سنحاول، عبر حلقات يومية، أن نرافق هنا قصة امرأة مغربية استثنائية، إسمها ثريا الشاوي.. ولمن لا يعرف ثريا الشاوي، فإنها كانت وعدا مغربيا جميلا، ومثالا مشرفا للمرأة المغربية، كونها كانت أول طيارة مغربية في زمن كانت حتى الطيارات الأروبيات والأمريكيات واليابانيات قليلات جدا، بل تعد على رؤوس أصابع اليد الواحدة. هي عنوان اعتزاز لكل مغربي، وإذ نستعيد ذاكرتها اليوم فإنما نستعيد جوانب مشرقة من ذاكرة المغاربة الجماعية. ورغم أنها قتلت في أول سنة للإستقلال، في واحدة من أبشع الجرائم السياسية في المغرب، فإنها بقيت خالدة، وطوى النسيان قتلتها. إننا سوف نرافق قصة حياتها، كما صدرت في كتاب جديد للأستاذ عبد الحق المريني مدير التشريفات والأوسمة، أصدرته مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث، بعد أن كان يعتقد أنه وثيقة ضاعت إلى الأبد، كون الطبعة الأولى للكتاب صدرت سنة 1956، باسم مستعار لشاب مغربي وطني طموح، هو الأستاذ عبد الحق المريني.. هي قصة أخرى لعنوان من عناوين الشرف في هذه البلاد، نسعد أن نقدمها للناس وللأجيال الجديدة.. كانت الأسابيع التي تلت حصول الشهيدة ثريا الشاوي، على شهادة الطيران، سنة 1951، قد عرفت وصول سيل من الرسائل والبرقيات المهنئة بذلك النجاح، والمعتزة بالصدى الذي بلغه الأمر مغربيا، عربيا ودوليا. ولعل من بين كم الرسائل التي وصلت إلى بيت الشهيدة، تمة رسائل ذات معنى وقيمة خاصة. نذكر منها رسالة للبطل محمد بن عبد الكريم الخطابي، زعيم ثورة الريف بالشمال المغربي ضد الإستعمار الإسباني، الذي مرغ هيبة الجيش الإسباني في وحل معركة أنوال أيام 21 - 26 يوليوز 1921، حين تمكن مت الإنتصار عليه وقتل اآلف من الجنود الإسبان وما لا حصر له من الضباط وصف طويل من الجنرالات.. لقد جاءتها رسالة البطل الأسطورة بن عبد الكريم الخطابي على عنوانها الشخصي والعائلي ب 50 شارع بويمرو بالدارالبيضاء، قادمة من القاهرة، وهي رسالة تلغرام سريعة تقول بالحرف: « علمت بكامل السرور أنك أصبحت الطيارة المغربية الأولى.. أتمنى أن تكوني قدوة للآخرين.. إليك تهانئي القلبية .. عبد الكريم الخطابي ». وكذا رسالة من مدير الديوان الملكي بتونس مؤرخة ب 13 أبريل 1951 ( عدد 38 )، يقول نصها : « الفائزة السيدة ثريا الشاوي صانها الله وقرن سعيها الحميد بإكليل من النجاح. بعد السلام، فقد بلغت صاحب الجلالة الملك المعظم النبأ المشرف بنجاحك في ميدان الطيران وكنت أول من طرق هذا الميدان السامي من بنات إفريقيا الشمالية، فابتهج بذلك صاحب الجلالة غاية الإبتهاج وآذنني أبقاه الله، بإبلاغك تهانيه والدعاء لك باطراد الفوز وكمال النجاح ودمت رمزا للجرأة والنبل وفخرا لبنات إفريقيا الشمالية».. وكذا رسائل من رئيسات الإتحاد النسوي الجزائري والإتحاد النسوي التونسي. وهي بعض من الوثائق المصورة التي يتضمنها كتاب الأستاذ عبد الحق المريني، مما يجعله مرجعا هاما في رسم معالم خصوصيات حياة الشهيدة ثريا الشاوي. كما يتضمن من بين الوثائق المصورة، الإذن الرسمي للملك الوطني محمد الخامس لثريا الشاوي بالتحليق فوق القصر الملكي بالرباط، بمناسبة عيد العرش لسنة 1951، والذي يصادف يوم 18 نونبر من كل عام. ومما كتبه الأستاذ المريني، في هذا الباب، أنه « في يوم 18 نونبر 1951 صباح عيد العرش، حلقت ثريا فوق القصر الملكي بإذن خاص من جلالة الملك. فحملت معها الآلاف من التهاني، وأمطرتها على القصر العامر. ولكنها لم تكن مرتدية لبستها الصوفية حين تحليقها في علو 800 متر، ولم تعر بالا لنافذة الطائرة المفتوحة، ولا للتيار الهوائي الشديد. فلما نزلت الى اليابسة كانت ترتعش من شدة البرد، حتى صارت كأنها قطعة من الثلج. وبعد ان دفئت شيئا ما، حملت الى الدارالبيضاء ودخلت الى الفحص الطبي، فوجدها الدكتور شينبو مشرفة على الهلاك، فعولجت في مستشفى كولومباني مدة شهرين ومن هناك أخذها والدها بالطائرة الى القطر السويسري وأدخلها مصحة السنتوريوم الشهيرة التي توجد على جبل يعلو ب 3800 متر حتى شفيت من الداء المعدي، الذي أصابها في رئتيها». فكان أن عولجت الشهيدة ثريا الشاوي لأسابيع بضواحي مدينة لوزان السويسرية، التي حملها إليها والدها بتوصية من الأطباء الفرنسيين بالدارالبيضاء. ووما يخبرنا به الكتاب - الوثيقة، أنه « ولما بدأت أمارات الشفاء تظهر على ثريا سمح لها بالتنقل في ضواحي المستشفى. فاتصلت بشخصيات بارزة منها شاه إيران، قبل اعتلائه العرش الايراني، وفتيات شرقيات، وأوربيات تجاذبت معهن كثيرا أطراف الحديث السياسي، وشرحت لهن حالة المغرب الذي كان يوجد عليها، ووصفت لهن مراحل كفاحه ودافعت عن حقوقه وكيانه. وفي يوم مغادرتها المصحة، أقامت لها صديقاتها الفتيات حفلة بمناسبة شفائها، ومما يجمل به اهلذكر أن مولانا الملك الهمام، أرسل رسالة توصية بثريا الى الاختصاصي في داء الصدر، الدكتور طوبى أحد أطباء المصحة السويسرية» بعد تماثلها للشفاء، استغلت الشهيدة ثريا الشاوي مرورها بعدد من الدول الأروبية، فقامت بعدد من الإتصالات مع جهات نافذة في مجالات متعددة، من أجل الدفاع عن القضية المغربية. وحول هذه الإتصالات، نقرأ في الصفحة 110 من الكتاب: « عندما عودتها من القطر السويسري، قامت ثريا برحلة عبر فرنسا وإيطاليا وبلجيكا و بريطانيا واسبانيا. وكانت تتصل بالأندية النسوية، وخصوصا منها أندية العرب القاطنين بالقطر. فكانت تتحدث إليهم عن كفاح الافريقيين [ الشماليين ]، في سبيل العزة والكرامة، وما يعانونه من مكر الغزاة، ونهب الطغاة، وما قام به ويقوم به جلالة الملك المعظم محمد الخامس، في سبيل نهضة البلاد، وتحررها من الاستعمار وأذنابه، فوجدت أذنا صاغية من الأحرار، وطار لها صيت التفتت إليه الأنظار. ولما حلت بالعاصمة الفرنسية استدعاها «الكولونيل الخمار» خليفة رئيس الجمعية العامة للاتحاد الفرنسي، باسم الهيئة لتناول طعام الغذاء في قصر فرساي، ولكن رفضت الدعوة وقالت له: «إنني أتأسف عن عدم تنفيذ الرغبة، لأنني فتاة من بلاد مغربية عربية، من بلاد ذات سيادة وكيان عرش مجيد. إني لا أقبل أي مقابلة مع جمعية الإتحاد الفرنسي، وهدفي من زيارة باريز هو التمتع بمناظرها الطبيعية، والاستفادة من آثارها الخالدة. فتأثر «الكولونيل الخمار» من صراحتها، واستدعاها بإسمه مع عائلتها. وعند تناول طعام الغداء بقصر فرساي، تجاذبا أطراف الحديث، حتى طرقا موضوع الأزمة الواقعة بين القصر والاقامة. وهنا صرحت ثريا قائلة له:«إن المغرب قد استقل استقلالا تاما، في اللحظة التي تقدم فيها جوان إلى جلالة الملك، وحاول إلزام جلالته على توقيع البروتكول أو التنازل عن العرش. هنا شعر الملك، والشعب بالخطر الذي يهدد العرش، والجالس على أريكته فشمرا عن ساعد الجد، واستعدا لمقاومة العدوان. وكلما شعرت أمة بالخطر، وقامت لمواجهة هذا الخطر إلا وكان النجاح حليفها، وتوج كفاحها بالنصر المبين. انتظر أيها الكولونيل، فكل آت قريب والأيام حبالى، لاندري ماذا تلد». فاستغرب الكولونيل من تنبؤات الفتاة، وإيمانها بمستقبل وطنها. ولما عادت ثريا إلى وطنها، استأنفت دعايتها لصالح الأمة المغربية، في نشر المبادئ الوطنية، والتشبث بروح الحرية والاستقلال. فجالت النواحي البربرية، المجاورة لمدينة أزرو، وقامت باجتماعات نسوية، وشرحت للمعجبات بها كل ما يتطلبه الوطن، من الذود عن حوض كرامته، فقلقت إدارة الناحية من «استفزازات» الفتاة، فقررت حراستها، وتتبع خطواتها وتنقلاتها. ولكن ثريا لم تتقهقر أمام مناروات الاستعمار، فاستأنفت نشاطها بكل جد، حتى شعرت بأنه سيلقى عليها القبض، فهجرت الاطلس وقصدت الدارالبيضاء، وتابعت جولتها في ناحية الصويرة وأكادير وتيزنيت ناشرة المبادئ السامية وداعية للإصلاح القومي في الأوساط النسوية وأوكارها». ٭ غدا: بقية الحكاية