قديماً قيل: إن الجنون فنون. لكن الآن لايبدو أن الجنون بات فناً، مادمنا قد عشنا حتى رأينا البقر يجن، وحينما يجن الحيوان فلا فن يكون هناك، لأن الفن إنساني دائماً، فإن أبدع حيوان في السيرك أو في الحلقة أو في السينما، فلأن خلفه إنساناً أبداً. الآن، وبعد جنون البقر، أمست كل أنواع الجنون مباحة، ومن يتأمل الشوارع المغربية هذه الأيام يستطيع بيسر أن يرى هذه الشوارع وقد جُنت وخرجت عن أطوارها وطروطواراتها أيضا، بعد أن كانت هذه الشوارع تمشي وفق الشرائع والقوانين، وكان الشارع مُشرِّعاً ونهجاً وطريقا مستقيما وجادة صواب، وكان من سار على الدرب أو الزنقة أو الشارع يصل. أما الآن فأرواح الماشين بيد الله وحده. لقد خرج الجنون ليحتل الشوارع ونزلت السيوف والسكاكين والسواطير والأحجار والقنينات والأمواس، وبات المرضى النفسيون يتنافسون في صناعة الأموات والكل يفعل شارع يده ومبضعه تشريعا وتشريحا وجروحاً، وأبواب الجنون مشرعات على مصاريعها، والمجانين طلقاء، طلقاء يخبطون خبط سيف أو ساطور أو سكين في الأخ أو الأم أو الأم أو في العابر أو الظاهر أو السائح، وبعد أن يفتك المجنون بأقربائه أو الأبعدين، ويقتل ويقتل، ننصب محكمة لمحاكمة الجنون. ... ثم لماذا لانعتقل الشوارع ونسجنها في زنازن انفرادية ضيقة حتى تعود إلى رشدها، وهي التي ضاقت بما رحبت به من جنون وقلة عقل، بدل تضييع الوقت في محاكمات الجنون؟! ثم ماذا تستطيع القوانين أن تُعلم لشوارع لا تؤمن سوى بشارع يدها؟! مرة، والعهدة على الصحافة الوطنية، نزل ابن موسى إلى الأسواق لجمع السيوف والأمواس الطويلة والسكاكين، وتم اعتقال الكثير الكثير من السيوف الأسيوية والسكاكين في ظرف وجيز، ولا نعلم أين تم زجها، لكن الأسواق السوداء والبيضاء ظلت تعج وتضج بالأسلحة البيضاء. ... ثم من قال إن هذه الأسلحة القاتلة هي أسلحة بيضاء إذا ركبها الجنون كما يحصل الآن؟ علينا أن نعاود استنطاق كل تلك الأسلحة، من سيوف وسكاكين التي اعتقلها ابن موسى لنرى إن كانت قد تابت عن جنونها، أم لاتزال سادرة في حمقها وغيها. رحم الله الجاهليين الذين كانوا يثقفون سيوفهم! إذ كيف يعقل، أو كيف يُجن، أن تظل سكاكيننا وسيوفنا بدون «ترابي مطلوقة فالزنقة كيف الحمقة»! إذن، يجب أن تتضافر الجهود من أجل السهر على إصلاح وتربية السيوف والسكاكين. والجهود يجب أن تتضافر على السيوف والسكاكين، لأن المجانين مساكين رفع عنهم الله القلم، حتى وإن نزلوا علينا بالسيف والألم. وبالطبع، فإن الله وحده يعلم من أين جاءنا كل هؤلاء المجانين، ذلك أن اللحظة الراهنة في مغربنا المضارع تستحق عن جدارة وعن سكين أيضاً، أن يصطلح عليها لحظة النوبة الهستيرية، وهكذا يحق للمؤرخين أن يؤرخوا لانتقالنا من حكومة التناوب مباشرة إلى النوبة الهستيرية. - قتل سائحا.. سائحة.. كان في نوبة هستيرية ويعاني من خلل عقلي. - قتل أخاه.. أمه.. كان في نوبة هستيرية ويعاني من اضطرابات نفسية. - قتل كم من حي وشارع بالرباط.. كان في نوبة هستيرية.. ويعاني من خلل عقلي. وشخصيا لا أفهم في بلد حباه الله بشريف الصخيرات، وزاد وأنعم عليه الله، بأن حل بين ظهرانينا محمد راشد الهاشمي صاحب قناة «الحقيقة» وهما اللذان يعالجان كل ما استعصى - من العصا - من أمراض، كيف يكون لنا كل هذا الخلل العقلي وهؤلاء المجانين، إلاّ إذا كان الشبيه عندنا لا يحن إلى الشبيه ولا يحن عليه، أو إلاّ إذا خشي هذان المعالجان من أن يَتَسَيَّفَ هؤلاء عليهم بدل أن يستعصوا!؟ ولأن الخشية بالخشية تُذَكِّر، فإننا نخشى أن نترحم على زمان كان لنا فيه في كل بيت عاطلان أو ثلاثة، بعد أن يُصبح لنا في كل بيت مجنونان أو ثلاثة مجانين يتناوبون على النوبات الهستيرية، ويتناولون الأقراص المهدئة أو المهلوسة والسيوف والسكاكين، وحينها تصبح العيشة بالسيف والخدمة بالسيف والسكين. يقوم المجنون في الصباح الباكر، يتسلح بأدوات عمله، سكين في الجيب الخلفي لسرواله، السيف ممدود خلف ظهره، وينزل إلى الشوارع، ويا ويل من لم تعجبه، أو من لم يعجبه، خاصة إذا كان قد تناول على الريق البولة الحمراء قبل أن يتمنطق بالأسلحة الحمراء، وها شوارع الرباط، أو شوارع واد زم تجري بالدم. أما المواطن العادي الذي لم يجن بعد، فإنه حتما سيقوم في الصباح الباكر مرتعدا مرتعبا، يلبس بذلته الحديدية أو الألمنيومية المضادة للسيوف والسكاكين، ويتعمم بخوذته المضادة للسواطير، ويتجه نحو مقر عمله وهو يحسب خطواته خطوة خطوة، ويحسب كل خطوة نجاة إن هو نجا، حتى إذا ما كتب له الله السلامة ودخل مكان عمله أغلق خلفه الأبواب، ورفع أكف الضراعة إلى العلي القدير: «اللهم لا تُنزل سكينا في قلوب المومنين آمين، يارب العالمين».