سنحاول، عبر حلقات يومية، أن نرافق هنا قصة امرأة مغربية استثنائية، إسمها ثريا الشاوي.. ولمن لا يعرف ثريا الشاوي، فإنها كانت وعدا مغربيا جميلا، ومثالا مشرفا للمرأة المغربية، كونها كانت أول طيارة مغربية في زمن كانت حتى الطيارات الأروبيات والأمريكيات واليابانيات قليلات جدا، بل تعد على رؤوس أصابع اليد الواحدة. هي عنوان اعتزاز لكل مغربي، وإذ نستعيد ذاكرتها اليوم فإنما نستعيد جوانب مشرقة من ذاكرة المغاربة الجماعية. ورغم أنها قتلت في أول سنة للإستقلال، في واحدة من أبشع الجرائم السياسية في المغرب، فإنها بقيت خالدة، وطوى النسيان قتلتها. إننا سوف نرافق قصة حياتها، كما صدرت في كتاب جديد للأستاذ عبد الحق المريني مدير التشريفات والأوسمة، أصدرته مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث، بعد أن كان يعتقد أنه وثيقة ضاعت إلى الأبد، كون الطبعة الأولى للكتاب صدرت سنة 1956، باسم مستعار لشاب مغربي وطني طموح، هو الأستاذ عبد الحق المريني.. هي قصة أخرى لعنوان من عناوين الشرف في هذه البلاد، نسعد أن نقدمها للناس وللأجيال الجديدة.. حين نسمع اليوم عن ثريا الشاوي، ونسمع أنها أول طيارة بالمغرب، بل بكل بلدان إفريقيا عدا مصر، التي كانت لها فتاة مارست الطيران الحر في نفس السنة التي بدأت فيها ثريا الشاوي التحليق.. ثم حين نسمع أنه تم اغتيالها يوم فاتح مارس 1956، من قبل مجموعة أحمد الطويل، التي كان الملك الوطني محمد الخامس، جد حانق عليها، واستدعى الراحل محمد الفقيه البصري، بسبب موقعه القيادي في حركة المقاومة ( كان هو الذي يلقي كلمة المقاومة مباشرة بعد كلمة الملك الراحل رحمه الله )، ليعبر عن قلقه وغضبه من مجموعة تحسب على المقاومة وتقوم بترويع الناس وسرقتهم وتنفيذ عدد من الإغتيالات، وأجابه الفقيه البصري أن أحمد الطويل ليس سوى لص ورئيس عصابة، وأن لا علاقة له قط بالمقاومة ولا بجيش التحرير، فكان أن صدر الأمر باعتقاله، وهي العملية التي تمت خلالها مواجهة بالأسلحة انتهت بقتله ومن معه.. إذن، حين نسمع ذلك كله، نعتقد في خيالنا العام أن ثريا الشاوي كانت امرأة يافعة، مثل العديد من نساءنا اليوم اللواتي أكملن دراساتهن في أواسط العشرينات من عمرهن.. لكن، الحقيقة، أن ثريا الشاوي ظاهرة فريدة، لأنه تم اغتيالها وعمرها لا يتجاوز 19 سنة، نعم 19 سنة فقط، فهي قد ولدت يوم 14 دجنبر 1937، واغتيلت يوم 1 مارس 1956. بمعنى أنها في تلك السن المبكرة جدا، أصبحت ربانة طائرة ( في تفصيل قادم سوف نقف عند قيادتها طائرة إسبانية كبيرة بركابها، من إسبانيا إلى المغرب ).. متى تعلمت، كم كان سنها حين ولجت مدرسة الطيران ب « تيط مليل » بالدارالبيضاء؟! الجواب، هو أنها بدأت تعلم الطيران في سن 16 سنة من عمرها، وهي سن جد مبكرة بالنسبة لتعلم الطيران، فأحرى بالنسبة لفتاة مغربية في سنة 1952- 1953. إن ذلك، إنما يترجم قوة الإنطلاق التي كانت تميز الجيل الذي تنتمي إليه ثريا ووالدها عبد الواحد الشاوي، الذي كان راعيها وسندها الكبير. وهي قوة جيل، خدلتها الأيام في ما بعد، إلى الحد الذي يجعل الواحد منا يتساءل: أليس العطب المغربي اليوم، اجتماعيا وسلوكيا، إنما نتيجة لذلك العطب الذي عطل ذلك الإنطلاق وفرمله؟!.. هو سؤال.. سؤال متروك للتاريخ والدارسين السوسيولوجيين. وحين أتوقف عند التفاصيل الغنية، والهامة التي يوفرها لنا كتاب الأستاذ الأديب عبد الحق المريني، والذي أنقدها من التلف والنسيان ( ضمنها أرشيف هائل وغني للصور )، أستحضر تفاصيل نساء مغربيات أخريات، خرجن إلى الحياة في ذات الفترة من الزمن، وسجلن حضورا لافتا للمرأة المغربية في ميادين عدة للحياة. ولقد سعدت أن أمطت اللثام عن حياة واحدة منهم، هي الحاجة فاطمة التهامي، التي تعتبر أول امرأة مولدة بالمغرب، تخرجت من كليات الطب بالجزائر العاصمة وفرنسا سنة 1948، واستقبلها الملك الوطني الراحل محمد الخامس، وكانت حياتها ( ولاتزال في عمرها المديد ) حياة كفاح. كفاح امرأة، درست في المدرسة الإيطالية بالدارالبيضاء، وهي من سلالة قبائل أولاد حدو الأمازيغ المحيطين بالدارالبيضاء، حيث تعتبر من أول المغربيات اللواتي سافرن لوحدهن في القطار إلى الجزائروفرنسا للدراسة في أواسط الأربعينات من القرن العشرين، ونجحن.. بالتالي، فإن ثريا الشاوي، هي مثال لجيل من الفتيات المغربيات، المنطلقات، المقاومات، من أجل العلم ومن أجل اكتساب المكانة اللائقة في سلم القيم بالمغرب الجديد، الذي كان يُصنع آنذاك.. المغرب الذي كان مجتمعا ناهضا بقوة، من أجل ربح الزمن الضائع في الحضارة والتقدم والنماء. ومبعث الإعتزاز اليوم بذلك الجيل، أنه يجعلنا نستعيد صورا مشرقة للمرأة المغربية، كم أسئ إليها اليوم بسبب نوعية الأخبار التي أصبحت تملأ صفحات الجرائد أو قنوات التلفزيون.. لقد كانت في هذه البلاد، ولا تزال نساء مغربيات فاضلات، شريفات، مقاومات من أجل الكرامة والتقدم والعطاء الجميل. وكم يطول صف الفنانات، والمسرحيات، والمربيات، والطبيبات والمحاميات والقاضيات ونساء الأمن والعالمات في مجالات العلوم الدقيقة والأستاذات الجامعيات وغيرهن كثير.. فهن سلالة ثريا الشاوي وجيلها، رمزيا، بشكل من الأشكال. في سن 16 سنة قاومت ثريا الشاوي من أجل تعلم الطيران، في فضاء فرنسي عنصري، كان لا يقبل بأن يتعلم مغربي فن الطيران، فأحرى أن تتعلم فتاة مغربية ذلك الفن. وفي التفاصيل التي يقدمها لنا الأستاذ عبد الحق المريني، في الصفحة 19 من كتابه، ما يعتبر وثيقة تاريخية هامة عن حجم وطبيعة تلك المقاومة وذلك التحدي، الذي يترجم طبيعة البناء النفسي لسيدة مغربية، لفتاة مغربية، مثل ثريا الشاوي. لنقرأ، ولنتأمل: « (...) في اليوم الذي حلت بالمدرسة [ مدرسة الطيران ب « تيط مليل » ]، كانت عرضة لإستهزاء التلاميذ وبعض المسيرين لصغر سنها من ناحية، ولأنها فتاة مسلمة مغربية من ناحية أخرى. لكن بقوة إرادتها واستقامتها، استطاعت أن تتغلب على جميع العراقيل، وتقدمت إلى الميدان بنشاط نادر المثال، في صمت وهدوء. وعندما أجري الإمتحان الشهري الأول، كانت ثريا تحتل مقعد الدرجة الأولى بالنسبة لواحد وأربعين تلميذا فرنسيا. فكان للنتيجة دوي في جميع أركان المدرسة، وأثار ضجة كبرى، استغرب لها الأساتذة، وتقهقر أمامها التلاميذ وعز عليهم أن يتركوا الميدان للفتاة المسلمة المغربية، البالغة من العمر السادسة عشر، التي أصبحت المثال الأعلى في الذكاء والنبوغ والإرادة القوية. ثم انقلب استهزاء التلاميذ حسدا، وبغضا وحنقا. وكانت النتيجة أن صار التلاميذ كلما سنحت لهم فرصة النيل من ثريا ، وجهوا لها ولأمتها من السب ما يعتقدون أنه سيطفئ نار الحسد المتأججة في صدورهم، أو على الأقل سيكون السبب الوحيد لطرد ثريا من حظيرة المدرسة، إن قابلتهم بالمثل. ولكن، جعلت من نفسها أذنا صماء لا تسمع، وجاهلة لا تفهم ما يقال، إلا أنها كانت تتحدث مع حراس المدرسة المغاربة، وتبعت فيهم الروح الوطنية، وتنير أفكارهم بمعلومات وطنية هامة، كانوا يجهلونها. فوصل الخبر إلى المجلس الأعلى للمدرسة، فاغتنم الفرصة واجتمع من أجلها وعزم على طردها، لأنها تشوش الأفكار وتعمل ولا شك في حظيرة حزب الإستقلال. لكن واحدا من أساتذتها، إسباني الجنسية، هو الكمندار « نوكيرا »، الذي كان يعمل في المدرسة، وجدت فيه ثريا عطفا كبيرا لأفكاره الحرة. فأبلغ قرار المجلس الإداري إلى أبيها على وجه السرعة. فاستدعى والدها السيدة « مارتان » زوجة موسيو « مارتان » الكاتب العام للمجلس الإداري، والصديقة لوالدة الشهيدة ثريا، التي ذاقت بدورها مرارة الإستعمار في بلادها. [ المقصود مرارة الإحتلال النازي لهتلر لباريس وفرنسا - المحرر الصحفي - ]. فاستعطفتها في التأثير على زوجها ليرجع المجلس الإداري عن قراره. وفعلا أثرت على زوجها، ودافع موسيو « مارتان » عن ثريا أمام المجلس في ساعة صدور القرار. وقال: « يجب علينا أن لا نطرد هاته الفتاة من الناحية السياسية. فوجود هاته الفتاة في هذه المدرسة دليل على ما تبديه فرنسا من معونة للمغاربة، وإن الأجنحة الشريفة ليكون لها الشرف أن تتخرج على يدها فتاة مغربية طيارة». فرجع المجلس عن غيه، وبقيت ثريا تتابع دروسها رغم أنف أبي ذر [ هذا تعبير أدبي كلاسيكي، يمجد للموقف الشجاع لأي امرء في الحياة. وهو يستعيد ذكرى صلابة الصحابي المسلم أبي ذر الغفاري الشهيرة في تاريخ الإسلام الأول - المحرر الصحفي - ]. ورغم هذا كله، فإن الأساتذة الفرنسيين كانوا يقومون بمماطلات، ولن يسمحوا لها بعد بالتحليق وحدها، ليعجز والدها عن المضي في أداء الواجب. [ كلما طالت مدة الدراسة بدون طيران كلما كانت الفاتورة الشهرية أعلى وأشد على ميزانية الوالد المحرر الصحفي - ]. ولكن، من حسن حظ المرحومة، كان أستاذها الثاني، هو الإسباني الذي كان يعطف عليها، فلطالما قال للأستاذ الفرنسي بأن الواجب يقضي عليهم أن يخلصا لمهنتهما، فيأذنا للفتاة أن تتقدم لتحرز على شهادة البروفي »..