ليست الدارالبيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير … إضافة إلى ساكنتها المسلمة واليهودية ضمت الدارالبيضاء بين ظهرانيها جاليات أجنبية عديدة، وما نراه اليوم من توافد الأفارقة جنوب الصحراء وتأثيثهم لمختلف جنباتها خصوصا بباب مراكش وسوقهم التجارية المشهورة بالمدينة القديمة وكذا التجار الصينيين الذين أفردوا لهم قيساريات كاملة لبيع بضاعتهم بدرب عمر وقبلهم كان الهنود الذي وفدوا بحثا عن ظروف جديدة للعيش، وهم الذين استقروا بالمغرب قبل الحرب العالمية الثانية وازدهر نشاطهم التجاري بالبيضاء بعد أن استقرت أعداد منهم بها، وغيرهم من الجاليات الأخرى، فما نراه ليس سوى حلقات متواصلة من سلسلة غير مقطوعة لمهاجرين اجتذبتهم هذه المدينة العملاقة منذ أن كانت مجرد مرسى صغير في أواخر قبل قرنين. تذكر كتابات لأحد الفرنسيين، الدكتور فايسجيربر، الذي زار الدارالبيضاء في سنة 1895 قصد التعاطي لمهنة الطب، حسب ما جاء في كتاب عبير الزهور أن «الجالية الأوروبية في الدارالبيضاء أواخر القرن التاسع عشر كانت أكبر جالية بالمغرب بعد طنجة التي كانت فيها جالية مؤلفة من عدة آلاف نسمة وأما الجاليات من المدن والمراسي المغربية الأخرى فكان عددها بعشرات الأوروبيين أما في فاسومراكش فكان العدد قليلا جدا بهما. والدارالبيضاء كانت فيها جالية مؤلفة من 500 أوروبي تقريبا منهم 400 إسباني و30 فرنسيا وكذلك30 إنجليزيا وألمانيا و 20 من الجنسيات المختلفة، وكل هؤلاء الأوروبيون أو معظمهم كان يتكلم اللغة العربية والإسبانية بجانب لغة كل واحد منهم . وكانت الدارالبيضاء تضم أربع قنصليات، القنصلية الفرنسية والإسبانية والإنجليزية والألمانية، وكان فيها كذلك 10 قنصليات بالنيابة أو عشر ممثلين قنصليين لإيطاليا والبرتغال وبلجيكا وهولندا والنمسا وهنغاريا والسويد والنرويج والدنمارك واليونان والولايات المتحدةالأمريكية والبرازيل، وكانت أعلام هذه الدول تزين المدينة كل يوم أحد . لقد عاش معظم التجار الأوربيين برخاء وغنى في الدارالبيضاء، رغم عدم توفرها على ثروات كبيرة جدا، وكان الناس يتكلمون عن واحد منهم كانت ثروته تتعدى المليون. وكان حق الأجانب بامتلاك العقارات في المغرب قد سمح به منذ معاهدة مدريد، ولكن شراء العقارات كان مرتبطا بموافقة المخزن، ولم يكن المخزن يعطي موافقته في هذا المجال، ولذلك فقد لجأ الأوروبيون إلى الحيلة، فقد كان التاجر الأوروبي الذي يحتاج إلى بيت سكنى ومستودع يتفق مع أمين المستفادات على أن يبني عمارة تتناسب مع حاجته وأن يدفع أجرة شهرية تساوي 60 في المئة. وكان ثمن البناية الكبيرة في ذلك الوقت لا يتعدى 20 ألف بسيطة، وقد توصل بعض الأوربيين بالرغم من ذلك إلى أن يصبحوا ملاكين للأراضي وذلك في ضواحي الدارالبيضاء، وفي ذلك الوقت لم يكن لملكية العقارات أهمية كبرى، ولم يكن الناس يتسابقون وراء مثل هذه الممتلكات، ولذلك فإن الأرض التي أصبحت في ما بعد مزرعة «آميو» وكان فيها دار للسكنى وملحقاتها من بستان جميل مزروع بالأشجار، هذه الأرض عرضها صاحبها الإسباني للبيع بمبلغ 20 ألف بسيطةو16000فرنك، ولكن لم تجد من يشتريها إلا بعد فترة طويلة جدا «. في ما مضى كان المغاربة يقسمون الأوروبيين إلى ثلاثة أقسام :»الباشادور أو السفراء والوزراء، الذين كانوا يعيشون في طنجة برخاء وغنى كبيرين والذين كانوا مخولين بجلب «فريكاتا»أي سفينة حربية مسلحة بعدة مدافع، وذلك لمساندة طلبات مواطنيهم، وأما في باقي مدن الساحل فكان (القنصو) وهو رئيس النصارى وكان يوزع بطاقات الحماية للناس وأخيرا التاجر، وهو الذي يهتم بالبيع والشراء والتصدير إلى الخارج، وكان يلجأ إليه في بعض الأحيان حين يكون إجحاف من السلطات الشريفة، وهؤلاء كلهم كان لهم امتيازات، لذلك كان للأوروبيين في ذلك الوقت تقدير واحترام، وإن لم يكن المغربي يدعو الأوروبي (سيدي)، وهي كلمة تعني الخضوع لمن يدعى بها، والمؤمن لا يطلق هذه العبارة على كافر. وكان ا يطلق عليه كلمة تاجر، وهذه الكلمة أصبحت في ما بعد تعني الاحترام، وكان كثير من الأوربيين لا يعرفون إلا باسمهم وليس بكنيتهم أو اسم عائلاتهم مسبوقا بلقب تاجر، وذلك لصعوبة لفظ أسماء هؤلاء على العربية، وهكذا فإن اسم التاجر بيبي مثلا هو اسم بيب ..(..). وكان بعض الأوروبيين يطلق عليهم صفة أو لقب يحاكي شكلهم أو منظرهم، وهكذا فقد دعي أوروبي ب»البلارج» أي اللقلاق لعظم أنفه وطول ساقيه وآخر ب»الموكة»، أي البومة، لكبير رأسه ولقصر أعضائه ولوسع عينيه وآخر يدعى أيضا ب»حلوف الغابة» لقصره وكثرة شعره الغزير ورأسه الداخل بين أكتافه ولكثرة تأففه دائما، وهذه السيدة الطويلة كانت تنظر من أعاليها إلى الناس باحتقار وازدراء والتي كان نظرها ضعيفا يسمونها الناقة، وهكذا»… (الدكتور فايسجيربر) يذكر المؤرخون لهذه الفترة في نهاية القرن التاسع عشر أن أوروبيي الدارالبيضاء كان يستهويهم الظهور بمظهر الغني، ويضفون على أنفسهم مظاهر الثراء أمام الأهالي معتبرين أنفسهم متحضرين في بيئة متخلفة بدائية، فالأوربي في مثل هذه الظروف لا يليق به الفقر ولا أن يوصم بوصمة العوز والحاجة فهو الأوروبي المنقذ المتحضر، وحرمته تفرض عليه أن يتوفر على إسطبلات مليئة بالخيول والأحصنة كعلامة على هذا الثراء، وفي تنقلاتهم بين مدن المغرب كان لا بد لهم من خيام و أثاث وأدوات شخصية ومعدات النوم والسلاح والذخيرة، وعدة أواني المطبخ وصحون كثيرة وسطول ودلاء ومصابيح وحبال وزاد كثير، وكان يلزمهم رجال لرفع الحمل على البهائم ورجال للاهتمام بالدواب وآخرين لسقاية الدواب ومن يقيم لهم معسكرهم وينصب خيامهم ويطبخ الطعام، وكان هؤلاء يسبقونهم في أسفارهم بمسافة يوم أو أكثر حتى إن وصلوا إليهم يكونون قد جهزوا كل شيء ونصبوا الخيام وأقاموا المعسكر وما على الاوروبي إلا أن يستريح في خيمته منتظرا طعامه وما يحتاجه لراحته، وكان أوروبيون كثيرون يصفون رحلاتهم في مغرب القرن التاسع عشر بكثير من الدقة والدهشة أيضا، دون أن يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا ووصفوها، منهم الكاتب بيير لوتي في كتابه « AU MAROC «: دائما هي نفسها مدينتنا الصغيرة مرتبة دائما بنفس الطريقة كما لو أنها تتحرك قطعة واحدة على عجلات، يذهب كل واحد منا دون تردد مباشرة إلى منزله الذي لم يتغير مكانه بالنسبة للآخرين، هناك يجد سريره وأمتعته، وعلى الأرض، على سجادة أولى من العشب و الزهور، سجادته المغربية مفروشة. نحن نسافر بكل وسائل الراحة التي يوفرها البدو دون الحاجة إلى القلق بشان أي شيء، كل ما علينا فعله هو الاستمتاع بالهواء النقي والتغيير والمساحة. تشكل خيامنا الخمسة عشر دائرة مثالية ..وحول خيامنا التي تشكل دائرة متعرجة هناك خيام سائسي الجمال لدينا والبغال وحراسنا، أصغر حجما محددة أكثر، رمادية وأقل ترتيبا، تشكل حيا بدويا تتجمع داخله حيواناتنا وتنبعث منه موسيقى غريبة في كل مساء». لقد كان هؤلاء، حسب ما نقله الدكتور فايسيجيربر، يتصفون بحسن الاستقبال والضيافة في ما بينهم وحتى بالنسبة للأجانب العابرين للدار البيضاء، وكانت أعمالهم السهلة وإن لم تكن كثيرة الربح توفر لهم أوقات فراغ واستجمام تسمح لهم بالاستمتاع بالمغرب، وفي غياب المقاهي بالدارالبيضاء كانوا يقضون بعضا من أوقاتهم بناديين «نادي أنفا الدولي» الذي تأسس سنة 1894 والنادي الإسباني، وكان في كل واحد منهما لعبة «بيار» وكل مساء تقام الحفلات الراقصة، وبين الفينة والأخرى يستقبل الناديان فرق الرقص الاسبانية، كما كان بالدارالبيضاء ملعب للكرة الحديدية وملاعب كرة المضرب وملعب لكرة القدم ، وفي فصل الربيع وفي مناسبة عيد الفصح كانوا ينظمون حفلات الفروسية ويخيمون في حقل يعتبرونه حلقة سباق للخيل، في عكاشة (الصخر السوداء)، وفي شهر يونيو كان الشاطئ يمتلئ بخيام المصطافين، وكانوا ينظمون حفلات للصيد ونزهات إلى واد الحصار وإلى غابات البرتقال في العرصة على واد المالح، ووصلت هذه الرحلات حتى مهيولة بعد أزمور.وكان هواة الصيد كثيرين والصيد مسموحا به في مغرب كان يعج بالحيوانات من أرانب برية ودجاج قرطاج والقطا والحجل ودجاج الأرض والبط البري والخنازير البرية والثعالب وأبناء آوى وطائر الحباري الكبير فوق هضاب الزيايدة، ونوع من القنافذ الكبيرة يسكن جرف بوادي المالح والنفيفيخ وكلب الماء وقطعان الغزلان تغمر البادية بعد سطات ودار ابن احمد، ولم يكن مستغربا أن يشاهد المرء عند الباعة في شوارع الدارالبيضاء جلود الفهود، التي كانت تأتي من المذاكرة ومن زعير، أما جلد الأسد فكان نادرا. لقد كان المغرب يجذب إليه الناس للتمتع بجماله وسحره وكان لا بد لهؤلاء من الابتعاد بين الفينة والأخرى عن الجو السياسي والاجتماعي كما فعل بيير لوتي.. يتبع