ما الذي نعرفه عن المسيحيين في بلاطات السلاطين المغاربة منذ العهد الموحدي والسعدي؟!.. هل نعلم أن القائد الذي قاد بحنكة معركة وادي المخازن، مع السلطان عبد الملك السعدي، والذي أخفى وفاته عن جنده حتى يواصلوا انتصارهم، هو القائد والحاجب رضوان العلج، البرتغالي الأصل والمسيحي الذي أسلم بعد أسره، وأنه ساهم في الإنتصار على ملك البرتغال وقائدها في تلك المعركة الشهيرة، سلفستر؟!.. ما الذي نعرفه عن مسيحيي السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله؟!.. وعن الفرنسي عبد الرحمان دوسولطي؟!.. ما الذي نعرفه عن القائد العسكري إيركمان؟!.. إنها بعض من المساحات النادرة في تاريخ بلادنا، التي سنحاول تتبعها في هذه السلسلة من المقالات، من خلال الإعتماد على كتابات الفقيه السلاوي الناصري، صاحب كتاب «الإستقصا في تاريخ المغرب الأقصى»، وكذا كتابات الباحث الأنثربولوجي الفرنسي دولامارتينيير، الذي نواصل ترجمة رحلته في مغرب القرن 19. كان استقبال السلطان ببلاطات قصوره للبعثات الديبلوماسية الأجنبية القادمة من طنجة، فرصة لإبراز مكانته السياسية الشريفية الهامة أمام شعبه. إن حمل الرسائل إليه، أو تقديم الهدايا الديبلوماسية، أو التعريف بشخوص المهام الخاصة، هو في الحقيقة نوع التواضع المفتعل الذي غايته تمجيد الجالس على العرش. [ الحقيقة أن لغة دولامارتينيير هنا بعيدة عن أي منطق تأريخي علمي، بل فيها كثير تحامل مجاني. لأنه، مثلا، ما الذي كان يقوم به زعماء فرنسا من ملوك وإمبراطورات ورؤساء، غير ذات التقليد السياسي. فالأمر ليس حكرا على سلاطين المغرب، بل هو منسحب على كل صاحب مسؤولية عمومية عليا في دول العالم. بالتالي، فاللغة هنا فيها تحامل مجاني من قبل الكاتب - م - ]. يكون الوافدون الأجانب واقفين فوق تراب الأرض، تحت أشعة الشمس اللافحة، والسلطان فوق حصانه محمي بمظلته السلطانية، والجلبة تكون هائلة حول ذلك الوفد الأجنبي. بل إن بدلهم التي يكونون قد اعتنوا بها قبل الإستقبال، تصبح في حالة يرثى لها، ويظهرون من خلالها مغبرين، بؤساء. كان يقال لنا، لتبرير ذلك، إن السلطان مولاي الحسن متشبت بالبروتوكول المغربي الأصيل، الذي يحرص على أن يكون عرشه فوق جواده، لأن عرش أجداده كان دوما فوق صهوة جيادهم. هذه التبريرات لا تقنع أحدا منا، لكننا كنا نتعايش معها. لقد حدث في عهد السلطان مولاي اسماعيل حادث مماثل، حين جاءت إليه سفارة من الملك لويس الرابع عشر، يترأسها السيد دوسانت أولون، الذي وجد صعوبة هائلة في التأقلم مع البروتوكول، فرفض التقاليد المغربية، وأصر على أن يستقبل وحده رأسا لرأس، بما يليق بمكانته الإجتماعية والسياسية. لقد اكتشفنا، مثلا، أنه في ظل حكم السعديين، الذين كان حكمهم قويا جدا، كان تمة أسلوب آخر في التعامل، أكثر ترحيبا وأسلس. تكفينا العودة إلى مذكرات كاتب إسباني تعود إلى ذلك الزمن، لنكتشف كيف أن السفير كان مقيما في جناح خاص، وأنه حمل في احترام إلى قاعة الإستقبال السلطانية، مرفوقا بترجمانه، حيث التقى السلطان أحمد المنصور [الذهبي]. وأنه بعد التحيات المعتادة في مثل هذه المناسبات، يكون الرجلان واقفان وجها لوجه على بعد خطوة واحدة، فيقوم المبعوث الأجنبي بإزالة قبعته وينحني على ركبته طالبا يد السلطان، فيقوم هذا الأخير بوضع يده على رأسه، ليرفع وجه السفير ويطلب منه الجلوس جواره على أرائك مخملية مريحة، وأن يضع قبعته على رأسه. إن هذه الصورة تناقض الصرامة التي تقابلنا في البلاط الشريفي اليوم [يقصد الكاتب أواسط القرن 19. والحقيقة أن تعامل السلاطين مع السفارات يختلف من دولة إلى أخرى. مثلا، الحضور الإنجليزي، الذي كان قويا في المغرب، جعل السلاطين المغاربة دوما يخصون السفارات البريطانية بمعاملة خاصة، تعكس التقدير المتبادل بين العرشين. بل إن أول من سمح له بركوب الحصان أثناء استقباله من قبل السلطان المغربي هو سفير إنجلترا الذي جاء في مهمة ديبلوماسية إلى مراكش في أواخر القرن 19، وهو الأمر الذي تم بطلب من السفير البريطاني نفسه إلى السلطان وحاشيته. أما التعامل مع السفارات الفرنسية، خاصة بعد احتلال باريس للجزائر ابتداء من سنة 1830، وبعد هزيمة الجيش المغربي أمام الجيش الفرنسي سنة 1844 في معركة إيسلي، قد جعل السلاطين المغاربة يحرصون على إبراز علوهم وعلو مكانتهم ومكانة دولتهم أمام كل سفارة فرنسية. وهذا من الأمور التي لم تكن لتترك أثرا طيبا في أنفس مختلف السفارات الفرنسية التي حضرت إلى القصر السلطاني لهذه المناسبة أو تلك. ونفس الأمر ينسحب على الإنطباع الذي خلفه استقبال السلطان المولى الحسن الأول للسفارة الفرنسية التي كان ضمنها السيد دولا مارتينيير. بالتالي، فإن تحامله هنا مفهومة أسبابه وله خلفياته، وأحكامه الإطلاقية هنا ليست علمية بالمرة ولا تمت للحقيقة بصلة. الأمر كان كذلك فعلا بالنسبة للسفارات الإسبانية والفرنسية، أما الإنجليزية والألمانية والسويدية والهولندية فالأمر مختلف، اختلاف المصالح والسياقات وطبيعة العلاقات. - م - ]. لقد حاول سفيرنا ووزيرنا السيد أورديغا، حين مقدمه إلى البلاط السلطاني سنة 1882، من أجل تقديم أوراق اعتماده، أن يغطي رأسه مما تسبب في أزمة بروتكولية. ولو كان ملما بالتاريخ لطرح أمام السلطان سابقة سفيرنا السيد دوسانت أولون [أمام السلطان مولاي اسماعيل]. مثلما أن أحد أسلافه، وهو السيد تيسو، قد حصل على حق الجلوس أمام السلطان أثناء المفاوضات التجارية والسياسية معه، لقد كان يكفي طلب ذلك بوضوح وصرامة من أجل تحققه. لقد شجعت تلك المبادرة كل الجسم الديبلوماسي الأجنبي في المغرب على استغلال تلك السابقة من أجل تغيير أسلوب التعامل معهم. هم الذين كانوا يصمتون من قبل بسبب العادة والخمول أو بسبب الجبن، ويتحملون تلك التفاصيل غير المقبولة. لكن لابد من الإنتباه أن لذلك معنى، بخصوص فرنسا التي هي جارة للمغرب في الجزائر، عند العامة من المغاربة. فالمغرب بلد إسلامي قوي. وأثناء تلك السفارات، يقدم السلطان بعض الهدايا لضيوفه، حيث يقدم فرسا مسرجة وبندقية وسيفا للسفير أو رئيس الوفد، ثم فرسا غير مسرجة وسيفا للسكرتير الأول، ويتلقى الباقون هداياهم تبعا لرتبهم الديبلوماسية. مثلا، الترجمان الأجنبي يمنح فرسا، والترجمان المغربي بغلة، مثلما توزع قطع ثوب حريرية على رجالات البلاط، الذين يقبلون اليد الشريفة التي تفضلت عليهم بأعطياتها. بخصوص الهدايا التي يحملها معهم السفراء والديبلوماسيون إلى السلطان، فإنها تكون في الغالب مختارة بشكل اعتباطي. على أن أعلى الهدايا في هذا الباب، فيل هندي أهدته ملكة بريطانيا للسلطان المغربي. لقد كاد ذلك الفيل أن يغرق في عرض طنجة ويغرق معه الرجال الذين حاولوا إنزاله إلى الشط. مثلما أن رحلته داخل البلاد قد أحدتث رجة وزلزالا في ما بين القبائل، بينما كان الجو في البلاط جو حيرة حقيقية. لقد تسبب في أحداث في فاس، حين احتج التجار على الكلفة الغالية لتوفير المأكل لذلك الحيوان الضخم. ومن حسن حظهم، أن ذلك الفيل الذي اسمه «ستوك» سوف يصاب بمرض غريب حار معه الأطباء البيطريون المغاربة، انتهى بموته. أما سائسه الهندي الذي جاء معه من بلاد الهند البعيدة، فإنه فرح بتلك الوفاة وبالتخلص من الجو العام المحيط به في فاس، وأسرع في العودة إلى بلاده «رادجاه».