في كتاب «النظام التحرري» الصادر حديثاً في باريس عن «دار فلاماريون» يعيد الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي الكاتب والفيلسوف والمؤلف المسرحي والروائي الفرنسي ألبير كامو إلى مكانه الذي أُبعد عنه بعد محاربته على أكثر من جبهة. وعبر صفحات هذا الكتاب، الذي يسرد وقائع حياة ونضال المفكر الكبير الحائز على «جائزة نوبل» والذي قضى في حادثة سيارة، يشرح أونفراي بأسلوبه المباشر والجريء كيف حورب كامو بالتهميش وبإقصائه عن الساحة الثقافة والفكرية، ويستشهد بتفاصيل دقيقة تضع كل التجربة النضالية التي خاضها صاحب «الإنسان المتمرد» في حياته ،و يضعه مجدداً ليس فقط على لائحة مفكري عصره بل على لائحة «فلاسفة القرن الحادي والعشرين» لما تضمنته أفكاره من أبعاد فلسفية تحاكي هذا العصر. واجهت الصحافة الفرنسية صدور هذا الكتاب بالحفاوة معتبرة أن «الحق عاد الى أصحابه» وان الكاتب المسرحي والمفكر والفيلسوف المناضل ألبير كامو صاحب رائعته «الغريب»، الكتاب الذي أذهل العالم، لم يكن كما صوّره معاصروه وعلى رأسهم جان بول سارتر وجماعته «الذين اعتقدوا بأنهم عبر سيطرتهم على الساحة الفكرية في فرنسا في تلك الحقبة الملتهبة يمكن أن يلغوا من يريدون ويفرضوا من يريدون أن يبقى». كتاب «النظام التحرري» يضع كامو في مصاف المرشد والسبّاق الى محاربة التوتاليتارية التي كانت بدأت تظهر بوادرها بقوة في ذلك الحين، وفي موقعه كمناضل كرّس الحرية والتحرر الى حدّ الفوضى والعبث مع الأفكار الجاهزة والمدارس المترسخة في الثقافات والحضارات... وفي 600 صفحة يعيد أونفراي ألبير كامو الى الحياة، يجعله يتحرك أمامنا ويشاركنا المظاهرات والثورات. وعبر فصول الكتاب، يبدو للقارئ ان كامو يقوم من سبات السنوات التي دفن فيها مع أفكار جاهزة أطلقها بعض المتطفلين على أنه «فيلسوف لتلامذة المدارس» ليتربع من جديد في صدارة لائحة فلاسفة عصره، وليس من برهان آخر اعتمده أونفراي وهو الأهمية الكبرى التي حصدتها كل مؤلفات كامو عبر العالم والتي وصلت الى ملايين النسخ المترجمة والمبيعة في عواصم العالم والتي تؤكد أهميته وإبداعه اللذين لم يتمكن أعداؤه من دفنهما. وليس لأن الحق سيظهر ولو بعد حين، بل لأن مؤلفات كامو وحدها تؤكد هذا الأمر عبر نضارتها واستمرارها عابرة القارات وعابرة الزمن... نقتطف من الكتاب بعض الفصول وننقلها الى العربية: كيف تصبح ابناً مخلصاً؟ عام 1945، أطلق كامو مفتاحاً ليشرّع الأبواب أمام احدى النظريات التي أطلقها: الرجل الذي كنت سأكونه لو لم أكن الولد الذي صرتهُ!». انها طفولته التي عاشها من دون أبّ ولكن مع ذكريات نابعة من هذا الأخير، طفولته من دون أمّ الى حدّ ما وذاك لأنها كانت تعاني من الصمم والبكم غير انها كانت حاضرة في حياته عبر ذاك الصمت الهائل مثل القلعة، طفولته أيضاً مع جدّة عنيفة وغير عادلة وقاسية وشريرة، وأيضاً طفولته المباركة بالشمس والبحر والشواطئ والسباحة والرمل والماء، وشاطئ المتوسط. وأيضاً الصداقات والضحك والفتيات، والطبيعة والضوء، والرياضة والمرح، كذلك تلك الطفولة التي أنقذها العلم والمعرفة والثقافة، وأيضاً القراءة والكتب وبعدها الكتابة والنشر مع استاذه لويس جيرمان، ومن ثم بروفسور الفلسفة جان غرونييه هذه الطفولة بالتحديد تكشف سرّ التكوين العضوي لحساسيته المفرطة، ولطبعه الفوضوي، والكلمة التي تصفه بقوة رفضه التبعية وبالتالي حب القيادة. هذا الكشف النفسي يترافق مع اختبارات. فهو لا يولد هكذا بلحظة بل يخضع الى كيمياء غريبة يمكن أن نسرد تفاصيلها بعد حين من دون أن نتوصل معها أيضاً الى فهم الأسباب التي أدت بهذا الولد الى أن يختار أن يناضل ضد الظلم الذي عاشه في حياته الشخصية ولم يشرّحه، ويتوقف عنده مطولاً في تكرار للصدمة التي كان يمكن أن تدمرّه. وقد خرج كامو من هذه التجارب سليماً، فهو لم يحمل المشاعر المرضية والحزينة ولا مشاعر الكره والحقد أو الرغبة في الانتقام أو الضغينة الحيوانية الشرسة. لماذا قرر كامو أن يتحدث دوماً عن أخلاقيات والده وعن نعومة والدته الفائقة في حين كان يمكن أن يأخذ موقفاً معادياً تماماً كما فعل سارتر الذي أمضى حياته وهو يكتب عن رغبته في شنق وتدمير الأغنياء والبرجوازيين. ولقد اختار أيضاً أن يكون مخلصاً لصورة والده المتوفى وصورة والدته البكماء، ويوجه فكره وحياته في نضال ضد الظلم، وفي قتال الى جانب الملتزمين بأفكار مثل أفكاره. والدة بلا كلمات حين يكون انسان من النوع الذي يتكلم قليلاً أو نادراً أو قد يكون منطوياً على نفسه داخل صمت أو بكم شبه مرضي فأي كلمة أو لفظة منه قد تعتبر مثل غبار الذهب الذي يلتمع في ليل الوجودية. كانت صامتة، خاضعة، ناعمة وهادئة، تلك هي والدة كامو التي لم تلفظ يوماً كلمة بالسوء عن أحد، كما لم تشتكي يوماً. كما انها لم تضحك يوماً، ربما ابتسمت قليلاً في مناسبات محددة. وبما أنها كانت خاضعة ومنضبطة، لم تقدّم يوماً اعتراضاً حول نظام الأشياء من حولها أو حول حركة العالم. فهي عاشت كل حياتها ضمن اطار الشقة المفروشة الصغيرة: مفروشات قليلة تفي بالغرض، فقط لإمضاء حياة طبيعية هادئة ومتواضعة(...). من هنا أهمية الجملة التي قالتها ذات يوم أحد حين كان شقيق كامو يعزف على آلة الكمان ويغني، وكل هذا ليعطي شيئاً من الفرح للعائلة المجتمعة بوجود الجدة. كانت الوالدة كاترين كامو تجلس في زاوية من دون أي تعليق وبصمت. فجاءت احدى العمّات لتهنئها بابنها، فنظرت الأم الى الصبي بحنان وصدق وقالت: «أجل، انه جيد، انه ذكيّ!» وكان تصريح بالحب مختصر وواضح، لكنه أفرح الولد بقوة. وهو الذي كان يحب والدته بجنون اكتشف ان هذه الأخيرة تبادله المشاعر بنفس القوة، وذلك بعد أن راودته الشكوك طويلاً. رجل أول وفي المعلومات والنقاط التحضيرية التي وضعها كامو لمؤلفه «رجل أول»، ذكر في احدى الصفحات انه يرغب في الاستمرار في هذه الفصول وبقوة ليتوصل الى أن يعطي صوتاً لأمه. وهو يعود في هذه الأوراق أيضاً الى قصص سبق أن سمعها عنها ولكن في «لغته المحدودة» والتي «... لا تتعدى 400 كلمة». ولقد أهدى الابن هذا الكتاب الى أمه التي لا تعرف القراءة. ولقد جعل موت المؤلف كتاب «رجل أول» كتابه الأخير. أما الكلمات الأولى من هذا المؤلف غير المنجز فهي: «الى شفيعة الكتاب: السيدة كامو: إليكِ أنتِ التي لا يمكن أن تتمكني يوماً من قراءة هذا الكتاب». وفقر الفقراء قد يتجسد أيضاً في فقر تعابيرهم. والولد كامو اكتشف ذات يوم أن الأغراض في بيوت الأغنياء لها أسماء لم يسمعها في حياته، وهي غير موجودة في منزله. ففي بيت بورجوازي قد نسمع الحديث عن «غرض موقّع بإسم «فوج»، أو «كيمبر» ولكن في منزل الفقراء، فلا نجد سوى الصحون الكبيرة والفارغة أو المزهرية الضخمة الموضوعة فوق الموقد الحطبي أو ابريق الماء... عند البعض، قد نجد أغراضاً لا فائدة منها، مكتبات صغيرة أو بعض التحف الفنية أو نسخات عنها، وعند آخرين قد لا نجد شيئاً ذات أهمية. وكامو قد نقل هذه البساطة في لغته وكتاباته وأسلوبه: أسلوب فعال بسيط، واضح، مباشر، لا يعرف الزوائد غير المفيدة ويذهب مباشرة الى الضروري. هو نثر مفيد ليقول به الأشياء واضحة وحقيقية. إذاً، الأم كانت المحاور الصامت في فلسفته حيث الفقر والمآسي والصمت والخضوع... كلها عناصر تشكل عالم المنسيين والخارجين عن إطار السعادة، هذا هو العالم الذي ينتمي اليه كامو. وحين يختار كامو والدته لتكون هنا أو هناك وفي ستوكهولم مثلاً الى جانبه، فهذا يعني أنه يختار الناس البسطاء والذين هم «من دون صوت» أي انه حزب الشعب ضد الأقوياء. وفي ظل صورة أمّه الدائمة، كان كامو يشكل صوت الناس الذين لا صوت لهم، وقول الناس الذين لا كلمة لديهم(...). مرض السل اكتشف كامو إصابته بالسل في يناير 1930 وكان في السابعة عشرة. وقبل قيامه بالفحوصات الطبية التي أثبتت ذلك، كان بدأ يلاحظ بعض الاشارات: التعب، السعال الدائم، طعم الدم في الفم، ومن ثم بصق الدم وصولاً الى فقدانه للوعي بين الحين والآخر. وبما انه كان يمتلك التأمين الصحي في موطنه، أدخل الى المستشفى لإجراء الفحوصات الطبية مجاناً: استشفاء، صور شعاعية، معاينات طبية.. وبدأت رحلته الوجودية مع المرض ودخل معها في رؤية تراجيدية وسوداوية للحياة تداخلت مع فلسفته العبثية التي تربط سنوات حياته القصيرة بالكون الأبدي(...). أما نتائج الاصابة بهذا المرض فنعرفها مع متابعة خط حياة كامو الوجودي: فهو توقف عن الدراسة ولمّا يزل في المدرسة، وامتنع عن ممارسة الرياضة كالسباحة وكرة القدم، وصار يزور المستشفى ويصدمه موت مرضى كانوا مصابين بالسل ويشاركونه غرفته، ويعيش قلق الاختبارات الطبية والفحوصات ومعرفة مدى اصابته وإحساسه باقترابه من الموت وتحمل العلاجات الصعبة وبالتالي تخليه عن المنزل لفترات طويلة والبقاء في المستشفى، وهذا يعني ابتعاده عن أمه وسكنه عند عمه لقرب منزله من مركز العلاج، وبعدها تخلى عن حلمه بأن يصبح أستاذاً جامعياً في الفلسفة. وحين تقدم الى الجيش رُفض طلبه عام 1939 فأمضى حياته القصيرة متيقظاً خائفاً من أي نكسة صحية أو من أي اشارة تدلّ على تفاقم المرض. وبعد حين صار يخاف التعرض لأزمة صحية وهو بين ذراعي امرأة يحبها. وأخيراً فهم ان إيروس وتاناتوس هما وجهان لعملة واحدة(...). ولنفس الأسباب التي منعت نيتشيه من متابعة دراسته الجامعية، وربما لحسن حظ قرائه، كذلك امتنع كامو وأكمل تحصيله العلمي خارج المعاهد: فهو لم يتخرج من «جامعة «أ.ن.س» التي كان نيزان يقول عنها انها «المعهد العادي ويقال انه العالي». وهكذا فقد أبعده مرض رئته عن مرض آخر هو عادة يصيب النخبة المتخرجة من تلك المعاهد والجامعات وهو مرض «الذكاء»، حيث هناك وفي ذلك الحبس تتم معالجة وتربية ذاك «الدم الأزرق الخاص بالجمهورية» ويقام تكريس «للأفكار» و»لعبادة ديانة هذه الأفكار». وكامو لم تمسّه هذه النظريات المدجنة ايديولوجياً حول المجتمعات من حوله، بل تمكّن من أن يغرف وبسهولة من نبع غير ملوث مياهه صافية نقية وهو نبع عالمه الطفولي الذي عرف الفقر والحرمان غير أنه كان غنياً بالأحاسيس المفرطة. أعراس في تيبازا والكتاب الذي عنوانه «أعراس» بدأ بفصل هو «أعراس تيبازا» وهو أقرب الى التحفة الأدبية الصرفة(...) وفي حوالي ست صفحات مكتوبة بريشة شاعر ملهم، كتابات نثرية وفلسفية تذكّر بقصائد ومؤلفات لفلاسفة وكتاب عرفوا بفئة «ما قبل السقراطية». كتابات حيث لا نظريات ولا أفكار مسبقة ولا حجج منطقية ولا استنتاجات صعبة، وفي نهاية المطاف غير مجدية، ولا شيء من قبيل تلك «الورشة» الفلسفية الابولونية التي كانت تسيطر في النظام الحاكم آنذاك، ولكن بالمقابل كتابات «ديونيسوسيّة» (نسبة الى ديونيسوس) حيث تتوالى الصور المحسوبة فقط على الأحاسيس وعلى الغنائيات والأفكار الايجابية، وكلها ممسوكة بقوة ضمن ايقاعات «تغني» الواقع وتقود القارئ من حيث لا يدري ليصل الى الدرب التي يبغي الكاتب الوصول اليها(...). أما الفلسفة «المسيطرة» في حقبة كامو فقد وضعت يدها وبعنف على «كتاباته». وقد تم «خطف» مناخات ومؤلفات هذا الرجل من قبل القبيلة من الضفة الأخرى التي كان جان بول سارتر وأتباعه يمسكون فيها بيد من حديد وانطلاقاً من مفاهيمهم البورجوازية كانوا يمارسون «الفلسفة المنطلقة من الجامعة الفرنسية الخاصة بالقرن التاسع عشر» والمتأثرة بالمثال الخاص بالجامعة الألمانية في ذلك الحين. والهجوم الذي تم شنّه على كامو من منظار «من فمك أدينك» أو «أواجهك بكلامك» أُعلنت الحرب على كامو وعلى مؤلفاته (...) غير أن الجدل لم يقع أيضاً بينه وبين «عشيرة فلاسفة سارتر» على أساس أن كامو دون مستوى الخوض معه في نقاش فلسفي وذلك لأنه لا يتحدر من «الجامعة الفرنسية» المكرسة آنذاك مع منظومة انه لا يجدر «اجراء حوار فلسفي مع كاتب دون مستوى الفلسفة»(...). أما «الرجل الأول» لكامو فكان يحتوي على برنامج فلسفي وجودي بامتياز: «نحاول أن نعيش أخيراً ما نفكر به وفي الوقت نفسه الذي نحاول فيه ان نفكر بطريقة سليمة حول حياتنا وزمننا»... من هنا: قد تغير بعض المؤلفات حياة القارئ، وقد يعود اليها هذا الأخير وهو يرتجف لمجرد احساسه أنه سيعيش لحظات السعادة التي تولدها، ومن هذه المؤلفات التي تفعل فعلها بالقارئ: «التجارب» لمونتانيي و»الأفكار» لباسكال و»الأعراس» لكامو. محاولة اغتيال كامو من قبل سارتر اذا كان القرن العشرون، بشكل أو بآخر، هو قرن جان بول سارتر صاحب «الغثيان» فذلك لأن سارتر حاول ان يفعل كل ما بوسعه للوصول الى أهدافه. وفي مخططه الذي وضعه ليسيطر على القوة الفكرية والثقافية في فرنسا، لم يتراجع أمام أي صعوبة. وثمة أمور كثيرة ساهمت في صعوده: نيزان اختزل الموقف حين قتل في معركة دانكرك عام 1940، كذلك قُتل بوليتزر في مقاومته منذ 1940 ومات بالرصاص النازي في «قمة فاليريان» عام 1942. أما كامو فودّع الحياة في حادثة سيارة عام 1960، كذلك رحل بعد عام الفيلسوف ميرلو بونتي بعد تعرضه لأزمة صحية. أما المفكر ريمون آرون فلم يكن في حسابات سارتر لأنه كان في الجهة المقابلة للمعركة الفكرية، فقد كان مع اليمين. وهكذا انفتح الطريق واسعاً أمام حامل لقب «الفيلسوف»... كان كامو في مرحلة ما الخصم الفلسفي الأول والرهيب. ولكي يربح المعركة ضده، أطلق سارتر كلابه ضده. ولم يكن سارتر يفهم كثيراً في الشأن السياسي: فهو لم يعش التجارب مثل صعود النازية مع انه عاش في ألمانيا، وعام 1933، استغل الظرف حين قدم له الفاشيون الايطاليون بطاقتي زيارة له ولصديقته سيمون دوبوفوار لتمضية فرصة في ايطاليا. وبعد هذا انضم الى صفوف المقاومة ونشر في صحيفة «كوميديا» التابعة لهم عام 1941 وبعدها عام 1944 كما دعم بوفوار علناً حين كانت تعمل في «راديو فيشي»... في ذلك الحين، كان كامو يرغب بقوة بالانضمام الى القوات الفرنسية منذ 1939 فتم رفضه لإصابته بداء السل. وفي أوران، راح يعمل في اعطاء الدروس الخصوصية لأولاد تابعين لعائلات يهودية لأن حكومة فيشي منعتهم آنذاك من الالتحاق بالمدارس الفرنسية. فانخرط في المقاومة ونشر في بعض المجلات ثم أدار صحيفة ممنوعة وكتب فيها عدداً كبيراً من مقالاته. وهكذا نفهم لماذا انزعج سارتر من هذا الوضع حيال كامو ما بعد الحرب وذلك لأنه كان يرغب أن يبقى وحده على الساحة. وكان أسلوبه الذي طبقه بأن تجاهل عن قصد كل أعمال كامو وأفكاره. وقد أعطى هو وأتباعه بعض الحجج وعلّلها بالكلام التالي: «إنه غير قادر على فهم الفلسفة والفلاسفة، كامو هو مجرد قارئ من الدرجة الثانية، وهو مفكر لليمين وللبورجوازيين، وهو يسقي الماء «للبيض الصغار» و»للأقدام السوداء». كما وصفه بروشييه من أتباع سارتر أيضاً بأنه «قد أصبح فيلسوفاً يدرّس الصفوف الثانوية، في المدارس». أما بروشييه الذي كان يكتب المناشير لسارتر وغيره فقد كان متخصصاً ما قبل امتهانه الفلسفة السارترية بالصيد والتبغ ونبيذ بورغونيي وذلك قبل أن يتحول الى الفيمونولوجيا، وبروشييه هذا تحول بعدها الى جماعة بيتان (ولقد كتب عن خطواته هذه كاملة برنار هنري ليفي في كتابه «عصر سارتر» ص 420 421) وبعدها التحق بجماعة جوزف جوميرتر الذين وقفوا في وجه «الثوار الكاثوليك»!. معادلات سارترية وما سُمّي «بحرب الجزائر» سيعطي سارتر وأتباعه الحجة الرئيسية للانطلاق نحو هدف تحجيم وتهميش كامو بشكل عنيف(...). لم يحب أحد الجزائر كما أحبها ألبير كامو، فهي الأرض التي ولد عليها، وكانت موطنه وموطن أهله منذ العام 1830. لم يدعم أبداً الاستعمار الفرنسي فيها بل حاربه بقوة في مرحلة لم يكن سارتر حتى يعلم بوجود هذا الاستعمار!. عام 1935، انخرط في صفوف الحزب الشيوعي ليبقى على وفائه لمحيطه ولكن أيضاً لأن الحزب الشيوعي كان على نفس الخط مع المعارضين للاستعمار وللفاشية العسكرية. وحين غيّر الحزب مواقفه انسحب منه كامو معتبراً ان هذا التغيير هو بمثابة الخيانة، وكان ذلك عام 1937(...). وكان كامو في ذلك الحين يتابع عمله في الصحافة المكتوبة، وقد أسس أيضاً «مسرح العمل» عام 1936 ثم «مسرح الفريق» وبدأ يكتب نصوصه المسرحية مع أصدقائه وكان أولها «ثورة في آستوري»، وهي مسرحية احتفلت بالثورة الاسبانية وانتقدت النظام الفرنكي بقوة. وكان يسعى في عمله في المسارح الى أن يضع أمام الثوار الجزائريين النصوص الضخمة والخاصة من الأعمال الكلاسيكية. وقد صرّح بعد حين أنه تعلّم الأفضل على خشبة المسارح هناك كما تعلّم الكثير فوق عشب ملعب كرة القدم الجزائري الوطني. وفي احدى الافتتاحات لأحد البيوت الثقافية التي كان يرعاها، كان له خطاب تاريخي أعطى فيه الجزائر مكانتها الثقافية كما لم يفعل أحد من قبله، وكما لم يفعله أيضاً أحد من بعده(...). احتفالات وقد اقترح كامو احتفالية ثانية للجزائر وهو بذلك وضع بلاده مجدداً أمام ثورة سياسية محتملة. وعام 1939 نشر سلسلة مقالات في «الجزائر الجمهورية» تحت عنوان كبير وهو «بؤس القبيلة»، ووصف فيه المآسي جراء الفقر والبؤس والبرد والجوع والمرض وموت الصغار والبطالة والرواتب المنخفضة والعبودية وعمالة الأطفال وازدحام السكان... وكتب: «هذا النظام هو شبيه بنظام الاستعمار». ولم يكتف كامو بالمقالات النقدية السلبية والتي تضع اليد على الجرح بل اقترح حلولاً(...). وقد لعب كامو دوره كفيلسوف عبر مقالات عديدة تحدثت عن وجوب تحاشي الحروب وإراقة الدماء والارهاب وقتل الأبرياء والنساء والعجائز(...) أما سارتر فكان يعتقد بأنه يمكن له أن يشرّع لقتل هؤلاء الأبرياء بإسم وبشرف افكاره الفلسفية التي كان يطلقها من مكتبه في «السان جيرمان دي بريه» في باريس... كتب كامو للسلم رافضاً العنف داعياً الى تجمع شعبي وهدنة مدنية في 22 فبراير 1956 وقد نزل هو الى ساحة التجمع ضارباً عرض الحائط التهديدات التي كانت تصله والتحذيرات من أن يتعرض للأذى، كما دعم بقوة ملفات لحوالي 150 مقاتلاً اعتبروا ارهابيين وسعى الى تخليصهم من حبل المشنقة(...). في مرحلة ما، انتقل كامو من مرحلة النضال من أجل العدالة الى الصمت وكأنه راح يهدم نفسه ورفض المشاركة في مقالات وتحقيقات ليبرر سكوته (...). ومعروفة قصة الطالب الذي كان مشاركاً في التظاهرات الموجهة ضد «جائزة نوبل» التي ستعطى لكامو، حين واجه هذا الطالب كامو وقال له متهماً اياه انه لم يفعل شيئاً للجزائر وأفصح بذلك أنه لم يكن على علم بكل النضالات التي قام بها الكاتب آنذاك فأجابه بأن صمته لم يكن يعني التخلي عن القضية وبأنه كان يعمل بشكل سري وبأنه من النوع الذي لا يفصح عن أعماله وانجازاته للتباهي، وبأنه يرفض العنف الأعمى الذي يحصل في الشوارع الجزائرية حيث تعيش والدته وحيث تقطع كل يوم الامكنة والأحياء التي تتساقط فيها القذائف. ثم ختم له قائلاً: «أنا أؤمن بالعدالة، غير أنني أعطي الأولوية للدفاع عن أمي قبل العدالة!»(...). وبعد أعوام، هذا الشاب، من ستوكهولم الذي اعترض طريق كامو في طريقه الى «جائزة نوبل» قرأ كل مؤلفات كامو وفهم كل مساره، اعترف في حديث له انه يرغب في لقائه للاعتذار له، غير أنه لم يتمكن سوى من حمل الورود الى مقبرته في لورمارين حيث دفن في بداية فبراير من العام 1960. عن «المستقبل»