تربّينا في بيئتنا المغربية، وهو عام عند العرب، على تقدير شيوخنا ومعلمينا وإجلالهم، في الصِّغر والكبر سواء. لي ذكرياتٌ لوالدي يستقبلُ في بيتنا شيوخًا درس عليهم ويُكرِم مثواهم يقعُد أمامهم وجِلاً منصتًا ولكلامهم متعطّشًا تحيط بهم الهيبة؛ على نهجه سرت وما أزال في علاقتي بالأحياء منهم. لم يبق من هذا شيءٌ أو نادرًا، أعزوه إلى تبدّل القيم أكثر من تدهور الأخلاق. وكي لا أنسى، يغشاني الحنين، فألوذ بالذكرى، منها تجاربُ الأقدمين تُحارب صدأ السنين. يحضُر منها القريب، وبإلحاح شديد، لجدارته وبلاغة عِبرته، لا أقوى وأبلغَ من درس مسيو جيرمان ووفاء تلميذه كامو من بين ما علمت وسمعت. قدوةٌ ينبغي أن تُدرّسَ للأجيال. Monsieur Germain هو المعلم الذي قضى الكاتب والروائي الفرنسي ألبير كامو (1913 1960) سنوات تعليمه الابتدائي على يديه إلى أن نال الشهادة الابتدائية، هنا وقد قررت عائلتُه المدقعةُ أن تدفع به إلى سوق العمل لعوَزها الشديد، ستظهر شبهُ المعجزة التي ستصنع مصيرَ إنسان وتعطي للبشرية كاتبًا إنسانيًا عظيمًا، ذاك الذي سيخوض معاركَ ثقافية وإعلامية كبرى في باريس بين الأربعينيات والخمسينيات، في أعقاب الحرب العالمية الجديدة وبعد أن بدأت حرب الجزائر، ويصل مجده إلى نيل جائزة نوبل للآداب(1957). مع الحصول على الابتدائية في مدرسة التعليم العمومي بحيٍّ شعبي(بلكور) بالجزائر العاصمة حيث ولد، تحكم الجدة والأم، فهو يتيم الأب مات في الحرب، أن يُنهيا مساره الدراسي ليساعد الأسرة ولأن لا طاقة لهما لينفقا على عيشه وتعليمه مستقبلا. هنا يتدخل المعلم جيرمان ليقترح على التلميذ النجيب المتفوّق في صفّه أن يكملَ تعليمه بالالتحاق بالكوليج، عنده الحلّ المعجزة، أن يحظى بمنحة، لكن بعد أن يجتاز مباراة تنظم لاختيار المتفوقين. إنما قبل هذا وجد المعلم أمامه عقبةً كأداء، رفضًا قاطعًا للجدة المتحكمة. بعد حوار عقلاني وودّي لانت عريكتُها فقبلت المجازفة بالسماح للولد اليتيم بأن يواصل تعليمًا يدوم تسع سنوات قبل الحصول على البكالوريا ومنها بعد النجاح الالتحاق، كما ينبغي له، بالجامعة، هو الفقير المعدِم، وكيف، وبالفعل اجتاز المباراة وبدأت مغامرته المدهشة، تلك التي أنجبت الكاتب العالمي الذي نعرف. أيامًا بعد حصول كامو على نوبل كتب إلى معلمه رسالةً مؤرخةً ب (19/11/1957) قال فيها: «لقد نلت شرفًا عظيمًا لم أبحث عنه ولا سعَيت له. لكن، ما إن علمت بالخبر[فوزي بنوبل] فإن تفكيري الأول، بعد أمي، ذهب إليك. بدونك، بلا اليدِ الحادبةِ التي مددتَ إلى الطفل الفقير الذي كنت، وبدون تعليمك، وقُدْوتك، لا شيء من هذا[التتويج] كان حصل(…) أنا من يبقى أبدًا تلميذَك الوفيّ». هذه واحدة من مجموع الرسائل المتبادلة بين المعلم وتلميذه في الفترة (1945 إلى 1959) بعضها منشور وفي نهاية 2022 أنجزت غاليمار الدار الناشرة لأعمال كامو الطبعة الجامعة لها في كتيب بعنوان: «Cher Monsieur Germain» ضمّت إليها فصلا من الرواية غير التّامة للمؤلف «Premier homme» يرِدُ فيها ذكرُ العلاقة بينهما مع استبدال اسم ألبير كامو بجاك كورمري، والمعلم أحيانا باسم برنار. في هذا الفصل بالذات يروي صاحب «الغريب» القصة الكاملة لتعليمه الابتدائي وكيف أنقذه جرمان. تعالوا معي الآن، وهذا أفضلُ ما يمكن أن أقدمه لكم، بعد ما سلف، نقرأ معًا بعض المقاطع في الرسائل المتبادلة، لا سيما التي تدين بالاعتراف والامتنان الكامل لما أسداه المعلم لتلميذه يعطي درسًا جديدًا يُضاف لدروس القدامى عن الوفاء لكل من علّمنا حرفًا. أشير بدايةً إلى أن الرسائل بدأت وقد كبُر كامو وانتقل من الجزائر إلى باريس حيث أصبح له اسم أدبي وموقعٌ صحفي(جريدة كومبا) ومقالاتُه وكتبُه اطّلع عليها معلّمُه الذي من التعليم شارك في الحرب العالمية، عندئذ بدأت بينهما علاقة جديدة نُسجت بخيوط الماضي يتخللها حاضرُهما وهي بين طرفين إيجابيين، مشحونة بالامتنان وفضيلة الوفاء، من جانب، وبالتقدير والحدَب الدائم من الجانب الآخر الذي وهو في موقع المعلم القديم يقترن بالأب الغائب والصديق. لنبدأ به فهو الكبير يخاطب التلميذَ السابق: «أحببت تلاميذي، ومنهم على الخصوص الأقل حظًّا في الحياة»؛ «لقد انصبّ اهتمامي عليك يا بنيّ وأنا أفكر في أبيك، كما اهتممت بالأطفال الآخرين يتامى الحرب، ولقد أحببتك أيضًا من أجله قدر ما استطعت، وما أدّيتُ إلا واجبًا مقدّسًا، واعلم أن نجاحكَ من استحقاقك، عملِك، فقد كنتَ تلميذي الأفضل» (45) «وكيفما كان الحال، ورغم نوبل، ستبقى دائمًا بُنَيّ». هي بُنُوَّةٌ تحققت وتمتّنت بأواصرَ عائلية محكمة: «أندري[ زوجة جيرمان] وأنا نحبك حبّا حقيقيًّا لا أنانيًّا» (46) ولقد بلغ تواضعُ المعلم حدًّا يلتمس فيه من تلميذه الذي أصبح ذا شأن أدبي كبير الرأفةَ بفقر عبارته وقصور أسلوبه. ليس شيئًا أمام ما عبر عنه كامو للسيد جيرمان، لنقرأ: «إنه لشأن ٌعظيم المعلم الجيّد، ولقد كنت أفضلَ معلمينا طرًا، وأنا لم أنس ما أنا مدين لك به أبدًأ.. فلا تنس ابنك الرّوحي» (22)؛ تتكرر عبارة (الابن الروحي) عند كامو» يقبّلك ابنُك الروحي من كلّ قلبه» (28) «أنت الذي عملت الكثير من أجل ابنه» (29). بامتنان مستمرٍّ يخاطبه: «ليس عندي أفضل من قراءة رسائل من أنا مدين له بما صرت عليه اليوم»(32). في رسالة بتاريخ 14/07/1952 نقرأ هذه الشهادة المؤثرة: «بعد مرور ثلاثين عاماً حظِيت فيها بلقائكم، لم أكفَّ أبدًا عن التفكير فيكم بالاحترام والعاطفة اللتين غمرتا صدري في الفصل بمدرستنا بزقاق أوميرات» (34) أقوى منها هذا الاعتراف المشرّف من كامو لمعلمه الذي أصبح من قرائه الأوفياء، ويرسل إليه بانتظام الكتب التي يطلبها وهو مقيم بعد في الجزائر ويستشيرُه أيضا ويُخبرُه بمشاريعه الأدبية؛ لنقرأه في هذه الشهادة الإضافية: «أنك تسعدني حين تطلب مني كتبًا أكثر مما لو أنني أدفع ثمنها. أنت تعلم جيدًا أني لن أستطيع بتاتًا أن أردّ لك ما في عنقي من دينك، وإنني أعيش بهذا الدَّيْن سعيدًا بأنه لن ينفد» (64). مسك الختام هذه الفقرة من الرواية غير الكاملة لكامو المشار إليها، تُجْمل درس الوفاء،وتحُرج ما آلت إليه هذه العلاقات: »«كان جاك [التلميذ] قد دأب منذ خمسة عشر عاما على الذهاب لزيارته[معلمه]وفي كل سنة مثل هذا اليوم، يُقبِّله قبل أن يغادر ويُبقِي الرجلُ العجوزُ المتأثر يدَه بيده وهما عند عتبة الباب. هذا الرجل هو الذي رمى جاك إلى العالم، متحمّلاً وحدهَ مسؤولية اجتثاثه لكي يذهب نحو أعظم الاكتشافات» (97) ولقد نجح.