انه على طول المسافة غاب العقل او الوعي الموضوعي كما يشترطه هيجل، ان هذا الوعي الموضوعي او الروح المطلق هو جدلي في بنيته، يحتمل التناقض ويقبل التركيبي بين الاطروحة ونقيض الاطروحة، الدعوى ونقيض الدعوى، مما يجعله الاقدر على احتضان كل التناقضات، الأمن والوصاية والتمرد والاستقلال، الكوني والخصوصي، الدستور والنص الديني لقد شخص غياب الوعي الموضوعي كثيرا في كتابات الباحثين المغاربة، فجعله الاستاذ كمال عبد اللطيف ترددا عن ولوج الحقيقة، في معرض تناوله لحضور العلمانية كمشروعات في كتابة المثقفين المغاربة، بمناسبة ندوة لجنة الهوية للاتحاد الاشتراكي حول المسألة الدينية بالمغرب، وهو التردد الذي يجعل كل واحد من المثقفين يشطح شطحات خاصة به، يقول ذ. كمال عبد اللطيف. واطلق عليه الاستاذ محمد سبيلا ارتخاء المثقف الحداثي، وسماها محمد الحبيب الطالب الاستقالة الجماعية للمثقفين من العمل السياسي الحزبي والتقاعد الطوعي من العمل السياسي عند توفيق بوعشرين، وهي الاستقالة والانقسام نفسيهما اللذان اطلق بشأنهما المرحوم الاستاذ عبد الكبير الخطيبي نداء أن «اتحدوا يا علماء الاجتماع لتعود السوسيولوجيا الى رحاب الممارسة السياسية والثقافية بالمغرب» بجريدة ليبراسيون في ابريل الماضي من سنة 2008 امام هذا التدافع الغربي وغير المسبوق ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، الذي يشهده الفضاء العام بالمغرب اليوم، هل نحن في حاجة الى المثقف. وفي الواقع اي مثقف نحتاجه اليوم، بحيث تشترطه المرحلة ويكون ملائما ؟ هل شكل وصورة وخصوصية الوعي الجمعي تتقبل دور المثقف كما تتمثله بشرطه وخصوصيته الملتزمة والممانعة والعضوية؟ ام اننا اليوم امام وعي جمعي بصور متعددة تفرض نماذج متعددة للمثقف، تنسجم ادواره وشروطه واشكال تدخله مع الذهنيات الجديدة للاجيال الراهنة؟ قد يتأول السؤال الأخير الى التبسيط التالي، هل يستطيع الفرد الشاب اليوم، وسط هذا التماوج الغريب والمتسارع في السلوك وانماط التفكير واللباس والموسيقى والحب، التقنية، والفكرة، الهوية، الانتماء، ان يفهم ويستوعب فكر الخطيبي او عابد الجابري ثم العروي مثلا، وان يتمثل المغرب المعرفي والسياسي والثقافي والاجتماعي من خلالهم؟ في تقديري أن تحولات عميقة وسريعة جدا مست بنيات المجتمع الذهنية والسلوكية والاجتماعية والسلوكية، وأن وعيا جديدا تشكل يختلف كثيرا عن الوعي الفردي والجماعي الذي صاحب الطور الإيديولوجي الذي دشنه اليسار بالمغرب الممانع إلى حدود لحطة التوافق. يحتفظ كل منا بجزء من انسحابات فكر المثقف الملتزم والعضوي والممانع على الجامعة وعلى النمط الغنائي الملتزم وعلى المسرح الرمزي والاحتفالي وعلى جماهيرية الفصل السياسي والنقابي. وتجدر الخطاب الاجتماعي، وهي الانسحابات التي تعطلت اليوم بعدما بهت دور الفكر الحداثي على مستوى الجامعة مثلا لصالح خطاب أصولي يوطوبي. في هذا الشأن يمكننا أن نتخوف كثيرا من أشكال التنخيب المستقبلية وما يمكن أن تفرزه من مخاطر وتهديدات على دولة الحداثة الجنينية. إن الجامعة اليوم بما هي ذلك الوعاء والمشتل الطبيعي لإنتاج النخب الوطنية القادمة على مستوى الإدارة والاقتصاد والثقافة والمعرفة والسياسة هي في مأزق فكري حقيقي، إن نقاشها غير دياليكيتي بالمرة، وهو اقصائي إلى أقصى الحدود بحيث انسحب الحداثي منه إلى أقصى الحدود، ومن بين ثلاثة عشرة موقع جامعي حضرت تنظيمات العدل والاحسان والتجديد الطلابي بأغلبية مطلقة، وحضر القاعديون بشكل لا بأس به، أما الاتحاديون فحضروا بشكل أقل من المفترض. إن الخطاب اليساري لا يعني بالضرورة الشكل الأمثل للحداثة، ولكنه في نفس الوقت لا يعني الأصولية و الماضي والارتداد الرجعي، إنه نوع من الاستشراف الممكن، بهذا القدر أو ذاك، للمستقبل، وكل ارتخاء على هذا المستوى سيجعل الحداثة والديمقراطية الجنينية في مهب الريح. وهذا ما يشخصه الأستاذ سبيلا بعمق عندما يقول إن «حالة الارتخاء الوحيدة والبارزة في علاقة المثقف بالالتزام السياسي والايديولوجي هي حالة المثقف الحداثي، «سواء وعى بذلك أم لم يع» (أخبار اليوم، عدد 13). هذا الاختزال يبقى اعتباطيا تماما إذا لم يربط بالسياق العام لمقال ذ. سبيلا حول موت المثقف والذي حاول فيه أن يصحح فكرة الموت الفيزيائي والمعنوي هذه بالتأكيد على التوجهات الجديدة للمثقف الحداثي، نتيجة الافرازات الجديدة التي تولدت عن الانتقال إلى موقع السلطة، حيث «انتفاء الشرط الأساسي في تعبئة المثقفين و هو الشرط الإيديولوجي/اليوتوبي كإطار عام تعبوي»، وحيث «غلبة اعتبارات الاستقرار والتدبير على اعتبارات الأمل والتغيير». بخصوص الحاجة المتجددة الى المثقف يطرح السيد عزيز نداء (جريدة الاتحاد الاشتراكي عدد 9127 و2128) أسئلة مفتوحة الأفق حول أشكال وآفاق تعامل المثقف الحداثي اليوم مع التحولات المتسارعة للعالم والكون وبنياته. يتساءل حول قدرة المثقف اليوم على ممارسة النقد وفق التغيرات التاريخية والزمنية الراهنة، وحول الصياغة المفترضة لعلاقة المثقف بالسياسي والإيديولوجي، هل هي استقلالية ملحة ومنتجة أم أنها نوع من التحرر المجاني وأنه سوف لن يخدم السياسة والسياسي ومن خلالهما الفضاء العام والمجتمع؟ ما هي آفاق النخب التقدمية في مواجهتها للأزمات والتحولات والمآزق الكونية؟ يقترح السيد عزيز نداء مدخلين اثنين لإعادة تشكيل وترتيب دور المثقف الحداثي اليوم، أولا صياغة مشروع فكري تكون كل غايته وأفقه إعادة قراءة الفكر المغربي المعاصر الحداثي بشكل تركيبي يسهم بأشكلته من جديد ومفهمته و تفكيك مناهجه بالشكل الذي يسمح بالارتقاء به إلى أفق وغاية جديدين، وثانيا بالاجتهاد في تعميم هذا الفكر وجعله فعلا جماهيريا - تماما كما يستطيع القول السلفي والديني أن يكون جماهيريا على علاته المنهجية والمضمونية والأفقية. يرى صاحب المقال أن التبسيط شرط من شروط بناء ثقافة جماهيرية «علمية»، تسمح للمثقف الحداثي بإحداث ثقب في الحائط العازل الذي يعزله عن الجماهير. ورغم أننا نتحفظ على صفة العلمية المعطوفة إلى الثقافة الجاهيرية والتي وضعناها بين مزدوجتين، لصعوبة الأمر و اختزاله لعمق وعضوية الفكر المنهجي، فإننا نجد في المقترحين مدخلين شجاعين وممكنين لتحقيق هدفين اثنين، تشكيل تيار ثقافي ومعرفي يعيد طرح الفكر اليساري المنسحب والمتواري قليلا على طاولة النقاش داخل الحزب السياسي وداخل الإعلام وداخل الفضاء العام، ومن خلالها داخل المجتمع، تيار يضغط لكي يبقي للمعرفة والثقافة والفكر والتأطير والأخلاقية وجه حقيقي حتى لا تتحول الفكرة السياسية الى ماكينة لانتاج المقاعد والمناصب ويتحول السياسيون الى ماكينات رقمية وعددية ضمن منطق ربح - خسارة. إن الجماهير في حاجة إلى من يفجر صوتها ويخرجها من صمتها وعزوفها وانتظاريتها، وتقديري أن فكرا نقديا شكيا استفهاميا وحركيا يثور علي الجاهز والمنمط والقبلي يساعدها على ذلك ويجعلها في استعداد دائم للثورة على الجاهز والراهن بالنظر في الأفق والمستقبل. كان الاغريق شديدو الحساسية من الفراغ، وكان هيراقليطس في كل حواراته سواء مع تلامذته من الأيونيين أو من خصومه العدديين يقول «إن الطبيعة تخشى الفراغ». طبيعيا لا يمكن أن تختزل الطبيعة في المدلول الفيزيائي المادي، فهي عنت عندهم كل مجالات وميادين الوجود الإنساني، فهي بلغتنا المعاصرة تعني السياسة والدولة والاقتصاد والمجتمع والأخلاق والأنطولوجيا... مما يجعلنا أمام منهج في التفكير والتقدير يقضي بالحضور ضد الفراغ. إن فراغا حقيقيا يتهدد وعي الأفراد ويتهدد الوعي الجمعي للدولة، فقنوات التأطير اليوم ملتبسة وغير مراقبة ومردوديتها غير محسوبة مما يضعنا أمام مستقبل مظلم تماما. النمط أو الأنماط الغنائية السائدة اليوم تفتقد للحمولات النقدية والفكرية والسياسية اللازمة، والإعلام الرسمي يفتقد لتوجه واضح لصورة المواطن المفترضة اليوم وفي المستقبل وانخرط في لعبة ربحية ترفيهية ملتبسة، والمدرسة تدخل نفقا ايديولوجيا صريحا ومآزق تستعجل التدخل وعلى أعلى المستويات، والعمل السياسي أصبح باهتا تماما بحيث أن الذي في الحكم لا يمارس الحكم والذي في المعارضة لا يلعب المعارضة... مما يؤشر على فراغ قاتل تماما. للأسباب السابقة، ولأسباب أخرى، أصبحت الحاجة الى المثقف اليوم ملحة، أن يتدافع الحداثي والسلفي والدولتي والأمازيغي فالفضاء العام يحتضن الكل، ووحده الخطاب القوي والصريح والمبدع والمنفتح والمستبق والبعيد المدى يمكن أن يقود الخطابات الأخرى على درب الحداثة والتقدم والعقلنة. أما أن تتغيب كل الخطابات ويسود خطاب واحد ومثقف واحد وبرنامج واحد وفكر واحد، فذلك موات للسياسة وموات للدولة، وإعلانا عن ميلاد العنف العشوآئي غير المؤطر وغير المفكر فيه، ينبه علماء السياسة. انتهى