أصدر الكاتب حميد زناز كتابا جديدا تحت عنوان: والفيلسوف إذا سئل/ لماذا اختار البير كامو أمه؟ ويطرح الكتاب مسألة أسالت كثيرا من الحبر ولا تزال، هي موقف ألبير كامو من الثورة الجزائرية واستقلال الجزائر عن فرنسا. اخترنا للقراء المقطع التالي تحت عنوان: جزائري أم غريب الوجه والديار؟ ذهب وترك البلد في حرب ولم يكن قد تجاوز السابعة والأربعين. ويمضي أكثر من نصف قرن على وفاته ذات 4 يناير من سنة 1960 في ذلك الحادث المروري العبثي الأليم ولا يزال عرضة للنقد وللتكريم وموضوع خلاف وانقسام بين الناس في فرنسا كما في الجزائر. ولئن انتصر أدبيا على خصومه وبات من أكثر الكتاب انتشارا في العالم فلا تزال مواقفه حيال حرب الجزائر مثار جدال كبير وتبقى ذكراه مرتبطة وإلى اليوم بتلك المأساة. مأساة الشعبين معا، الشعب الذي ضحى بأبنائه والشعب الذي ترك الديار مغلوبا. في كتاب صادر بالجزائر اختارت له كريستين شولي عاشور عنوانا مباشرا « كامو والجزائر» ، حاولت أن تجيب عبره على أكثر الأسئلة طرحا وجدالا حول علاقة الفيلسوف بالجزائر و الجزائريين. و ما إذا كان جزائريا أم فرنسيا أم هما معا؟ من البديهي أنه لا يمكن فصل كامو عن الجزائر حتى وإن أردنا أن نتعامل مع النص الكاموي كنص من أجل النص، لأنّ النّصوص متجذرة بعمق في هذا البلد الذي أحب شمسه و تغذى منه كيانه وإحساسه. وبادئ ذي بدء تؤكد الأكاديمية الجزائرية أن الجزائر هي "مفتاح من المفاتيح التي لا يمكن الاستغناء عنها لفهم الإنسان والكاتب." وتذكرنا كريستيان في هذا المعنى بما كتبه ألبير كامو ذاته في مقدمة كتابه ‘المنفى والملكوت:"يحتفظ كل فنان في أعماقه بينبوع وحيد ينهل منه طول حياته ماهيته و كل ما يقوله. وبالنسبة لي أعرف أن معيني هو في المنفى والملكوت، في عالم الفقر والنور، هذا الذي عشت فيه طويلا." وعلى النقيض من أغلبية الباحثين الجزائريين الآخرين الذين يكتبون من أجل تأكيد وتبرير فكرتهم حول ألبير كامو "الكولونيالي"، فإن كريستيان عاشور شولي، وربّما هذا ما يعطي أهمية كبرى لعملها، لا تبدي رأيا مباشرا في مسألة العلاقة الإشكالية بين كامو وحرب التحرير الجزائرية، بل تعيد القارئ إلى كتابات غيرها في الموضوع، كما تعود إلى نصوص كامو نفسها لتبين أن هذا الروائي كان فعلا مع العدالة وإلى جانب الشعب الجزائري دائما. وبخصوص ذلك المشهد الشهير الذي أثار من الحبر وديانا والمتعلق بالجريمة التي ارتكبها مورسو بطل رواية ‘الغريب'على الشاطيء حيث قتل «العربي». تقدم السيدة كريستيان شولي قراءة مغايرة للمشهد بل وتعرض قراءة غير مألوفة لهذه الرواية المنشورة سنة 1942 فتقول أنه ينبغي أن ننظر إليها كنص كتب في هذا السياق التاريخي المحدد وأن نقرأه في هذا الإطار ولكن دون إخفاء كل الانتقادات التي وجهت له بخصوص خلوه من الجزائريين ما عدا العربي المقتول. ف'الغريب' رواية أحدثت حسبها قطيعة مع الرواية ‘الجزائرانية'، تلك التي كانت تشيد بعظمة الإستعمار. فمورسو حوكم في هذه الرواية لأنه قتل عربيا ولو أن الحكم الصادر في نهاية الأمر كان عقابا له على عدم اكتراثه بموت والدته. وفي المحصلة لقد استطاع ألبير كامو أن يبدع قصة خيالية انطلاقا من مادة جزائرية متجاوزا الأسلوب الدعائي الذي كان يطبع الرواية الكولونيالية، وبهذا أدخل الجزائر وتناقضاتها الإثنية إلى رحاب الأنسانوية الجمهورية. لقد جعل من رواية جزائرية (نسبة إلى مدينة الجزائر) رواية كلاسيكية من أهم الأعمال الأدبية الفرنسية. تدافع الكاتبة في هذا الكتاب " كامو والجزائر" عن ضرورة التفريق لدى كامو بين الكتابة التخييلية التي يستخدم فيها الأسلوب الرمزي من أجل تصوير وإدانة الوضع الكولونيالي الواقعي بشكل ضمني والمواقف التي اتخذها في الحياة الواقعية كمثل تلك المعبر عنها في الكتابة الصحفية حيث كتب على سبيل المثال في جريدة الاكسبريس سنة 1956 في عز الحرب في الجزائر: " لقد اخترت بلدي. اخترت الجزائر التي يعيش فيها الفرنسيون والعرب في اتحاد وبحرية." ولئن كان الرجل شبه ممزق بين جماعته الاثنية الأصلية وقناعاته الفلسفية والسياسية، فإن كتاباته تفضح بكل وضوح ذلك الظلم الاستعماري الذي كان مسلطا على السكان الأصليين، بل وعبثية الوضع الاستعماري برمته. ولكن لماذا نسي الجزائريون كل مواقف الرجل السابقة وكيف لتلك الجملة الشهيرة التي بُترت من سياقها العام أن تمحي كل مواقفه وتختزله فقط في ذلك القائل في ستوكهولم ذات 12 يناير 1957: «أؤمن بالعدالة و لكنني أدافع عن أمي قبل العدالة»؟ ولكن ماذا وقع بالفعل في ذلك اليوم الكاموي المشؤوم؟ في تلك الندوة الجانبية المنظمة مع الطلبة على هامش الاحتفال بمراسيم تسلمه جائزة نوبل، سأله شاب جزائري يدعى سعيد كسال كان مقيما بالسويد بصرامة عن صمته حيال ما يحدث في الجزائر آنذلك: " لقد وقّعت على كثير من العرائض لصالح البلدان الشرقية ولكنّك ومنذ ثلاث سنوات لم تفعل شيئا من أجل الجزائر ولم تقم بإدانة القمع الاستعماري؟ " واختتم تدخله الطويل الغاضب قائلا: «تحيا الجزائر الحرَّة! « أحسَّ كامو بظلم شديد واضطر أن يجيب بعد أن حاول سعيد كسال مقاطعته عدة مرات فقال: «لقد فرضتُ على نفسي الصمت خلال عام وثمانية أشهر وهذا لا يعني أنني توقفت عن الفعل. لقد كنت ولا أزال دائما نصير جزائر عادلة ينبغي أن يعيش فيها الشعبان في سلام ومساواة. لقد قلت ورددت أنه يجب أن ينعم الشعب الجزائري بالعدالة..لقد بدا لي أنه من الأحسن انتظار وقت مناسب لأجمع بدل أن أفرّق… لقد نددت دائما بالرعب. ويجب علي أن أندد بالإرهاب الذي يمارس بلا أدنى تبصر في شوارع مدينة الجزائر مثلا والذي يمكن أن يضرب أمي أو عائلتي في يوم من الأيام. أؤمن بالعدالة و لكنني أدافع عن أمي قبل العدالة». كان كارل غوستاف بورستروم مترجم كامو الشهير حاضرا بجانب دومينيك برمان صحفي جريدة «لومند» الوحيد الذي نقل الجملة القاتلة: «أؤمن بالعدالة و لكنني أدافع عن أمي قبل العدالة «، والتي استقبلها مدير جريدة لومند آنذاك هربرتبوف ميري بسعادة عظمى قائلا: «كنت على يقين بأنه سيقول حماقات.» ونشرها يوم 14 يناير بتلك الصيغة المبتورة عمدا وتناقلتها الصحافة الدولية وتمّ تأويلها تأويلات لا تعد و لا تحصى. وأدت تلك الضجة الإعلامية إلى اختصار ما قاله الكاتب في جملة واحدة سهلة " بين العدالة وأمي أختار أمي." وهي صيغة لم يتلفظ بها الرجل ولم يكن قصده المفاضلة بين العدالة وأرض مولده بل كان يريد شجب العنف. ولكن مترجم كامو قدّم بعض التدقيق إلى أوليفيه تود الذي كان يحضر لكتابه الشهير عن حياة كامو: "من حيث الشكل و المضمون كان يريد القول إذا كان هذا ما تقصدون به من كلمة عدالة، إذا كانت تلك عدالتكم وإذا كانت أمي في قطار تراموي في مدينة الجزائر فإذن أنا أفضّل أمي عن هذه العدالة." وتطرف بعض الفرنسيين في تأويل العبارة فرأوا أن كامو قد برهن أنه يفضل أمه على 10 ملايين من العرب. ولم تترك سيمون دو بوفوار الفرصة تمرّ للانتقام منه بسبب رفضه أن يكون عشيقا لها في زمن مضى فكتبت أن «بقوله هذه الجملة قد انحاز صاحب نوبل الجديد لمعسكر الأقدام السود». ولم يفهم الفيلسوف ميشال أونفري صاحب أهم عمل حول كامو وأدبه ما فهمته سيمون دو بوفوار فيقول: «اختيار الأم هنا أو في مكان آخر، كما في استكهولم، هذا يعني الانحياز لمعسكر الناس البسطاء الذين لا صوت لهم. هو الانحياز لحزب الشعب ضد الأقوياء حتى و إن كانوا معارضة. تحت ظل أمه الدائم كان كامو صوت من لا صوت لهم. كان صوت كائنات بلا كلمات». ينبغي أن نعيد وضع قوله في إطاره الصحيح وفي الظروف التي قيل فيها أولا ثم الاشارة إلى إن كامو كان رجلا حذرا إذ كان يحضر تدخلاته كتابة ويقرؤها وربَّما كثرة الأسئلة والصَّخب الَّذي أحدثه الشاب الجزائري في القاعة قد أربكه بعض الشيء. وفعلا لقد دام التبادل القوي بين سعيد وألبير وقتا ليس بالقصير حيث عاد الشاب الجزائري عدة مرات للجدل وهو ما أشار إليه أحد كتاب سيرة كامو الأمريكيين حينما قال : «لقد أمطره رصاصا». وبعد حادثة ستوكهولم و عودة كامو إلى باريس تلقى رسالة من جمعية الجزائريين المقيمين في السويد تأسف كاتبوها عما حدث في الجامعة وأكَّدت الرسالة أن الشَّاب الجزائري الَّذي بدا قليل التَّهذيب لا يمثل إلَّا نفسه وأنَّه لا ينتمي إلى منظمتهم أو إلى أية مجموعة جزائريَّة في السويد. وهو ما أكّده سعيد كسال بعد سنوات والَّذي تحوَّل إلى كاموي متحمّس، وذهب فيما بعد حتَّى إلى لوماران لوضع إكليل من الورود على قبر كامو. ويقول جوزي لينزيني أنَّه تحصَّل على عنوان كسال عن طريق كاتب ياسين وراسله حينما كان يعد لكتابه ‘جزائر كامو' من أجل تسجيل شهادته فرد عليه كسال عن طريق بطاقة بريديَّة كتب على ظهرها جملة واحدة «مات كامو وليس لي ما أقول» ويضيف الكاتب أنّه لزم الصمت رغم إلحاحي. ويحكي جوزي لينزيني أنَّه قابل سعيد كسال وهو في الثمانين من العمر ولا يزال يعيش في السويد وقد تحدَّث معه عن مشاجرته مع كامو الّتي غدت تاريخيَّة، وقد ردّ سعيد موقفه ذاك إلى حماسة الشَّباب وغضبه الشَّديد من الطَّريقة التي أجابه بها كامو. كما اعترف بأنَّه لم يكن في ذلك الوقت يعرف شيئا عن أعمال كامو الأدبيَّة. قال أنّ مثابرته على قراءة كامو لاحقا قد خلخلته لا سيّما مقالات كامو حول منطقة القبائل إذ كان هو نفسه قبائليًّا. وكامو نفسه حينما عاد إلى باريس من ستوكهولم كتب إلى جريدة لوموند قائلا عن سعيد كسال: «لم يكن وجهه يحمل الكره وإنَّما اليأس والشَّقاء. اقتسم معه هذا الشَّقاء فوجهه وجه بلدي». لقد راح كامو ضحية مرَّتين على الأقلّ فأوَّلا لم يصفح له المثقّفون الفرنسيون ذوي الأصول الفرنسيَّة القحة هذا النّجاح الباهر لرجل جاء من لا شيء، من خارج فرنسا ومن عائلة فقيرة وغير ماركسي الاتجاه كما كانت الموضة. فوجدوا ذريعة لدفنه أدبيًّا. وثانيا يرى كثيرون أن كامو كان ضحية لذلك الخطاب الرسمي الَّذي انتهجته السلطات الجزائرية بعد الاستقلال مباشرة ألا وهو الخطاب الذي يؤكد على هوية الجزائر العربية-الإسلامية وحدها والمبعد لكل ما هو غير ذلك، وبكلمة واحدة يقصدون محاولة التنصل من التَّعدديَّة الثَّقافيَّة الجزائريَّة. ولا يمكن أن نغفل أنّ كامو كان ومازال فريسة مواتية للمتعصبين، يحاولون من خلالها فرض أفكار سياسيَّة معينة بغية تزييف تاريخ البلد لخدمة أهدافهم الإقصائية. ولا يتوانى متعصبو الضفة الأخرى، الَّذين لم يهضموا بعد انفصال الجزائر عن فرنسا في محاولة مستميتة لاستعمال صاحب نوبل من أجل تمجيد الاستعمار أو استثماره كرمز في عقد مصالحة ما بين الجزائروفرنسا.