فقدت الساحة الفنية المغربية، يوم الثلاثاء المنصرم، الفنانة التشكيلية المغربية المقيمة بألمانيا سعدية بيرو، التي وافتها المنية بالصويرة عن سن يناهز 47 سنة، بعد مرض مفاجئ. وجرى تشييع جثمانها في جو مهيب حضره فنانون ومثقفون مغاربة وأجانب، ومعارف الفقيدة وأقاربها.وتعد سعدية بيرو من بين الفنانين التشكيليين المغاربة، الذين اهتدوا إلى أسلوب صباغي خاص، فأعمالها تستجيب للمنزع التعبيري والتجريدي معا، وهي بذلك طبعت مسارها وهويتها الفنية العالمية، من خلال احتفائها بالأثر والذاكرة والهوية، كما اعترف العديد من النقاد الجماليين بفرادتها في تناولها مواضيع فنية تبرز حسها العالمي، وتنوعها الثقافي إلى جانب عمق انشغالها بكل ما هو جاد واستثنائي في الساحة الفنية المحلية والعالمية. أعمالها فيض من الألوان والأشياء، وفضاء من الجمال يظهر في تجلياته الصغرى والكبرى منطق الأشياء والكائنات، إذ تنشد من منجزها الصباغي مسلكا غنيا بتجربة فردية، طبعت المشهد النسوي في بعده التصويري. يقول عنها الناقد الجمالي محمد مهدي "في تجربة التشكيلية المغربية سعدية بيرو نستطيع مشاهدة ذلك الفيض الهائل من الطاقات الداخلية، التي تسعى للخروج من مكامنها لتعبر إلى سطح العمل الفني كي تنتشر خلاله، ومن ثمة تستحيل إلى علاقات تشكيلية قادرة على إحداث الدهشة، وأيضا، إثارة عدد من التساؤلات الملحة التي تستوجب نظرات تأملية عميقة تستهدف في مجملها العثور على الصائب من الأجوبة، التي تعطينا بدورها ملامح أساسية جدا عن مكنونات تلك الأعمال شديدة التنوع والثراء". رأت الراحلة سعيدة بيرو النور بمدينة الصويرة، سنة 1963، في بيت يفتقر لوجود الكتب والتلفاز، على حد قولها، فحرمت من المعرفة المكتوبة والمرئية، إلا أن والديها في المقابل كانا يزودانها بالمعرفة والثقافة الشفوية، من خلال القصص والأساطير الأمازيغية، التي كانا يحكيانها لها ولإخوتها، فتثير خيالها وتخلق لديها رغبة في رسم شخوص تلك الأساطير وأحداثها الخرافية. قضت سعدية ما يقارب أربع سنوات في "الكتاب"، حيث كانت تنقل الآيات القرآنية على ألواح خشبية بالخط المغربي، دون أن تفهم معاني الآيات، وفي ما بعد التحقت بالمدرسة وتمكنت من الحصول على أقلام وأوراق وطباشير وألواح فرسمت كل ما كان يدور برأسها وزينت كراسات المحفوظات الشعرية، ما أثار الإعجاب بها وبرسومها المختلفة. كانت الفتاة الصغيرة الولعة بالرسم تحب دخول "المنسج" مع أختيها الكبيرتين اللتين كانتا تجيدان نسج الزرابي المغربية التقليدية، فوقعت عيناها على الألوان، وتعايشت مع كل ما كان يدور حولها في المنسج من طقوس، بداية من غزل الصوف وصبغه، وصولا إلى نسجه بألوان زاهية، على شكل رموز، وأشكال هندسية بديعة. استرعت انتباهها الحسابات الدقيقة، في تشكيل الرموز والأشكال، التي اعتبرتها عالما سحريا دفعها إلى طرح تساؤلات عدة لم تحصل على أجوبة لها حينذاك، منها ما يتعلق بالرموز والعلامات والأشكال الهندسية الخاصة بعالم الحيوان والطبيعة. وسط هذه التساؤلات المحيرة، بدأت سعدية تقتني العديد من الكتب المستعملة، التي استطاعت من خلالها اكتشاف شيء جديد اسمه الفن التشكيلي، والتعرف على عدد من رواده، لتبدأ في ترجمة أخيلتها وأحاسيسها ومعاناتها، إضافة إلى تحويل الأفكار الفلسفية التي تأثرت بها إلى رسومات، يمكن القول إنها كانت فطرية تبعد عن القواعد الأكاديمية كالمنظور، والظل والنور، ومراعاة النسب وغيرها، وتعتمد في إنجازها على كل ما أتيح لها من أدوات، بحيث أنها لم تعد تكتفي برسم أو تزيين ما تقرأه، أو ما يحكى لها عنه فقط. انخرطت سعدية مبكرا في عالم الأدب والثقافة، كما دشنت تجربتها الصباغية، في عام 1980 في معرض جماعي أقامته إحدى الجمعيات الثقافية بالصويرة، وبعد ذلك بثلاث سنوات أقامت معرضها الفردي الأول بدعم من الجمعية نفسها، واحتفي بها وبفنها عدد مهم من المهتمين بالرسم، ما جعلها تتجه للتشكيل بجدية كبيرة، واستمرت في عرض أعمالها بثانوية "أكنسوس" وثانوية "المزرعة" ثانوية محمد الخامس حاليا. بعد حصولها على شهادة الباكالوريا، اتجهت الفنانة إلى مدينة أكادير، لاستكمال دراستها الجامعية في العلوم البيولوجية والجيولوجية بجامعة ابن زهر، التي تخرجت منها عام 1986، لتحط الرحال في فرنسا، وتحديدا بستراسبورغ لدراسة فنون الديكور، لتلتحق بعدها بمدرسة الفنون الجميلة ب"مولوز"، بفرنسا بين عامي 1987- 1989، لتعود إلى المغرب سنة 1990 لاستكمال دراستها في مدرسة الفنون الجميلة بتطوان، حيث عمقت تجربتها الصباغية بأبحاثها حول التراث البصري العربي الأمازيغي، وحول الرموز الكونية. كان الموضوع الأثير في لوحاتها في تلك الأثناء تصوير المرأة الصويرية بلحافها الأبيض ولثامها الأسود كرمز للمرأة بصفة عامة، إضافة إلى موضوعات قومية كالقضية الفلسطينية، وموضوعات محلية مستقاة من مسقط رأسها الصويرة، التي افتتنت بها الراحلة كثيرا، ورأت فيها تلك البلدة الرحبة، التي صاغت جانبا أساسيا وكبيرا من شخصيتها على المستويين الإنساني والفني، لغنى موروثها الشعبي والحضاري العميق، واصفة إياها في لقاء سابق مع "المغربية" "إنها مدينة جميلة بهندستها وبساطتها، كل شيء فيها يدفعك إلى التأمل ويشعرك بالحرية والتقييد في آن واحد.. الجو المتقلب بين صفاء هادئ ورياح عاتية.. البحر يحيطها من ثلاث جهات وهو متنفس وحاجز.. المدينة العتيقة بأسواقها وأسوارها.. طبيعتها المجردة بين رمال الشطآن وزرقة البحر المتحدة بزرقة السماء.. زرقة قد تبتلع بصرك أو تنثر في عيونك نجوم كماسات لا تحصي". وطدت سعدية بيرو علاقتها بحركة التشكيل المغربية منذ عام 1983، وهو العام الذي أقامت فيه معرضها الفردي الأول، وبعد هذا وبداية من عام1991 أقامت الفنانة عددا كبيرا من المعارض الفردية، كما شاركت في العديد من المعارض الجماعية والملتقيات الثقافية والفنية المختلفة في كل من المغرب، والصين وألمانيا، والنمسا، وفرنسا، وليتوانيا، واليونان، وغيرها، من الأقطار الأوربية المختلفة، التي عثرت الراحلة فيها على أنماط حياتية مختلفة، واصطدمت بثقافات منفتحة ورأت بعينيها أعمال كبار التشكيليين العالميين من مختلف العصور. وبعد سنوات من الترحال الدائم بين مختلف العواصم الأوروبية، انتقلت الراحلة مرة أخرى للعيش في الصويرة التي تحبها بجنون، وفي قرية تبعد عنها بعشرة كيلومترات، اعتكفت الفنانة في شبه عزلة بمرسمها حتى وفاتها، تقرأ وتتأمل ذاتها مستعينة بمعايشة الطبيعة من حولها في محاولة الإجابة، عن أسئلة طالما أرقتها، فتجردت أعمالها من الشكل واكتسبت طابعا تأمليا يبحث في الجوهر المشترك بين الأشخاص والأشياء، وهي وقفة تنفي أنها فلسفية وتراها تحليلا ومواجهة لمتناقضات الذات، لتتحول أعمالها، حسب الناقد الجمالي المغربي عبد الرحمان بنحمزة، إلى "مرايا تعكس بشفافية صادقة بعضا من الأسرار الروحية، التي تعتمل داخلها، وهي التي رضخت بكل حواسها ومشاعرها المتأججة لسطوة التشكيل وهيمنته، فراحت بوعي أحيانا، وبلا وعي أحيانا أخرى، تكشف عن مساحات كبيرة من العوالم الغرائبية، والأحلام، والهواجس التي سكنتها".