منذ أن حل الفرنسيون بالجزائر، انتبهوا إلى المغرب، الذي كان يبدو لهم وكأنه جزيرة الكنز «المجهول». كان بمثابة كاليفورنيا، بمميزات طبيعية تشبه مناطق الشرق الأوسط نهارا وإفريقيا ليلا... ولهذا شهد المغرب توافدا كبيرا للأجانب، قبل إبرام معاهدة الحماية. كانت مدينة طنجة والدارالبيضاء هي المدن الأكثر إيواء للجالية الأجنبية. قبل عهد الحماية، كانت مدينة المضيق هي الوحيدة التي تتوفر على فنادق. كما كانت المدينةَ الوحيدة التي تعرف حركية سياحية، نظرا إلى قربها الجغرافي من إسبانيا ومن جبل طارق وباعتبارها مدينة دولية. زد على أن هذه المدينة كانت أول مدن المغرب التي عرفت خدمة الهاتف. حين حل بيير لوتي، في 1890، بطنجة، عبّر عن رغبته في اكتشاف خبايا باقي المدن المغربية، لأن طنجة كانت آنذاك مليئة بالسياح... وفي غياب أرقام محددة، يقول فرونسوا ڤاينڭبر، إن طنجة كانت تؤوي بضعة آلاف من الأوربيين، في حين كانت مدينة الدارالبيضاء تؤوي حوالي 500 أوربي، 400 منهم إسبان، وحوالي 30 بين فرنسيون وإنجليز وألمان، والباقي أجانب، ينتمون إلى مختلف الدول الأوربية. ويرجع هذا التواجد الكثيف للإسبان في المغرب إلى القرب الإستراتيجي وإلى التلاقح الثقافي بين الشعبين الإسباني والمغربي. غير أن هناك عاملا آخر، وهو الفقر، الذي كان يعاني منه المجتمع الإسباني، والذي كان يدفع الطبقة المعوزة إلى الهجرة، بحثا عن لقمة العيش. وقد انكبّ الإسبان، بشكل كبير، على المغرب بعد تولي فرانكو السلطة، وكان أغلبهم من الشيوعيين. أما بالنسبة إلى المدن الساحلية الأخرى، فكان يقطن بها عشرات الأوربيين، في حين كانت المدن الداخلية، كفاس ومراكش، تعرف تواجدا قليلا للأوربيين، لأنهم لم يكونوا محل ترحيب، إذ كان معظمهم يقطن لدى اليهود في 1900، كان كل الأوربيين، تقريبا، يتحدثون، بالإضافة إلى لغتهم الأم، اللغة العربية والاسبانية. وبالإضافة إلى السياح الأجانب، كانت الجالية الدبلوماسية، أيضا، حاضرة، وبقوة، ففي الدارالبيضاء، مثلا، كانت هناك 4 قنصليات، وهي فرنساوإسبانيا وبريطانيا العظمى وألمانيا، و10 وكالات قنصلية من إيطاليا والبرتغال وإسبانيا وبلجيكا وهولندا والنمسا وهنغاريا والسويد والنرويج والدنمارك واليونان والولايات المتحدة والبرازيل. قطاعات نشاط فيها الأجانب كان الممثلون الدبلوماسيون الأجانب يشغلون مناصب هامة وكانوا يتمتعون بثقافة واسعة. وتنضاف إلى فئة المثقفين فئة أخرى ناشطة وهي التجار، الذين كدّسوا أموالا طائلة من نشاطاتهم التجارية. في الدارالبيضاء، مثلا «كان أغلب التجار الأوربيين يعيشون في رفاهية مطلقة وكان العديد منهم يملكون ثروات هائلة». وبالإضافة إلى التجار والدبلوماسيين، كان هناك الأطباء الأوربيون، الذين كانوا مطلوبين بكثرة، وحتى في بلاط القصر، كما كان هناك الكهان، الذين كانوا بمثابة فقهاء أو أئمة مسيحيين. أما بالنسبة إلى البروليتاريا، فقد كانت أيضا حاضرة. وعلى سبيل المثال، عمال الشركة الفرنسية «دوكوڤيل»، التي استقرت في الدارالبيضاء، لإنشاء خطوط السكك الحديدية. ولا ننسى أن نذكر الحرفيين في مجال البناء، خاصة الإيطاليين والإسبان، الذين تزايدت نشاطاتهم ابتداء من 1912. أما في مجال الزراعة فكان بعض الأوروبيين يعيشون في «الشاوية» ويمتلكون أراضيَّ زراعية معروفة، ك«ألفاريز» و«فريوكس» و«نومان»... في طنجة، كان عدد كبير من التجار الإسبان يتحدرون من سبتة ومليلية وكانوا يتاجرون في الخضراوات والفواكه والدجاج... إلخ. بالإضافة إلى هؤلاء الأجانب، الذين كانوا ينشطون في مجالات متعددة، كانت هناك فئة أخرى من الأجانب جذبها حب المغامرة وربح المال السهل، لا غير. وقد عرف عدد الأجانب تزايدا مهما مع بداية عهد الحماية، مما فتح المجال أمام الهجرة. وهكذا، تربع الفرنسيون على عرش المهاجرين الذين جاؤوا إلى المغرب، كما تغلبت اللغة الفرنسية على نظيرتها الإسبانية، لتصبح هي اللغة الأجنبية الأولى في الدارالبيضاء، وبعد ذلك في المغرب كله. في نهاية 1912، أظهر إحصاء للسكان أن مدينة الدارالبيضاء تؤوي 45.000 نسمة، بما فيها 7000 فرنسي و2500 إسباني و2200 إيطالي و200 ألماني و100 إنجليزي و120 يونانيا و40 برتغاليا و12 بلجيكيا (25.000 مسلم و9000 يهودي). وفي 1913، ارتفعت هذه الأرقام إلى 12.000 فرنسي و4000 إسباني و3.500 إيطالي و156 ألمانيا و300 إنجليزي و130 يونانيا و40 برتغاليا و12 بلجيكيا (30.000 مسلم و10.000 يهودي). وقد تضاعف، بعد ذلك، عدد الفرنسيين ب400 مرة ما بين 1900 و1913 وعدد الإسبان ب10 مرات! امتيازات قانونية كان الأوربيون يتمتعون بوضعية خاصة، حيث كانوا يخضعون لقنصلياتهم، سواء في الدارالبيضاء أو في طنجة. وفي حالة نشوء نزاع بين أحد الأوربيين وأحد المغاربة، كان يتوجب على المغربي المثول أمام محكمة قنصلية، بمعية «القايد»، مع الرضوخ، في نهاية المطاف، لما تقضي به هذه المحكمة، مما يعني أنه لم يكن يملك الحق في الطعن في الحكم أو استئنافه، في حين أن الأجنبي لم يكن يمتثل، بالضرورة، للحكم الصادر في حقه. وقد شجع هذا «الامتياز»، الذي كانوا يتمتعون به الأجانبَ على«الطغيان»، لأنهم كانوا يحظون بالمساندة الكافية للتغطية على أفعالهم. وفي هذا الإطار، يحكي ڤاين بر قصة فرنسي قدم شكوى ضد أحد القياد، لأن زوجته أجهضت عندما رأت ثعبانا... وهكذا، اتهم الفرنسي «القايد» بالتقصير في أداء واجبه وبعدم محاربة الأفاعي، مطالبا إياه بتعويضه عن الضرر الذي لحق به وبزوجته...