التسول في فاس «مقاولة» نشيطة اقتصاديا، وممارسة سلوكية تنبسط لها الأسارير سخية «دينيا»، ولا ينفد أجرها في سوق التداول الأخلاقي سريعا، ولذلك، تتراءى معالمها للوافد الجديد بالألوان الفاقعة، مثل صور المآثر والأبواب التاريخية على صفحات «كتالوج» في مركز سياحي... لذلك، لا يحتاج إلى أقنعة هذا «التسول الفاسي»، إذ يكشف عن نفسه بكامل الأصالة والأريحية هذه الأيام، تفتخر به فاس متعدد الملامح! ويطالع العابرين مكتمل البنود والأوصاف، ويتم تصديره للوافدين من مختلف الأجناس والأعراق نموذجا محليا راقيا للتعايش والتمازج الأصيل بين الفاقة وآفة العولمة الرحيم . صباحا، في شارع الحسن الثاني ذي النافورات القاذفة للمياه ليل نهار، حيث أشجار النخيل المجلوبة من قطر ب9 ملايين للنخلة الواحدة! وحيث الكرة المحمولة تدور تحت مراقبة صينية بالدولار! ينتصب التسول عنوانا حداثيا لمذهبنا الكوني في التعايش، ومن خلاله تستحضر إفريقيا ما تبقى في شمالنا من كبرياء الروح العابرة، وما علق بيميننا من مستقبل الحضارة الماكرة. فعبر هذا الوازع الإنساني الصرف التسول، يتقافز صوبك الضمير، فتستحضره من خلال واقع الحال عيونا شاخصة، وأكفا ضارعة متوسلة، بلا كلل أو ملل، ويستجديك مساء في زنقة بالية من فاس البالي، حيث الظلام ورائحة الرميم والأبخرة صنوان. في كل زنقة ودرب... في كل التواء ومنعرج، هناك شيئان كلب ومتسول. والتسول إلى ذلك ، ثابت من «تقاليد» المدينة، مثل الماء العادم، و«أخيه» العذب غير الشقيق، يسريان كالسليقة في الفضاء أنساما، تحت أجساد متسولة ممددة أمام أبواب ومداخل الأضرحة المتناسلة، حيث الولوج إلى حرماتها، يتم بالواعظ الدليل، وبالشمعة والقنديل، ولا تفتتح مراسم الزيارة والمرور إلا بالفتوح، وبالصلاة والسلام على رسول الله... وتفضل ألحاز «الحاج» وصباحك أسيدي ... سير اللهم تعالى يسهل أمرك.. بدءا من تقويسة باب بوجلود إلى غاية ضريح مولاي إدريس، الفار من بطش العباسيين، تستجديك عشرات الأكف السوداء المنقوشة بإزميل الصحراء، والراحات البيضاء الناعمة، والصفراء الكالحة، والزرقاء المتورمة ضارعة مبتهلة، تتوسل خبزة في خنوع، أو طعاما لأبناء متخلى عنهم، ومشربا لرضيع يجتذب ثديا وعينه على المارين العابرين، وجنينا يستعد لفتح فمه خارج المشيمة بلا وجع، بفاس يلتقي التسول بكل اللغات ومن كل الأجناس والأعراق. «أياموسليمس..صدقة في سبيلله» «سماماد صدكا في سبيل الله» «سير اللهم تعالى يسهل أمرك» أجساد أفريقية تفيض حرارة، تمتلئ قوة تهد الجبال! تتمطى أمامك، وتتثاءب في خيلاء، وخلفك تنثال مثل ضغط جوي عال؛ من كل الجهات يأتيك، تقفل في وجهك الطريق المقفول أصلا بالعلامات والبخور، وأذيال الثعالب ورموش الأرانب والسناجب وجلود الهوام الماكرة. أبدان لا تكاد ترى منها سوى العيونالبيضاء المشعة مثل نمر في ليل أدغال تنزانيا، تتسول، تترصد بدمعتين فريستها وحريق، فتأخذك الرأفة، ويشد بك الحنين إلى أقصى بقاع الوجدان، فلا تشعر إلا وأنت تقول: تأخذ ربعة دريال؟ 20 سنتم " اقل من قرش" أو فلس" -لا ، يرد المتسول الإفواري في أنفة تأخذ عشرة؟" 50 سنتيما" لا، يجدد الغاني رفضه في إباء شحال بغيتي؟ كم تريد إذن؟ درهم واحد يقول السينيغالي مرفوع الرأس . تريد قطعة خبز مضمخة بعبير شواء؟ لا ، يرد الرواندي غير مكترث بغيتي شويا ديال لفريت؟ لا بغيت لفلوس يرد على الفور ، ذاك الجسد البوركينابي العابر لسبع دول ، والمتخطي سبعة أجناس ويباب مقداره خمسون شهرا وأمل بلا ضفاف . - في فاس المعبر ، يختلط الحابل بالسائل، والقائل بالنابل ولا تكاد تسمع سوى : سلام عليكم..في سبيل الله يامسلمين. أيام موسليمس..في سبيلله؟ ينطقها القادم من جنوب الصحراء ، لكنة تحمل لمسة إشفاق ، ومسحة إنسانية تقطر ... المتسولون الأفارقة انضافوا إلى القائمة ..هم أسوياء ...مقتدرون..أجسامهم أقوياء البنية ..يصطفون مثل أعمدة نور متلاشية، يمر الصخب من تحتها، فلا تعبأ ، فينقلها بروح فكهة دعابات ثقيلة على القلب ، تقارير لمنظمات غير حكومية ، أضحت تنغص صفاء بال الحكومة . الآن ، تأملوا معي هذه الفتاة الجميلة الأنيقة التي تذرع شارع محمد السادس بفاس مرة كل شهر، إنها فاتنة كما يبدو، و كما تكشف معضلة العيون الجاحظة ، غطاء الرأس المخضب بتعريشات أسيوية يبصم على فتنة غامضة ، لكن الفتاة من عجينة حداثية ، تقليعة عولمية طفت على سطح الوقت قبل سنوات ، واجترحت كيانه بمبضع صدئ ، تأملوا مشيتها التي تشبه وزه تائهة، وهي تضم إلى نهديها ملفا برهافة عارضة أزياء تشبع عمود نور ، ملفا يشمل حوالي مئة نسخة ، مرقونة بالبنط العريض «مطلعها : بسم الله الرحمان الرحيم . الإخوة في الله ، .......أبي مقعد كسيح ، والدتي لا تبصر ، أدرس بالجامعة ، لدي6 أخوات بنات ، أخي الأكبر بالسجن ، مستحقات كراء بيت مع الجيران توقفت عن الدفع لأكثر من ستة أشهر.. والبقية تعرفونها ، ساعدوني ، والله لا يضيع أجر المحسنين » رغم أن "دنيا" وهذا إسمها الحقيقي تفتعل كآبة عمر ، وتختصر سنوات الحرمان في بسمة ، فتبدو مثل حزينة في منعطف مهجور، ها هي ذي تهم بتوزيع منشورات نضال ضد الفقر على رواد مقهى مذهولين ، من يرمقها ، أو يتمعن في انزياح خصريها البرونزيتين ، يرسم عنوان جيل نزق أرعن في مشيتها تأسر ، مرحة وخفيفة دم إلى درجة الإغراء، وقد دربت نفسها بحيث تنحني في عنفوان أمام كل إحراج ، تقف كما لو صممت لذلك بحياء نادر ، تتمايل في خيلاء مع بعض زبائن المقاهي ، لا يرف لها جفن ، وتحس مع كل درهم يدخل حافظتها بنصر وقاد. "دنيا" ، دربت نفسها على وظيفة لا تخطر على بال في الشارع العام ، دنيا مهيأة لتقبل كل شتائم الأرض مقابل درهم ، أي والله ، مصممة على امتصاص كل أشكال القمع والازدراء مهما كان المصدر : بنات جيلها ، وجلدتها، شبان مهووسون ومغامرون يختصرون الحياة في قبلة . في المساء ، ككل مساء ، تركب "دنيا " سيارة أجرة صغيرة تقلها في اتجاه محطة القطار ، هناك حيث تلتقي عشيقها ، يلتهمان ، يدخنان ، يضمان بعضهما إلى بعض ، على نغمات الإم ب 3 في طريقهما صوب مقر إقامتهما الدائمة بمدينة مكناس ، وتستمر الحكاية... إن الثانوية الإعدادية محمد السادس المحاذية لأكاديمية جهة سوس ماسة درعة للتربية والتكوين بأكادير ، استقبلت حشدا من الممتحنين القادمين من بقاع الصحراء المغربية : أسا الزاك السمارة طاطا كلميمورزازاتتارودانتتزنيتأكادير انزكان ... لكن الذي يتنافى مع المنظومة التربوية هو وجود مقاعد مثقوبة ومكسرة ، يصعب أن تكتب وتجلس عليها أطر مقبلة على التقاعد ربّت أجيالا صاعدة أضحت اليوم تتنافس مع أساتذتهم للظفر بمنصب الترقي ! إن التحضير لاجتياز الامتحانات المهنية بهذه الثانوية المتواجدة بقلب مدينة أكادير وبجوار أكاديمية الجهة لم يرق لطموحات الشغيلة التعليمية ، فالكل استنكر تواجد هذا النوع من المقاعد الذي أحدث تصدعا في صفوف السادة الأساتذة والذين حملوا كامل المسؤولية للجنة المشرفة على هذه الامتحانات ، علما بأن الأطر العاملة بالأكاديمية بدورها «ضحية» هذه التجهيزات اللا تربوية ، فالكل يندد بهذه الإهانة . ثمة شيء غير واضح يلف الموضوع . اين هي الجودة ؟ اين هو البرنامج الاستعجالي الذي يتطلع إليه الجميع ؟ كيف يتم تأهيل المؤسسات التعليمية في غياب مقاعد ترقى لطموحات أبناء الغد. أليس من المفروض التدخل لتهيئ الظروف الملائمة لإنجاح العملية التعليمية لتلميذات وتلامذة هذه المؤسسة و أمثالها.