ما الذي نعرفه عن المسيحيين في بلاطات السلاطين المغاربة منذ العهد الموحدي والسعدي؟!.. هل نعلم أن القائد الذي قاد بحنكة معركة وادي المخازن، مع السلطان عبد الملك السعدي، والذي أخفى وفاته عن جنده حتى يواصلوا انتصارهم، هو القائد والحاجب رضوان العلج، البرتغالي الأصل والمسيحي الذي أسلم بعد أسره، وأنه ساهم في الإنتصار على ملك البرتغال وقائدها في تلك المعركة الشهيرة، سلفستر؟!.. ما الذي نعرفه عن مسيحيي السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله؟!.. وعن الفرنسي عبد الرحمان دوسولطي؟!.. ما الذي نعرفه عن القائد العسكري إيركمان؟!.. إنها بعض من المساحات النادرة في تاريخ بلادنا، التي سنحاول تتبعها في هذه السلسلة من المقالات، من خلال الإعتماد على كتابات الفقيه السلاوي الناصري، صاحب كتاب «الإستقصا في تاريخ المغرب الأقصى»، وكذا كتابات الباحث الأنثربولوجي الفرنسي دولامارتينيير، الذي نواصل ترجمة رحلته في مغرب القرن 19. لباس أهل مراكش مختلف عن باقي الألبسة التي نشاهدها في المغرب. فهم يميلون أكثر للملابس الملونة. في مراكش شاهدت كثيرا الجلباب الواسع المنسوج من الصوف الرمادي، بخطوط تعرف ب «المراكشية»، وهو جلباب جميل. مثلما شاهدت الجلباب السوسي الأبيض أو الأزرق. وفي الطريق كنت تصادف أمازيغيي الجبال، النازلين من أعالي الأطلس الكبير، ببرنسهم الأسود الغليظ، التي تتدلى منه في الخلاف رسوم برتقالية اللون، وهي رسوم تعود إلى الرسومات البونية القديمة [مملكة قرطاجة الأمازيغية القديمة - م - ]. تختلف مراكش الحمراء، مدينة الجنوب المغربي، بشمسها الدافئة، الذهبية وبغبارها أيضا، عن باقي المدن المغربية كلها، خاصة فاس. هذه الأخيرة، التي تعتبر عاصمة الشمال، هي مدينة المهاجرين المغاربة الأندلسيين، التي يعبرها واد صغير. مثلما أن مزاج الساكنة يختلف كثيرا، فالفاسيون متعلمون أكثر ويميلون للحذاقة في سلوكاتهم اليومية، بل إنهم تجار مهرة، وتقنياتها تجري لهم في الدم. هم منفتحون وبفكر إقناعي. ورغم أنهم ميالون للنقد دوما، فإن المخزن ظل يختار منهم دوما أهم رجاله ومسؤوليه النافذين. على العكس من ذلك، فإن المراكشيين، الذين هم خليط من أهل الصحراء وساكنة الجبال وعدد غير يسير من العبيد السود، هم على العكس [من الفاسيين]، يصدرون عن مزاج هادئ وطبيعة سلسة، لكن مع ضعف في الثروات. بالنسبة للبورجوازية الفاسية، المعروف أهلها بالتعالي، فإن مراكش قد أصابتها اللعنة، لأنها في ادعائهم، قد بنيت تحت برج العقرب، وهو في نظر منجميهم، برج يجلب النحس. ويضيفون أنه ليس بهذه المدينة عائلات [قديمة]، لأنها ظلت تهدم كل مئة عام، وأن مستقبلها شؤم. مما يجعل ناسها، غير مبالين، لا حاجة بهم إلى العلم أو امتلاك «نباهة استغلال الفرص». ويخلصون بلؤم، إلى أنه لم يحدث أن رأينا مراكشيا بلغ مركزا ساميا، وأن هذه المدينة - في زعمهم الظالم - قد بناها «أجلاف الصحراء» (المرابطون)، وأصبحت فيما بعد موطنا للأمازيغ الشلوح، أولئك الشداد المتوحشون النازلون من الجبال. في المجمل، فإن المدينتين، بأمزجة أهلها الخاصة، كما لو أنهما عاصمتا دولتين مختلفتين. مملكة فاس القديمة بسهولها الخضراء المحيطة بها، المزهرة في الربيع، وهي عاصمة المغرب العربي الكبير، التي مجدها وبجلها «لوتي» في كتابه. [ألف هذا الرحالة الفرنسي، بيير لوتي، واحدا من أهم كتب الرحلات الأروبية إلى المغرب. وهو كتاب تمجيدي بالكامل، لأن الرجل أبهر كثيرا بالحضارة المغربية، وكان من أشد المدافعين عن قيمة فاس وشمال المغرب كله. وهو كتاب جلب على صاحبه الكثير من النقد في الفترة التي سبقت احتلال المغرب من قبل فرنسا وإسبانيا سنة 1912، لأنه دافع عن وجود دولة وثقافة وحضارة في بلاد المغرب، الأمر الذي لم يعجب الكثير من مهندسي باريس الذين كانوا يحتلون الجزائر منذ سنة 1830. - م -]. بينما مملكة المغرب القديم القادمة من الجنوب [يقصد بها دولة المرابطين القادمة من عمق الصحراء المغربية وأساسا من بلاد شنقيط (أي موريتانيا الحالية). ودولة الموحدين النازلة من أعالي جبال الأطلس الكبير، من جبل درن بالتسمية الخلدونية القديمة. - م - ]، فإنها من خلال مدينتي مراكش وتارودانت، هي بلاد الشمس الساطعة الدافئة، التي تحيط بها أحيانا مناطق قاحلة، مع ميزة الجوار مع أجمل جبال الأطلس العالية لبلاد الأمازيغ [الشلوح]. تواصلت أبحاثنا ودراساتنا، تحت الخيام التي كنا نقيم بها [قرب مسجد الكتبية]. لكن مشاكل عدة ما لبتث أن برزت على السطح. وهي المشاكل التي تعاظمت مع النزول المتواصل للحرارة، بل مع اشتداد البرد في فصل الشتاء، حيث لياليه قارسة جدا. ثم إن استمرار بقائنا في تلك الخيام ونحن في مدينة بها عمران، قد كان يضاعف من أسباب التوتر والقلق. كنا، في قلب تلك الأراضي الفارغة الشاسعة، بعيدين عن وسط المدينة، بل وكنا في قلب أطرافها المتهدمة البالية. كان قطاع الطرق واللصوص يحومون دوما حول خيامنا، كل ليلة، وكانوا يحومون حول بهائمنا. وحراس الأمن الذين خصنا بهم الباشا في البداية، قد رحلوا، فأصبحنا مكتفين بحراسنا الخاصين، وهو الأمر الذي لم يكن محتملا. كان لابد من انتظار مرور صديقنا الإيطالي، القائم بالأعمال في المغرب، بمراكش، السيد جونتي، لكي تتحسن أمورنا قليلا. فقد زارنا، ووقف بنفسه عند حال أحد مرافقينا المريض جدا، فرق لحاله وقرر مساعدتنا. لقد زارنا فجأة ذات صباح سكرتير الباشا، ليبشرنا أن منزلا قد وضع رهن إشارتنا بحي زاوية سيدي بلعباس. ولقد تم إفهامنا أن اختيار الباشا لذلك الحي بالتحديد فيه تقدير كبير لنا، إذ لأول مرة سينزل به مسيحيون. لقد كنا نلبس اللباس المحلي منذ إقامتنا في ذلك البيت، حتى لا نتسبب في مواجهات مع ساكنة تعرف في كل المدينة بأنها الأكثر رفضا للتواجد الغربي بالمدينة، أو باللغة المحلية ل «الروميين». لقد كان لزاوية وضريح سيدي بلعباس بمراكش نفس المكانة الروحية والدينية التي لضريح مولاي ادريس بفاس. لقد كان بلعباس حارس المدينة الروحي، وحامي سكانها. [ تقع الزاوية العباسية بالحي الذي يحمل اسم الرجل نفسه، قرب باب تاغزوت في عمق المدينة القديمة بمراكش. والمعلومة الأهم في ذلك كله، هو أن الرجل الورع والعالم الفقيه سيدي بلعباس السبتي يرقد في نفس القبر الذي دفن فيه الفيلسوف ابن رشد بعد نقل رفاته إلى الأندلس ودفنه هناك. - م - ]. إسمه مولاي أحمد بن جعفر السبتي الخزرجي، من مواليد مدينة سبتة، والمراكشيون يطلبون يوميا بركاته. هناك حكاية تتداول - وهي غير صحيحة - أنه حين استشعر قرب احتلال البرتغال لمدينته سبتة، قام ببيعها إلى يهودي لقاء خبزة واحدة. والغاية من الحكاية هي حماية هيبة الإسلام [أي أن المدينة لم يفرط فيها المسلمون!!]. لقد فر سيدي بلعباس من ذلك الإحتلال وانتهى به المطاف في مراكش. لم يكن يتجاوز الستة والعشرين من عمره، لكن قيمته المعرفية والدينية كانت كبيرة. كان يحض على التقشف والزهد ومحبة الآخرين، كان يهب لباسه للفقراء ويبقى هو عاريا، والظاهر أنه أفضل وأكرم من [قديسنا] سان مارتان الذي لم يكن يهب غير نصف معطفه. لقد نزل أولا بهضبة كليز المطلة على مراكش، حيث كانت بركاته تبهر الكل. كان يدلق الحليب على التراب، فيبقى الحليب عالقا في الهواء ببياضه، لا يلامس التراب. فكان أن كتب إلى السلطان بعض حساده يسعون الدس، وحين بلغت الرسالة إلى سيدي بلعباس، مرسلة من السلطان الذي بعثها إليه يطلب منه جوابا، أبهر ذلك السلطان بذات الرسالة التي أعيدت إليه وقد حورت ذات كلماتها كي تعطي معنى جميلا. فكان أن أبهر كل من في البلاط من روعة موقف الرجل، الذي اقتنعوا أن السماء تحفظه وتحميه، وأن الله بعثه لحماية المدينة. لقد تم دفنه بمقبرة سيدي مروان، خارج باب تاغزوت، فكان الحجيج يأتي إلى قبره غفيرا، ويغرقونه بالأعطيات التي تصل أحيانا آلاف الدنانير المذهبة. مع مرور الوقت التفت أسوار مراكش على قبره وأدخلته إلى حضن المدينة، ويعود الفضل إلى السلطان السعدي عبد الله أبو فارس، الملقب ب «الواثق بالله»، في بناء ضريحه الحالي والمسجد والمدرسة المرفقة به. كان ذلك السلطان مريضا بمرض عصبي حسب بعض المصادر، وبمرض في المعدة في مصادر أخرى تجعل بطنه منتفخة جدا، ولأنه كان يعتقد أنه مسكون بجني ما، فإنه قرر بناء تلك الزاوية والإعتناء بالضريح طلبا للشفاء. لقد جهزت تلك المدرسة بمكتبة كبيرة جد غنية، تضم عشرات الكتب القيمة. وهي مكتبة يشرف عليها اليوم [في سنة 1884 - م - ] ناظر للأوقاف. كان الحي الذي يوجد فيه الضريح لقرون «حرما»، أي مقدسا، وهو ملجأ لكل هارب من بطش ما، بل منهم من بنى منزلا به دون أن يمنعه أحد من ذلك. قام السلطان مولاي اسماعيل [من أهم وأكبر السلاطين العلويين الذي حكم المغرب بين سنتي 1672 و 1727 - م - ]، ببناء ضريح جديد لسيدي بلعباس، اعتذارا منه لأهل المدينة على التدمير الذي طالها بسببه قبل أن يتمكن من احتلالها. وهو الضريح الذي جدده السلطان سيدي محمد [بن عبد الرحمان]، وعلمت أنه تم تجديده مؤخرا من قبل السلطان مولاي عبد العزيز. لقد أصبح سيدي بلعباس ملاذا للفقراء والعميان بمراكش، الذين يحظون بحماية وعناية خاصة في زاويته. ويحدث أن تسمع عند مدخل ضريحه المزين بالرخام الأبيض المقوس، الذي أكيد أنه استقدم من أطلال قصر من قصور السعديين، مناديا ينادي: « أيها المسلمون، كل من يريد أن يبيع شيئا أو يشتري شيئا، ليقدم صدقة في حق سيدي بلعباس، سيد البيع والشراء، سيد الأرض والبحر». يجلس الفقراء السعاة، على جانب الحائط مصطفين، وأغلبهم عمي، ويمدون أياديهم في الهواء لقاء صدقة. يظلون هناك طيلة النهار وجزء من الليل، وحين يتحسسون وقع خطى وحوافر يميزون بين الزائرين، فينادون بالصدقات التي يرجونها عالية منا نحن العابرين.