إلى الرفيق الراحل عبد السلام الحيمر، مثال المثقف الملتزم، و الذي حاورته مرات و مرات حول موضوعة «الاستقلالية»، و هي التي جعل منها الجسر الضروري لالتزام واع و ذي مردودية فعالة على السياسة و الفكر معا. و كان همه الأخير، أن يتحد المثقفون في تشكيل معين للمثقف الجماعي. إلى روحه الطاهرة هذه المقالة المتواضعة تعبيرا مني على الوفاء بالتزامنا المشترك. ثمة ظاهرة اجتماعية لا تخطئها العين المجردة ،و هي الظاهرة التي عبرت عنها في مقالات سابقة «بالاستقالة الجماعية للمثقفين من العمل السياسي» و بالتحديد الشرائح التي تنسب نفسها إلى الحداثة و التقدم. و الأنكى من ذلك، أن هذه الظاهرة استفحل نموها في وضعية مجتمعية شاملة، ذاهبة هي الأخرى نحو التحلل السياسي و الاجتماعي، و الذي طال كل القوى الاجتماعية التي لها مصلحة في التغيير و التقدم. إن هذا التدهور الانحلالي هو، ما يجد تفسيره في اكتساح الفرادوية بقيمها السلبية لكافة مسام و مراتب المجتمع المغربي، و ما يجذر و يضخم كل مظاهر الفساد و الانحطاط الأخلاقي على حساب المصلحة العامة و الوعي الايجابي الفاعل. و من الطبيعي في مثل هذا الوضع، وضع التيه التاريخي، أن يلجأ قسم آخر من المجتمع إلى الاحتماء بكل مظاهر التقليد عله يجد في ذلك شفاء لشقاء الروح و بؤس العيش. واقع الحال هذا، هو الذي يفسر، في نظري، تلك الإعاقة السياسية التي يقر بها الجميع و التي طال أمدها و استطال. و هو الذي يجعل من كل تقدم في أي مجال، سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي، قليل المردودية إن لم يكن عديمها في هذا المجال أو ذاك. و لا يخالجني شك، أن هذه الصورة المجتمعية القائمة التي قدمتها هي نفسها بحاجة لتعليل و تعميق نظرا عن أسبابها الآنية أو الموغلة في القدم. بيد أنه كلما ذهبنا عميقا في مسلسل التعليل و التحليل النظري - الضروري بطبيعة الحال- و الذي لن يستنفد أغراضه، إلا عندما يتجاوز المجتمع بالممارسة، و في الممارسة، إعاقته فإن كل التحليلات التي نقوم بها، و في أي طور منها، لا يمكنها إلا أن تبرز جانب المسؤولية الإرادية، الفردية و الجماعية، الملقاة علينا. فالتحليل العلمي الحق، هو ذاك الذي يوسع أمامنا ممكنات الحرية الإنسانية، و بالتالي هو ذاك الذي يضعنا أمام مسؤولياتنا عنها. و لأن الأزمة بهذه الشمولية المجتمعية كما أشرت، فالنقد أيضا ينبغي له أن يكون شموليا، يتعدى النقد السياسي التقليدي للدولة و الأحزاب ومؤسسات السطح السياسي، ليشمل كل مراتب عمارة المجتمع المغربي، لا يترك أيا منها في راحة بال، تتغنى بمسكنات أوهامها الخاصة عن ذاتها. و في هذا السياق، و في مجتمع متأخر و معاق، تكون مسؤولية المثقفين الحداثيين التقدميين مسؤولية مضاعفة و مخالفة نوعيا لما عليه مسؤولية المثقف في بلدان وضعت قاطرتها على سكة التاريخ. ما سأقوله، و إن كان يتكئ على عدة قراءات، ليس بحثا علميا في هذه الإشكالية، فذاك شأن كبير لا أدعيه، و إنما هو رأي فيه الكثير من التذكير « بمنطلقات» ثقافية معروفة لدينا، شكلت إلى الأمس القريب على الأقل قواسم فكرية لممارسة جماعية. و فيه التباسات طرأت على هذه المنطلقات أدعو للتفكير فيها جماعيا. و لكي أنقل هذا الرأي بقدر من الوضوح ، فإني سأتطرق إلى قضيتين مترابطتين: من جهة، حول التباسات دور المثقف. و من جهة ثانية، حول التباسات الثقافة الحداثية، و في شكل موضوعات متسلسلة الترقيم. ثم أختم بخلاصة عملية، ربما تكون لها فائدة في تخطي تلك الالتباسات. أولا : في التباسات دور المثقفين استسمح إن بدأت الحديث في هذه القضية بواقعة قد تبدو فردية، و حتى عابرة، و لكنها في ظني تلخص حالة المثقف و طبيعة كيانيته : في الزمان الذي أطلقنا عليه « زمن الرصاص» و تحديدا في مرحلة اليسار السبعيني، كان رفيق لي يحدثني عن صراعه الدائم مع أسرته، و بالأخص مع والده، و الذي كان يحاول باستمرار أن يقنعه ليثنيه عن انغماسه في العمل السياسي درءا للمخاطر التي سيجلبها على نفسه و على أسرته. و هي حالة حوار عشناها جميعا في ذلك الزمان مع أقرب الناس إلينا، آباء و زوجات و إخوة و مواطنين الخ. كان هذا الرفيق يقول لي : إن السؤال الذي يؤرقني و يحرجني و يفحمني، و الذي لا أجد له جوابا مقنعا، سوى الصمت، هو ذلك السؤال المكرور: ماذا ستستفيد من تعريض مستقبلك و ربما حياتك لمصير معلوم؟ و كان والده يضرب له أمثلة عدة لوطنيين سابقين خسروا حياتهم و تشتت أسرهم أو عانت ما عانت من إهمال، بل كان يعدد أمثلة عشنا وقائعها درامية في بداية الاستقلال، حينما دخلت أطراف الحركة الوطنية في حملة اقتتال و تصفيات بين أعضائها، ليؤكد له أن هذا شأن السياسة و طبيعتها الدائمة، فهي من معدن شيطاني لا أمان و لا خير فيها. و يستطرد صاحبي هذا في القول: بماذا كنت سأجيب، و أنا أعرف أنني لو سردت كل معارفي و معطياتي عن الفقر و الظلم و الاستغلال و الأمية، و نضالات الشعوب الأخرى من أجل التقدم، فإنها جميعا لن تغير من موقفه مثقال ذرة،( و لو بمرحلة).... فهو رجل وطني كان له نصيبه النضالي في مرحلة سابقة، و هو أيضا من حيث ميولاته السياسية معارض للنظام القائم، و مع ذلك كنت في لحظة من الحوار، ألجأ إلى الصمت. و في صمتي كنت أسأل نفسي: و الحق «!» لماذا أنا في موقع آخر؟!. هناك إذن حلقة ما غير مرئية تربط بين المعرفة و الحجج العقلانية و بين الالتزام بالقضية.(....) و ما ذاك الصمت في الحقيقة إلا ذلك الرابط الوجداني الذي لا يمكن البرهنة عليه بحجة عقلانية. و في رأيي المتواضع، هذا هو مثال المثقف عندنا و عند غيرنا في التجارب الأخرى، أي عندما تصير الثقافة و الفكر تمثلا شخصيا في ممارسة إنسانية وجدانية و أخلاقية. لكن رب معترض يقول، إن مثالك هذا، مثال ظرفية خاصة، ليست هي ظرف الامتيازات الرمزية في زمن الليبرالية الجارية، فضلا عن أن صاحبك ليس منتجا للفكر و المعرفة، فنحن لا نعرف له إنتاجا علميا، ثم كيف نميز بين مثقف و آخر ذي ثقافة تقليدية لا ينقصه بتاتا ذلك التمثل الوجداني حتى في أكثر حالاته تضحية؟ هذه الأسئلة هي مصدر العديد من الالتباسات التي سأحاول أن أرتب جوابي عنها في الموضوعات المختصرة التالية. لكني قبل ذلك، أريد أن أضيف: إن الحالة الفردية السابقة، تغدو حالة جمعية في طور معين، و أقصد آن المجتمعات لا تغير من أحوالها و لا تنجز الطفرات التاريخية في مصائرها إلا عندما تسمو بروحها الإنسانية الوجدانية الجماعية. و في ضوء ما سبق ها هي موضوعاتي: أولا : كل الناس مثقفون، فالعقل هو القسمة العادلة بين الناس جميعا، و إن كان ليس دائما بشكل عقلاني كما قال ماركس مرة. كل الناس مثقفون بالقوة و ليسوا بالفعل . و إن كان لهم الاستعداد الضمني ليصبروا كذلك حينما يرتقي وعيهم و وجدانهم إلى مستوى المسؤولية الجماعية و الأخلاقية. و هذا ما ينطبق على الجماهير بوجه عام. حيث الجماهير ( و ليس الجمهور) في المفهوم التاريخي الصحيح، هي (الكتلة الشعبية + الوعي بالتقدم) و هذا ما ينطبق أيضا على جميع شرائح وفئات المثقفين الذين يحتلون مواقعهم في توزيع العمل الاجتماعي بفضل ما يملكونه من خبرة و معرفة فكرية أو علمية أو تقنية أو تدبيرية. إنهم مثقفون بالقوة، و يصيرون مثقفين بالفعل، إن هم تخطوا اختصاصاتهم الجزئية و تمثلوا في الممارسة الوعي الجمعي للتقدم. إن الفكر الاشتراكي النقدي لا يتعامل مع المثقفين كعقول مجردة تسبح في فضاء الموضوعية الخالصة، إن هذا التصور الاختزالي و المشوه بالأحرى، يلغي أو يقزم صفتهم الأساسية، أنهم أناس أولا، و أنهم مواطنون ثانيا،... لهم مصالح و تطلعات ضمن مصالح و تطلعات شعوبهم و مجتمعاتهم. بل إن الفكر الاشتراكي النقدي لا يتعامل مع أي تقسيم للعمل الاجتماعي - حتى و لو كانت الطبقة العاملة التي مثلت في الأدبيات الماركسية السابقة - على ما هو عليه في الوضع القائم، فإن كان يأخذ بعين الاعتبار المصالح المباشرة و البعيدة لأي مكون اجتماعي فهو يخاطب الطاقة الإنسانية التحررية الكامنة فيه، لأن غايته هي الوصول إلى المجتمع الإنساني الذي هو أبعد من « المجتمع المدني»