير بدوره قابل لأن ينشطر أضعافا، فهو لم يدثر اليساريين الراديكاليين بعباءته، لأنه كان يختلف معهم، ولم يندمج مع منظمة العمل الديمقراطي، التي كانت أقرب إلى جوانب من طروحاته، لأنه كان يتمتع بشخصية عنيدة، لكنه اضطر للإذعان لمنطق التقسيم الذي لم يسلم منه أي حزب سياسي منذ استقلال البلاد. حدث مرة في ثمانينيات القرن الماضي أن ذهب علي يعتة إلى صديق يشتكي له من تصرف المستشار أحمد رضا كديرة، الذي كان أمر بوقف صحيفة الحزب. كان علي يعتة قد دبج افتتاحية نارية حول دوافع انتخاب النائب البرلماني يوحنا أوحنا أمينا للمال في البرلمان، ورد عليه المستشار المتنفذ بأن القانون يضع المغاربة سواسية، مسلمين كانوا أم يهودا. وحين التأم لقاء بين الزعيم والمستشار، قال يعتة: «نحن أيضا لنا يهود في الحزب» فضحك المستشار وحكى نكتة أضحكت علي يعتة، وقد خرج من فيلا في عين الذياب ومعه ترخيص بعودة صدور الجريدة. بعض المنظرين الأكثر تشددا لم يفهموا أبدا ما معنى وجود حزب شيوعي في نظام إسلامي ملكي، لكن يعتة الذي كان يبدأ بعض مداخلاته في البرلمان بالبسملة، كان يدافع عن موقع حزبه بالقول إنه حزب وطني قبل أن يكون شيوعيا. ويحكي بعض رفاقه أنه كان أكثر تفاؤلا بمسار التجربة، فقد سُئل يوما عن انتخابات 1984، فرد بعد أن سجل انتقاداته: مهما يكن فإن التقدم والاشتراكية رفع نسبة حضوره في البرلمان مائة في المائة. وكان ذلك يعني أنه لم يعد النائب الوحيد، وإنما انضاف إليه رفيقه إسماعيل العلوي. الآن يواجه التقدم والاشتراكية نفسه بعد غياب زعيمه التاريخي، في وقت انفتحت فيه الأبواب على صراعات الخلافات لفترة ما بعد إسماعيل العلوي، وإذا تأكد أن الأخير انسحب إلى مواقع مجلس الرئاسة أو غيره، فإن التقدم والاشتراكية سيدخل مرحلة ما بعد الزعامات التي أدارت الصراع مع الحكومات المتعاقبة ضمن الكتلة الديمقراطية. فقد انسحب محمد بوستة بعد المؤتمر الرابع عشر، ليترك المجال أمام خلفه عباس الفاسي، بعد أن فوت على نفسه وعلى الحزب فرصة تولي الوزارة الأولى في نهاية عام 1993. كما انسحب أو اضطر إلى الانسحاب محمد اليازغي، الذي كان حاضرا في مشاورات التسعينيات، وها هو اسم آخر يتوارى إلى الخلف، وتلك سنة الحياة على أي حال. غير أن هذا الحزب الذي رضي بالقسمة على نصيب فرض عليه، ظل يثير الزوابع، وليس أبعدها خطة النهوض بأوضاع المرأة التي وضعها الوزير سعيد السعدي وكادت تقسم المجتمع المغربي إلى نصفين. فيما لم يجد إسماعيل العلوي بدا من إقرار القطيعة مع تيارات إسلامية، من خلال كلامه الصريح عن رفض المزج بين السياسة والدين. وإنها لمفارقة أن يبقى التقدم والاشتراكية على نفس الخطاب، بعد أن عاين كيف أن أحد حلفائه في الكتلة الديمقراطية أقام تحالفا جمع الاتحاد الاشتراكي والعدالة والتنمية بعد انتخابات بلديات العام الماضي، خصوصا أن الاستقلال يجاهر بقربه من الحزب الإسلامي من حيث المرجعية، ولم يدخل معه في أي مواجهة، مما يعني أن الحزب الشيوعي يتبنى خطابا راديكاليا إزاء هذه القضية، بالرغم من أن أحد قيادييه، واسمه نبيل بنعبد الله، دفع ثمن مواجهته الإسلاميين في انتخابات تمارة، لكن الصورة ليست بهذه البساطة، فقد دلت تجارب على أن الشيوعيين والإسلاميين يمكن أن يتحالفوا مع بعضهم ثم ينقلب أحدهم على الطرف الآخر. والحال أن شيوعيي التقدم والاشتراكية ليسوا من هذا النوع، فهم يضعون رباطات عنق ويتحدثون بلغة ماركس، لكنهم أقرب إلى الواقعية التي بلورها مفكرون باسم الشيوعية الجديدة. وإذا كانت هذه التقليعة مكنت التقدم والاشتراكية من إيجاد مكان له تحت الشمس، على قياس معارك خاضها إلى جانب آخرين، فإن مشكلته لا تنفصل عن أوضاع أحزاب الكتلة الديمقراطية، التي توقفت عند تجربة التناوب لعام 1998، مع أن الشباب الذين كانت أعمارهم تقل عن عشر سنوات في ذلك الوقت، أصبحوا اليوم مؤهلين للإدلاء بأصواتهم في صناديق الاقتراع. ينضاف إلى ذلك أن هذه التجربة تكاد تكون استنفدت أغراضها، ومن غير الوارد أن تستمر إلا في إطار تجديد النخب والأفكار والمفاهيم وأساليب العمل كي تحافظ على بعض بريقها وتصون مرجعيتها. غير أن التقدم والاشتراكية، الذي كان ينفلت من عقال شركائه في الكتلة الديمقراطية، لم يعد هو نفسه قادرا على أن يصنع لنفسه إطارا مختلفا وصورة مختلفة، فقد مدد تجربته على قياس زعيمه التاريخي علي يعتة، يوم كان يقف إلى جانبه رجال أمثال الهادي مسواك وسيمون ليفي وعبد الله العياشي وعبد السلام بورقية وعبد العزيز بلال وغيرهم. وهو اليوم مهتم بأن يصوغ لوجوده معنى سياسيا مختلفا عبر مؤتمره الثامن، الذي بدأ هادئا وعلنيا كما لم تكن مؤتمرات أخرى.