مرّ قرن على تاريخ ميلاد "ألبير كامو" المزداد في 7 نونبر 1913 وجعلت فرنسا من سنة 2013 مناسبة لتخليد مئوية هذا الكاتب الذي توفي في (4 يناير 1960 ) عن سن يناهز 46 سنة.. ولقد شهِدت ساحة النشر والكتاب إصدار ثلاثة مجلدات عن دار "غاليمار" جُمعت فيها المراسلات التي ربطت بين المُحتفى به وبين ثلاثة من وجوه الفكر والأدب الفرنسي: "فرنسيس بونج" (ما بين 1941 و1957) و "لويس غييو" (ما بين 1944 و1958)، ثم "روجي مارتان دي غار" (ما بين 1945 و1959).. هذا، بالإضافة إلى صدور كتب جديدة، بنفس المناسبة، يتناول فيها المؤلفون شخصية وفكر ومواقف "كامو"؛ ويتعلق الأمر بكتاب "عزيزي ألبير.. رسالة إلى ألبير كامو" بقلم "أبيل بول بيتوس" (عن دار غاليمار) و "ألبير كامو، هَمُّ الآخرين" لمؤلفته "إيف موريزي" (عن منشوات كلاسيك غارنيي)، ثم كتاب "من سيشهد لصالحنا.. ألبير كامو يواجه نفسه" من تأليف "بول أودي" (عن منشورات"فيرديي")؛ ولقد صدرت كلها في أواسط شهر أكتوبر المنصرم.. في نفس الصدد، خصصت جريدة "لوموند" لصاحب "الغريب" (1942) [و"الطاعون" (1947)]، ملفاً يضم مقالين وحواراً مع "إيف موريزي".. وفي ما يلي تعريب لمحتويات هذا الملف.. في سنة 1957، نال "ألبير كامو" جائزة نوبل للآداب واعترت صديقَه "روجي مارتان دي غار"(1881- 1958) - الذي سبق له أن حظيَ بنفس التتويج سنة 1937- فرحة عارمة إثر ذلك .. وإذا كان "كامو" قد بدا مرعوباً وكأنما صُعِق من الخبر مُعتبِراً أن هذا التشريف كان يجب أن يعود إلى "مالرو"، فإن "دي غار"، الذي سبق وأن انتابته نفس الحالة، قد سارع إلى تزويد صديقه، في رسالة تهنئة بعث بها إليه، بنصائح تعينه على تخطي الحاجز بدون خسارة تُذكَر.. فهو، مثل "كامو"، لا يستهويه عالم "الصالونات" وتُلجِمُه الشكوك فيما يتعلق بموهبته.. ورغم فارق السن بين الرجلين (32 عاما)، فهما يتلاقيان في أشياء عديدة : مثل إعجابهما ب "تولستوي" ورفضهما للحقد والكراهية كيفما كان مصدرهما، ثمّ إنسانيتهما الرافضة لكل "دوغمائية"؛ بل لقد استعاد "روجي مارتان دي غار" شبابه حينما احتك ب "ألبير كامو" وراح عنه تشاؤمه واسترجع لهجته كمُجادل واضعاً، لأول مرّة، اسمه وتوقيعه بجانب "كامو" على عديد من العرائض .. ولقد كان "كامو" يبادل "دي غار" نفس الإعجاب والتقدير ليتأكد من ذلك ما للصداقة في الأدب من خصوصية تجعل الرجال يعرف بعضهم بعضاً من خلال الكتب قبل اللقاء ويتوازى إعزاز الشخص بتقدير الكاتب.. هكذا، كان "دي غار" قارئا مُدقِقاً لمؤلفات "كامو" ("الغريب"، "أسطورة سيزيف" ) ومقالاته الافتتاحية (بجريدة "كفاح") ونشأت الصلة بينهما قبل أن يبادر، في 04 ديسمبر 1944،إلى مكاتبته.. توثقت العلاقة بين الكاتبين ودليل ذلك يبرز من خلال إعادة قراءة المقدمة التي ذبّجها "كامو"، في 1955، لصالح "الأعمال الكاملة" ل "روجي مارتان دي غار" ضمن منشورات "لابليياد".. وبعد وفاة "دي غار" (صاحب "لي تيبو")، أبّنه "كامو" قائلا: "إن وجود هذا الرجل المنقطع النظير وحده، كان كفيلا بالمساعدة على الحياة...".. قد لا يكون للرسائل المُتبادلة بين "دي غار" و "كامو" تلك الكثافة والحميمية اللتان تُميِّزان المراسلات التي جمعت بين "ألبير كامو" و"روني شار" وتَمَّ نشرها سنة 2007، لكنها تهتم بأجمل الأسرار وتُلقي نظرة خاطفة على ما استطاع "كامو" نسجه من تواطؤ حميمي مع بعض معاصريه.. لكن، ورغم ذلك، فلقد كانت بعض علاقات صاحب "الغريب" قصيرة الأمد كصداقته ب "فرانسيس بونج" التي سرعان ما خابت جذوتها بعد أن تبادلا عددا قليلا من الرسائل.. ولقد عانى من التهميش في "سان- جيرمان دي بري" ومن إهانة "سارتر" له إبّان الجدال حول "الإنسان المتمرد" في 1951 ومن تهكم "جاك لوران" و"كليبير هيدانس" ("الهوساريان") ؛ ولما خامرته فكرة الانتحار، لم يجد صاحب "الطاعون" أثناء الخمسينيات، إلا دعم ومساندة أصدقاءه الذين سيجدونه إلى جانبهم أيضا لدعم وتشجيع أعمالهم؛ ومن بينهم "لويس غييو" على سبيل المثال.. فلقد عُرِف عن "كامو"، في شبابه، أنه تأثر بقراءته لرواية "دار الشعب"(غراسي 1927) بعد أن نصحه بذلك "جان غرونيي"، أستاذه في الفلسفة وصديق "لويس غييو" منذ المراهقة.. تعرف "كامو" على "لويس غييو" بعد شهور من قيام هذا الأخير، في 1945، بمهمة بمدافن "سان ميشال" حيث يوجد رفات الجنود الذين سقطوا قتلى في حرب 1914 (معركة لامارن) وتعرّف على قبر والد "كامو" - لوسيان كامو - من بينهم.. و لقد استطاع "كامو" الوقوف على قبر والده عامين بعد ذلك؛ بفضل تلك جهود.. فكانت تلك فرصة لبداية تشكيل الفصل - المفتاح لكتاب "الإنسان الأول" من طرف "كامو".. تلاحظ مُهيِّئة مجلد "مراسلات "كامو" و"غييو"، "أنييس سبيكل" (أستاذة بجامعة فلانسيان ورئيسة جمعية الدراسات حول "كامو") أن "لويس غييو" قد كتب قصة حياته ("خبز الأحلام" غاليمار 1947) وعمره 43 عاما، أيْ نفس السن الذي بدأ فيه "ألبير كامو" تأليف "الإنسان الأول" الذي تم نشره بعد موت الكاتب عن دار "غاليمار" في 1994.. ولقد قال "كامو"، بعد قراءته ل "خبز الأحلام"، "لعل لهجته قد أثرت فيَ أكثر من غيره.. (...) وكم أفهم أن الإنسان، حينما يبلغ سن النضج، لا يجد أجمل من طفولته البئيسة كموضوع !" للكتابة؛ كما صرّح لصديقه "غييو" في مراسلة حول مسرحيتيْه "كاليكولا" (1938) و"سوء تفاهم" (1944): "أعرف الآن، أفضل من أي وقت مضى، أن ليس بإمكاننا أن نكون أحراراً ضد الآخرين؛ وأشعر، على وجه الخصوص، وبقلق متزايد، أن مصائب الإنسان كلها تأتي من عدم تبنيه للغة بسيطة..".. ف "قمة كل المآسي، يُضيف كامو، هي أن يكون البطل مصابا بالصمم..".. لا يمكن اعتبار "كامو" بطلا من أبطال الحرب الباردة بعد الموت ومُثقفا دائما على حق؛ ولا يمكن أيضا اعتباره "قديسا علمانيا" بالمظهر الكاريكاتوري الذي حاول البعض أن يُلبسه إياه.. إن "كامو" رجل حوار واعتراف.. وهو يشك إلى أبعد الحدود حتى في نفسه وفي إبداعاته، كما اعترف بذلك حين كتب ل "غييو" قائلا بعد انتهائه من تأليف رواية "الطاعون مُعترِفا بما يشعر به من شقاء لكونه يعتبر "هذا الكتاب ناقصا وفاشلا وبأنه اقترف ذنبا بسبب الطموح، فقرر الاحتفاظ بالرواية داخل درج مكتبه كشيء باعث على التقزز..".. لكن "غييو"عرف كيف يبرهن له بأن مثل هذا الرفض والاستبعاد المألوف عند "كامو"، يُشكِل جزءا من صيرورة العمل.. تعمقت العلاقة بين الرجلين ورُفِع التكليف بينهما واتخذت صداقتهما بُعدا وجدانيا وحميميا إلى درجة أن "غييو" قد كتب عن صديقه "كامو" في دفاتره سنة 1952 (وكان يراه أثناءها كل يوم في دار "غاليمار") كلاما يٌثمِّن كمال ونقاوة الرجل إذ قال :" أُعِزُّه وأشعر بالإعجاب والإكبار إزاءه؛ ليس فقط من أجل موهبته الكبيرة، ولكن أيضا من أجل أسلوب تدبيره للحياة..".. بل وكان قد حدث أن أسرّ له مرة:"لا أعرف أحدا غيرك يُثقن إضفاء صبغة الحياة على شخوصه كما تفعل أنت..".. وكانت نقطة التباعد الوحيدة بين الرجلين تتعلق بالمناخ والمشاهد الطبيعية التي يختار "كامو" تشكيلها في كتاباته ("أعراس"- 1939 ، مثلا).. فلقد عبّر "غييو" عن رأيه بعد زيارة قام بها ل "بلكور" (حيث كانت تقيم والدة "كامو") ثم "تيبازة"(بالجزائر) مُعتبرا ذلك "إفراطا في الجمال".. إن لم يكن من حظ "لويس غييو" ولا "روجي مارتان دي غار" معرفة تفاصيل طفولة الرجل لأنهما لم يعرفاه إلاّ وهو في قمة مجده، فإن "أبيل بول بيتوس" يكشف في كتابه "عزيزي ألبير..." من خلال رسالة مطولة حررت في بداية السبعينيات (بعد وفاة كامو) عن شظايا من ذكرياته كصديق ل "ألبير" طيلة ردحٍ من أولى سنوات عمرهما (خرجاتهما للنزهة وهم صبيان، شغفهما بكرة القدم، سكيتشاتهما المقتبسة من أفلام رعاة البقر، ونصوصهما التي كان معلمهما، لويس جيرمان، يقرءها في الفصل.. ولم ينس "كامو" أستاذه هذا، إذ أهداه "خطاب ستوكهولم" لأنه هو الذي شجعه على اجتياز مباراة الدخول إلى السلك الثانوي.. تابع "كامو" دراسته ب "الليسي" بينما اختار صديقه "أبيل بول" طريقا آخر أفضى به إلى ارتداء بزة المصنع، ثم الاحتراف في كهرباء وغاز الجزائر.. تفرقت السبل بالصديقين ولم يعد بينهما اتصال منذ أن بلغا سن 18.. لكن "أبيل بول" لم ينس رفيق طفولته الذي طالما كان يضحكه؛ بل إنه لم ينس على الخصوص، توصية "إتيين سانتيس" لابن أخته "ألبير كامو" حين قال رغم صممه وعسر النطق لديه:"إنه ذكي جدا، لكن عليه أن يكون طيِّبا ونزيها.. أن يُحبَّ الفقراء والتعساء، العرب والأصدقاء.. وعليه أن لا ينسى أمه..".. فلم يُخيِّب "ألبير كامو" الظن والرجاء.. «كامو» و هَمُّ الآخرين ... بعد كتابها "ألبير كامو ضد عقوبة الإعدام" (غاليمار،2011)، نشرت "إيف موريزي"، أستاذة الأدب الفرنسي بجامعة "إيفرين كاليفورنيا"، كتابها الجديد "ألبير كامو، هَمُّ الآخرين" لتدافع فيه عن وجهة نظر مفادها أن جزءا كبيرا من أعمال "كامو" يطبعه مفهوم "هَمّ الآخرين".. وتعطي "إيف موريزي" تعريفا لهذا المفهوم يشمل انشغالات مختلفة: أخلاقية وفلسفية وسياسية وإنسانية؛ بحيث انه يرتكز على إبقاء ضمير الكاتب والفيلسوف يَقِظاً ويجعله على الخصوص، يعمل لصالح المستضعفين، من أفراد وجماعات، الذين يهددهم الجوع والبؤس وغياب الحقوق المدنية والسياسية .. يتعلق الأمر هنا بخيط أحمر في حياة وأعمال "كامو"، لكن ليس بشكل تنظيري أو خطاب منبري، أخلاقي وموعظي؛ بل كممارسة ثابر "ألبير" على تطبيقها باستمرارية وتفان .. ف "أن تكون إنسانا -يقول كامو- هو أن تهتم بالآخرين".. لقد كان "كامو" متحدثا باسم الصامتين (أو كما يحلو لمؤلفة الكتاب أن تقول:المتحدث باسم صمت الساكتين)، فقراء الجزائر (آنذاك) من الفرنسيين الذين ينتمي إليهم لأنه وُلِد بينهم.. ويتميّز هؤلاء بالكلام القليل نظرا لنذرة المفردات المستعملة لديهم وأيضا، بسبب طبع الاحتشام والحياء، والأنفة والإباء عندهم.. لقد حاول "كامو" في كتاباته أن يُسمِعَ صوت هؤلاء محترِما ذلك الغياب النسبي للغة عندهم، مُبرِزاً تفاصيل حياتهم اليومية البسيطة والمتواضعة، مُصوِّراً لكل ما يحدث سواء من جانب اللغة أو خارجها، وذلك من خلال بورتريهات توجد في عز الحركة (كعمال صناعة البراميل، مثلا) والإشارة إلى الحركات والنضرات المتفاعلة في صمت؛ بالإضافة إلى تميل الأحاسيس المكبوتة و العميقة في آن واحد.. وفي كير من الأحيان، يتخذ الوصف شكلا حسيا متميزاً بكثير من الثراء.. ضد الإعدام... أما بخصوص موضوع مناهضة "عقوبة الإعدام" من طرف "ألبير كامو" وإن كان موقفه هذا قد ساهم في تطوير العقليات إلى حين إلغاء هذه العقوبة، ترى "إيف موريزي" بإن "أفكار وتأملات "كامو" حول المقصلة" (1957) لم يكن لها أي صدى في حينها، إلا أن مناهضي الإعدام تعرفوا واعترفوا بمساهمة "كامو" في هذا النضال، ومن بينهم "روبير بادينتر" الذي اعتمد هذه المساهمة من ضمن مراجعه في خطابه بالجمعية العامة الفرنسية في شتنبر 1981 .. ويُعتبَر "كامو" - مع "فيكتور هيغو" - الكاتب الفرنسي الأكثر مساهمة في التفكير في عقوبة الإعدام وإظهارها للعيان.. فهو الذي أعاد طرح مشروعيتها للمناقشة في نصوصه حيث عرض حقيقتها.. ويبقى تأثيره في هذا المجال حاضرا إذ تُجبِر روايتاه "الغريب" والطاعون" القارئ على الفهم والإدراك عن قرب لحالة محكوم عليه بالإعدام وهو يحتضر.. «كامو» تحت مقصلة «سارتر» والشيوعيين... بعد صدور كتابه "الإنسان المتمرد"، هوجم "كامو" من طرف "جان ? بول سارتر" الذي لم يتورع من نعته بأبخس الصفات مُعتبِراً إياه "بورجوازياً ساذجاً" و"ثرثاراً يُحسن الكلام"؛ كما اجتهد رفاق دربه في الحزب الشيوعي الفرنسي لجَعله يؤدي من ما اعتبروه جريمة وعملا ضد وحدة الصف: فلقد تجرّأ "كامو"، في كتابه هذا، على إدانة ما أسماه ب "العدمية الثورية" و"الشمولية السوفيتية".. وكادت عواقب هذه الهجمة أن تكون وخيمة إذ أن صاحب "الطاعون"[كما سلف ذكر ذلك أعلاه] قد راودته فكرة الانتحار.. لم ينتحر الرجل، لكن بقي لأحكام هذه الهجمة آثار وانعكاسات على شخصيته وأعماله.. وتشهد رواية "السقطة" على ردّة فعل الكاتب حين يقول:"لقد عرفت أسوء ما يوجد؛ إنها أحكام البشر..".. لكن لا أحد أدرك مدى وكيفية ارتباط هذا الجدل الحقود بالأزمة العميقة التي سيمُر بها الكاتب طيلة سنوات انتابه فيها إحساس بوجوب إعادة كل شيء والتفكير فيه من جديد.. فرغم كونه أضحى كاتبا مُعترفا به عالميا ومن المتوّجين ب"نوبل"، فلقد كتب في دفاتره لسنة 1959:" يجب علي إعادة بناء الحقيقة بعدما عشت طيلة حياتي ضحية لما يشبه أكذوبة".. الحرب على الذات و إعادة البناء في كتابه "من يشهد لصالحنا ؟ ..."، يحاول "بول أودي" إبراز معنى هذا الامتحان الجذري (إعادة بناء الحقيقة) الذي اختار فيه "كامو" أن يكون وجها لوجه مع نفسه حين يضيف قائلا في دفاتره:" أُعلن الحرب على نفسي وسأذمر ذاتي أو أولَد من جديد".. فمدلول هذه الحرب المُعلنة ضد الذات وكذلك رهاناتها، لها أبعاد سياسية، لكن بمعنى أكثر عمقا وحسما من المألوف.. بعيدا عن كل ما يُضاف إلى الملفات الموجودة أصلا والمتعلقة ب"كامو" سياسيا (مُلتزم هو أم ليس بالقدر اللازم، اشتراكي أو فوضوي، يساري أم هو أقل من ذلك، متمرد أم ثوري، غاضب قبل الأوان أم طامع في أن يُعترف به)؛ بعيدا عن كل هذا، يحاول "بول أودي" تسليط الضوء على ما مس "كامو" في حميميته حينما اتهمه "سارتر" بكونه أصبح "بورجوازيا".. فالجرح ليس مرتبطا بهذه التهمة بالذات، لأن "كامو"، حينما أصبح كاتبا ومشهورا، لم ينتقم فقط لطفولته كفقير ولوالدته التي كانت تعمل خادمة تنظيف مُصِرّة على الصمت؛ بل إنه، بمعنى مُعيّن،قد خان ذلك كله أيضا.. لقد ربط "كامو" بين ذلك الوجه الأمومي الصامت بسبب انعدام المال والإمكانات وبين هذا الإحساس بالهجر والانفصال الذي يتسلل بين سطور مضمونية وتيمات المنفى والغريب والحياة نفسها، كما تُعبِّر عن ذلك نهاية رواية "الطاعون".. إن المهمة التي أراد "كامو" الاضطلاع بها كشاهد، تقوم على تحطيم ذلك "الصمت" وهو مقتنع بأن "الكلام" قادر على إصلاح ما فسد وعلى وضْعِ حدّ للامبالاة.. لكن هنا بالضبط، يبدأ كل شيء في الاهتزاز والتأرجح.. فعندما أصبح "ألبير كامو" كاتبا، أي ذلك الذي يقول ما هو كائن بأدق صياغة ممكنة، فلقد أصبح أيضا خائنا و"بورجوازيا، لكن ليس فقط من وجهة نظر اجتماعية، وإنما بسبب مشروعه الأساسي كذلك؛ ليتملكه، نتيجة لذلك، إحساس بالذنب،ليس بسبب ولوجه الناجح عالم ومجتمع الصالونات، ولكن بسبب النجاح المرتبط بعمله ومجهوده، بكتاباته والتزامه.. بهذا تصبح الأزمة أكثر عمقا وحيوية ولهذا قرر "كامو" الدخول في حرب مع نفسه.. وفي نهاية هذا الصراع الجذري مع الذات وبعد أن يعرف إعادة ولادته وبناءه الذاتي، يصل إلى التفكير في كون "الكلام" قادر على الإصلاح، ولكن أيضا على التفرقة، وأن "الصمت" ليس فقط مجرد "لامبالاة"، بل إنه أيضا حب يمكن كتابته والتعبير عنه، لكن ليس من أجل تحطيم ذلك الصمت وإنما بُغية إتمامه وتكميله في أحسن صورة.. بتعبير آخر: لقد كان هذا المسلَك وهذه الأزمة وهذا الالتواء وهذا الانعتاق السياسي، ضرورة لكي يتصالح "كامو" مع "الأم" و"الفقر" و"الصمت".. مع ذلك، لا يجب أن نخطئ التقدير باعتبار عمل "بول أودي" هذا تأويلا فلسفيا وتحليلا نفسيا لصراع حميمي وداخلي؛ بل بالعكس.. فإنْ قام هذا الفيلسوف بسبر وتقصي مشوار "ألبير كامو"، فذلك من أجل التعمّق في مسألة من الصعوبة بمكان، وهي العلاقات الرابطة بين العدل والأحكام لأن النمط الثابت الذي يحكم العلاقات البشرية هو تلك الأحكام التي يصدرها البعض عل البعض الآخر والتي قد تحس وتقتل.. ف "جهنم" ليست هي الآخرين؛ بل أحكامهم... ... في 1947، سجل "أرتود" عمله "لنتخلص من الآلهة" وتساءل "كامو" عن كيفية الخلاص من أحكام البشر.. سؤال كم لبث يؤرقه، لكن شساعته حتما قد كانت تتجاوزه.. لهذا، وبدون الإغفال عن "كامو"، خصص "بول أودي" نصف كتابه الثاني ليباشر، في شكل حوار، استكشاف هذا المشكل الشاسع مُستحضِراً كلا من "لاكان" و"نيتشه" و"غونتر أندرس" وآخرون.. ويُعتبر أيضا هذا التفكير حول "إيتيكية ومكانة "الأحكام" في العلاقات البشرية لازماً ومثيرا للشغف والاهتمام.. هكذا يتابع "بول أودي" إعداد وتكوّن فكر يمكن أن يكون حاضرا بلا منازع ضمن صف الفكر الأكثر أصالة في هذا العصر.. عن جريدة «لوموند»