فتحت فرنسا ابواب محاكمها للطبقة السياسية ، وأصبحت بلاد شارل دوغول تعيش على إيقاع وزراء ووزراء أوائل ورؤساء أمام القضاء. ولم تكن وراء المحاكمات الصاخبة سوى قضايا تهم التدبير العام أو قضايا سياسية ذات علاقة بالنزاهة الاخلاقية والمسؤولية في التسيير . رئيس سابق ووزير أول ووزير داخلية في قفص الاتهام، وما زالت القضايا التي يتابعون بسببها حية، في الذاكرة وفي الوقت، ومازال كل المعنيين بها أحياء. الرئيس الفرنسي جاك شيراك، الذي أعطى نفسا جديدا للديغولية، ولقي عطف العرب في العديد من القضايا العربية، صديقنا الكبير، وقف أمام القاضي لكي يجيب عن الموظفين الاشباح!. شيراك، كأي جانح في جمهورية الثلاثية الخالدة: حرية، مساواة عدالة، لن يعلل ما يقع بأنه تصفية حساب من طرف السلطة، بل سيدافع بما يجب أن يدافع به، ولن يبحث آخرون عن نظرية المؤامرة لوقوفه أمام العدالة. تهمة جاك شيراك هي اختلاس أموال عامة، بعد أن تم اتهامه بتوظيف موظفين أشباح!! في الواقع يصعب علي أن أواصل الحديث بدون أن أبتسم من التهمة، ومن الرجل الواقف بسببها أمام القضاء. ( فعندنا يمكن للواحد يدير الاشباح اللي ابغا، مالو!). القضية برمتها تثبت شيئا واحدا هو أن الدولة يمكن أن تسمح في حقها الخاص ، لكن لا يمكنها أن تسمح في حق المال العام، اذ أن الرئيس يتابع بالفعل بسبب قضية تعود الى سنوات رئاسته لعمودية باريز! هي المرة الأولى في قضية رئيس دولة ، أدركته قضايا تعود الى زمن سياسي وانتخابي يقل بكثير عن زمانه الذي جاء بعده، أي زمن الرئاسة. وهكذا يثبت فرنسيا بأنه لا بد له من أن يدفع ثمن الصناديق المكسرة ، وأن الرئاسة لا تجبّ ما بعدها وأن القانون فوق الجميع.. كيفما كانت الاحكام ، سنتذكر دوما بأن رئيس الدولة الفرنسية وقف أمام القضاء في قضية تعود الى زمن....البلدية! والغريب حقا أن الوظائف برمتها لا تتجاوز 40 وظيفة وهمية!! وعلينا أن نبحث، من أصغر بلدية الى اكبر وزارة ، كم من الاشباح يتجولون في جيوب المواطنين دافعي الضرائب، ويسرقون المال العام دون أن يتم اكتشافهم. وللحقيقة فالاشباح موجودون حتى حيث لا نعتقد! والغريب أنه في فرنسا يمكن أن تحاكم رئيسا على الموظفين الأشباح، في حين أنك قد تجد في بلادنا موظفين أشباح هم الذين يحاكمونك!! يجد المتتبع، من بين المتهمين أبناء ذوات، كما قد يجد مواطنين بسطاء من حزب الرئيس آنذاك، ولكن على كل يبقى أن القضاء يشتغل عن طريق النيابة العامة وممثليها. قبل هذا اليوم ، كان شارل باسكوا، صديق ادريس البصري أيام الراحل الحسن الثاني قد سمع بأذنيه الفطنتين حكم المحكمة وهي تدينه في قضية انغولاغيت، أو فضيحة انغولا غيت. في هذه القضية المتعلقة ببيع أسلحة الى انغولا في التسعينات، حكم على وزير الداخلية الاسبق شارل باسكوا، أحد المقربين من شيراك، بالسجن عاما واحدا مع التنفيذ. في القضية أيضا فصل من المغرب، فقد ذكرت الاسبوعية الفرنسية «لكسبريس» في سياق عرضها لكرونولوجيا الاحداث ، أنه في نونبر 1999، تم تسليم القطب الاقتصادي والمالي للنيابة العامة بباريس، ملف قضية تبييض أموال بين فرنسا والمغرب ، وتبين من التحقيق مع المحامي في قضايا الضرائب ألان غيو أن الامر يتعلق بخيانة الامانة والتبييض. وعلى كل، فقد عرف الفرنسيون الجانب المتعلق بهم في قضية التبييض بين المغرب وفرنسا، ولم نعرف نحن الجانب المتعلق بنا. وقد نعرفه لاحقا وقد لا نعرفه... واللهم بيّض وجوهنا يوم تسودّ وجوه، ولا تبيض اموال من نحب يا أرحم الراحمين( ولاتكحلها كذلك يا رب العالمين، إن وجدت ). وما بين الرئيس ووزير داخليته، جاءت قضية «كلير ستيم» التي مست الوزير الاول والشاعر دوفيلبان. وقد اتخذت طابع مواجهة بين الرئيس نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء السابق دومينيك دو فيلبان. وفور إعلان إحالة القضية الى المحكمة، قال شيراك انه «يخضع للقضاء مثل الآخرين». ولم يتباكى على استهدافه من طرف خصومه أو من طرف خلايا رهيبة تعمل في الظلام من أجله. خصومه الاشتراكيون قالوا عكس ذلك، وهم يحللون المسألة من زاوية صورة البلاد وصورة عدالتها، وقال الحزب الاشتراكي إن «مثول رئيس دولة سابق أمام المحكمة في قضية وظائف وهمية، لايعطي أفضل صورة ممكنة» عن فرنسا. وفي كل الاحوال، لم تسقط قلاع ولم ينهر سقف من القيم، والاساس أن فرنسا ستخرج قوية بقضائها وعدالتها، والطبقة السياسية ستستنتج الخلاصات التي عليها أن تستنتجها دون تراشق بوهيمي على أسوار البلاد.