( إلى حسن نرايس وحسن المودن) (1) بعد الإعلان المفاجئ عن تطبيق قانون الطوارئ الصحّيّ، الناجم عن التفشّي المهول لجائحة « كورونا «، والتيقّن من اقتراب حالة الإغلاق الشاملة، تهافت الخلق من كلّ حدب وصوب لاقتناء المواد الغذائيّة الأساسيّة من الأسواق العموميّة الشعبيّة والمركّبات التجاريّة الكبرى… (2) حتّى حدود كتابة هذه السطور الأوّلية القليلة، لم يتقبّل السيّد السارد التجريبيّ طريقتي في الحكي، متّهما إيّاها بالخطيّة غير المشوّقة، كما لم ترق له الحبكة التقليديّة التي ارتضيتها لرواية هذه القصة. فطفق يحثّني بإصرار مزعج على توظيف بعض الحيل الحاذقة المستمدّة من صلب المحكيات البوليسيّة، تلك التي اطّلعت عليها مؤخرا- بوصفي قارئا نموذجيّا- بين ثنايا ثلاثية الناقد الفرنسيّ «بيير بيار»، المعنونة ب : « من قتل روجير أكرويد؟ « ، و» تحقيق في قضية هاملت، أو حوار الصمّ « ، ثمّ « قضيّة كلب آل باسكيرفيل « (*) … (3) قلت : تهافت الخلق من كلّ حدب وصوب لاقتناء المواد الغذائيّة الأساسيّة من الأسواق العموميّة الشعبيّة والمركّبات التجاريّة الكبرى(**)، في حين سارعت- أنا- إلى رحاب قيسارية «الحفاري» بدرب « السلطان « من أجل شراء يد بلاستيكيّة. نعم، لم أحمل معي إلى شقّتي الصغيرة الاقتصاديّة ، حيث أسكن لسنوات بمفردي كعازب أبديّ تخطّى عقده الرابع، سوى يد بلاستيكية خضراء اللّون، مزوّدة بمقبض رقيق الحجم وطويل الساق مثل عصيّة … (4) مرّة أخرى، يوقف السيّد السارد التجريبيّ انسيابية الحكي، ويحرّضني بإلحاح مثابر على تحويل هذه اليد البلاستيكيّة إلى لغز، يجوز أن يقود – حسب مزاعمه – إلى اكتشاف جريمة مزدوجة بشعة اقترفها أحد الجناة الفاقدين للذاكرة، وقد اقترح عليّ تباعا بحماسة كبيرة مجموعة من العناصر الجوهريّة، التي يمكن أن أستعين بها تدريجيا لتحقيق هذا الغرض، ألا وهي : العثور- على سبيل التمويه – في غابة «بوسكورة» الواقعة بضواحي « الدارالبيضاء « على جثّة الضّحيّة الثانية مقطوعة اليد وبجانبها بطاقة هويّة لرجل يدعى «الأمين الخمليشي» / نسخة من تقرير الطبيب الشرعيّ الذي يشير إلى وقوع الوفاة قبل يومين / الكوميسير المحقّق الحامل للقب « الطاس» ( اسمه الحقيقي في بطاقة التعريف الوطنيّة : « حسن نرايس «) / لائحة موسّعة ببعض المشتبه بهم / بعض القرائن المترابطة والقابلة للاستثمار ضمن مسار منطقيّ/ سلسلة لانهائيّة من الاستدلالات الافتراضيّة الاستنباطيّة / قائمة مختصرة بالاحتمالات المستبعدة / ثمّ مجموعة من الحلول الختاميّة المفتوحة … (5) قلت : لم أحمل معي إلى شقّتي الصغيرة الاقتصاديّة، حيث أسكن لسنوات بمفردي كعازب أبديّ تخطّى عقده الرابع ، سوى يد بلاستيكيّة خضراء اللّون ، مزوّدة بمقبض رقيق الحجم وطويل الساق مثل عصيّة. حرصت أشدّ الحرص على اختيارها بهذه المواصفات الدقيقة، حتّى تصل بكلّ سهولة ويسر إلى أبعد نقطة في مساحة ظهري. وما أدراني، في ظلّ غياب أيّ زوجة مقيمة أو عشيقة عابرة، إذا ما طالت وامتدّت شهور الحجر أكثر من اللازم، أن لا أجد من يحكّ ظهري ؟ فلقد رأيت وفقا لاعتقادي المتواضع وتبعا لأولوياتي الضروريّة، بأنّ أهمّ شيء يلزم أن يستعين به المرء ولا يستطيع الاستغناء عنه طيلة هذه الفترة العصيبة القادمة، هو هذه اللّعبة الرخيصة والبسيطة والنفيسة والعمليّة في الآن ذاته ، القادرة في غضون برهة زمن وجيزة على منحنا سعادة ونشوة لا نظير لهما … (6) بالطبع ، ينزعج السيّد السارد التجريبيّ من نوعيّة هذا التفسير، الذي ينعته بالساذج والخالي من أيّة أبعاد دراميّة أو وجوديّة ذات قيمة فلسفيّة، ثمّ يهدّدني صراحة ودون حياء بإعادة كتابة هذه القصة من ألفها إلى يائها، متكئا على تخريجاته وابتداعاته الخاضعة ل «هذيان التأويل « و» مس الحلول المحتجبة «، حتّى ولو تطلّب الأمر منه انتهاك ميثاق القراءة الضمنيّ المعروف في هذا النوع الأدبيّ ، ليتوحّد في شخصيّة واحدة مع القاتل، الذي قام ببتر اليد – سواء الأولى أم الثانية – بواسطة ساطور ، وإخفائهما داخل مكان غير منتظر على الإطلاق… (7) قلت : هو هذه اللّعبة الرخيصة والبسيطة والنفيسة والعمليّة في الآن ذاته، القادرة في غضون برهة زمن وجيزة على منحنا سعادة ونشوة لا نظير لهما. هذه اليد الثالثة القادمة لتوّها من معمل ما في قلب العاصمة « بكين «، والتي تهبك الإحساس الشاهق بأنّ الشعب الصينيّ الشقيق قاطبة، بتعداده السكاني الرهيب المعادل لمليار وستمائة مليون نسمة ، يتسلّلون خلسة إلى ظهرك كجداول هائلة من الحيّات الزاحفة الصغيرة الملساء، ثمّ يدغدغون لحمك دفعة واحدة. يا لها من غبطة باسقة تدنو من تحقّق النشوة «الإيروسيّة» القصوى ، لما تحطّ تلك اليد الرطبة والناعمة والمباركة على بدنك المتعرّق، وتعمل أصابعها الرشيقة في شعيرات عمودك الفقريّ مثل عاملة تدليك تايلانديّة محترفة … (8) بل الأدهى من جميع ما سبق، شرع السيّد السارد التجريبيّ يتوعّدني وينذرني بنسف نهاية هذه القصة أمام المتلقّين المرتقبين، عن طريق إجراء تحقيق مضادّ يكشف النقاب عن الحقيقة الصارخة، وسيرا على نهج ناقد مغربيّ أكاديميّ مرموق يدرّس ب « الكوليج دو فرانس» يسمّى البروفسور «حسن المودن» ( أتمنّى أن تترجم أعماله قريبا إلى لغة الضّاد)، الذي صدع بضرورة تطبيق الأدب على التحليل النفسيّ (***)، انطلاقا من نموذج «بورخيس» الذي كان في واقع الأمر يعيد كتابة « فرويد» من زوايا الأنا والزمن والحلم ، وكذا بكون المتكلّم في أيّة قصة هو شخصيّة من لحم ودم بإمكانها أن تقترف أشنع الجرائم وأفظعها دون علم المؤلّف الغافل.. (9) قلت : لما تحطّ تلك اليد الرطبة والناعمة والمباركة على بدنك المتعرّق، وتعمل أصابعها الرشيقة في شعيرات عمودك الفقريّ مثل عاملة تدليك تايلانديّة محترفة. ولأنّ وباء «كوفيد-19» هو المنتج الأوّل للراحة والاستلقاء وزيادة الوزن والوساخة، فقد وطدت النّيّة على استغلال اليد البلاستكيّة إلى أقصى الحدود، غير أنّ هذه النّيّة الساديّة نوعا ما، سرعان ما تبدّدت منذ الليلة الأولى للحجر الوقائيّ الطوعيّ . إذ شاهدت فيلما سينمائيّا ملحميّا مطوّلا للمخرج البريطانيّ « ديفيد لين «، هو شريط « معبر إلى الهند « ، ثمّ رقدت قبيل طلوع الفجر ميّتا من الإنهاك مثل كلب سمين قطع المسافة راكضا بين «الدارالبيضاء» و» نيودلهي» … (10) من المنطقيّ جدا أن لا يستسيغ السيّد السارد التجريبيّ اختيار « ديفيد لين «، وسيفضّل عليه بالتأكيد مخرجا آخر ملائما لمناخات الأسرار المبهمة والقضايا الغامضة والاشتباكات المدوّخة ، يجعل المشاهدين يعانون قدر ما لا يطيقون ، مثل الرهيب « ألفريد هتشكوك « . وقد دعاني – مستندا إلى بعض أفكار « فرانسوا تريفو « النيرة وهو يقارب أعمال صاحب « الدّوار « (****)– إلى التنصّل من إيقاع «الديكرشندو « بالغ الانخفاض ، ثمّ كتابة بقيّة هذه القصة بطريقة الكاميرا المهزوزة المتوترة ، التي تنقل إلى المتفرّج شعورا فوريا بالقلق والإثارة، ، وتهتمّ بتصاعد الأحداث على منوال « الكريشندو» الموسيقيّ العالي، حتّى تصل بالوقائع إلى ذروتها وتحبس الأنفاس … (11) قلت : ثمّ رقدت قبيل طلوع الفجر ميّتا من الإنهاك مثل كلب سمين قطع المسافة راكضا بين « الدارالبيضاء» و» نيودلهي». وفي أثناء سباتي العميق، حلمت بأنّ اليد البلاستكيّة كانت تتغلغل من تلقاء نفسها إلى أطرافي، وتتلّهى بحكّ المناطق المزعجة من جلدي . وكلّما أوشكت أن أستفيق، كانت تستميت في مهمتها اللميسة بكثير من التحنّن والحدب ، فأواصل نومي الهانئ والطويل، الذي كان يدوم ويتمادى إلى ما بعد غروب اليوم التالي. استمرّ هذا الوضع على سعة أسبوع كامل، لم أر فيه نهارا واحدا إلا بعد أفول شمسه، علاوة على أني لم أجرؤ على الاقتراب من اليد البلاستيكيّة أو الإمساك بها كما لو كانت يدا حقيقية . يدا مجهولة لشخص آخر تستتبّ مطمئنة إلى جانبي على السرير. يدا أخرى بداخلي أتخيّلها تمسك بما لا أريد أن أمسكه … ( 12) كما قد تتوقّعون بالبداهة ، السيّد السارد التجريبيّ ليس من أنصار العودة إلى تلك الأراضي المنسيّة والضبابيّة المصطلح عليها بالأحلام (*****). وقد كبح جماح الحكي بلجام الزجر ، ثمّ زجّ بي في مهاترة بغيضة وغير مفيدة البتّة، عمادها المقارنة بين رأيه الشخصيّ عن العين الضريرة لليقظان التي لا ترى الواقع كما يجب، و»عين النائم في الحلم التي ترى أكثر وضوحا من الصحو « مثلما ذهب إلى ذلك « ليوناردو دافنشي « … (13) قلت : علاوة على أني لم أجرؤ على الاقتراب من اليد البلاستيكيّة أو الإمساك بها كما لو كانت يدا حقيقية . يدا مجهولة لشخص آخر تستتبّ مطمئنة إلى جانبي على السرير. يدا أخرى بداخلي أتخيّلها تمسك بما لا أريد أن أمسكه. بل الأفدح من جميع هذا ، بت أطيل التحديق إليها متسائلا بيني وبين نفسي عن هويّة هذه اليد هل هي لرجل أو امرأة ؟ أتراها يمنى أم عساها أن تكون يسرى ؟ أمّا في الأيام التاليات، فقد تفاقمت هواجسي وهلاوسي السوداء، لاسيما بعد أن غيّرت اليد سلوكها الطيّب السلسبيل لتغدو كمامة قاسية من حجر صلد تطبق على فمي حتّى تكاد أن تزهق روحي . روحي التي صارت تمثالا صنع من صلصال الخوف . تمثالا يقفز من نفسي كلّ آونة من مبلغ الرعب . وكذا بعد أن تهيّأ لي عدّة مرّات ، وأنا أشاهد في الرواق الفاصل بين الصالون والمطبخ ، القطة «داليدا « وهي تتشقلب على ظهرها، وتتزغزغ في عدّة مواضع حساسة من بطنها الأبلق وأثدائها الغفيرة . ولما ناهزت الوصول إليها أبصرت أنها كانت تلهو بتلك اليد البلاستكيّة اللّعينة وتندمج وتنضمم معها صنو مخلوقات الرسام « غوستاف كليمت « المتعانقة . اليد نفسها ، التي توهّمت كذلك في كرّات أخرى أنها أدمنت غمز آباط وبواطن قدمي الدميتين الأرنوبتين «صالوبيطا « و»صالوبيطو «، فأخالهما من مثواهما فوق دولاب الملابس تنفعلان وتتحرّكان وتفترّان ضحكا مكتوما طوال فترة اضطجاعي … (14) واستتباعا لتدخلاته المتعسفة، عدّ السيّد السارد التجريبيّ هذا البعد العجائبيّ المرتبط بكل من الحيوان والدمى طرازا متجاوزا ومستهلكا من الجماليات القصصيّة النوعيّة، منبّها إيّاي بأنّ لا مستقبل لهذا النمط السرديّ المنذور للانقراض ضمن جغرافيات المتخيّل (******)، على اعتبار أنّ الفضاء الحرج الذي كانت تدور فيه المفاوضات بين الواقعيّ والسحريّ ، وبين العقلاني والفوق طبيعي، قد هدمته معاول الواقع الجديد الافتراضيّ والأيقونيّ . وبغاية توضيح الأمر أكثر، استخدم عند نهاية كلامه تشبيها غريبا لماكينة نفخ فقاعات الصابون التي نفد سائلها … (15) قلت : فأخالهما من مثواهما فوق دولاب الملابس تنفعلان وتتحرّكان وتفترّان ضحكا مكتوما طوال فترة اضطجاعي. وعقب هذا ، حملت على وعدي وسعدي الخائبين، ذات صباح باكر، بعد ليلة مسهدة صالحة للنسيان من دون شك، تلك اليد البلاستيكيّة الخبيثة، ومشيت بها بعيدا، بعيدا جدا، حوالي خمسة كيلومترات عن مسكني . رميتها بكلّ سخط في الخلاء. ألقيت بها – تحديدا- في جوف حفرة عميقة كانت تستخدم في ما مضى ك «خطارة» لجمع مياه الأمطار، وقد كان ارتطامها بالقاع مدوّيا كما لو كان سقوط جثّة حقيقية. جثّة رجل من دون يده اليمنى المنتزعة من المعصم. ثمّ رجعت إلى شقّتي. رجعت من دونها. نعم، أنا متيّقن أنني لم أعدها معي. بيد أني لما فتحت مجمّد الثلاجة كي أتناول قنينة ماء باردة أروي بها عطشي في ذاك المساء القائظ، وقع نظري على كيس تبريد حافظ، وحينما فضّضته حدّقت بذهول إلى تينك اليدين الآدميتين المثلّجتين اللتين لا أعلم عنهما أيّ شيء! *** إحالات : (*) بيير بيار ، من قتل روجير أكرويد؟ الرواية البوليسيّة والتحليل النّفسي ، ترجمة وتقديم : حسن المودن ، دار رؤية للنشر والتوزيع ، القاهرة / مصر، 2015. (**) سورين كيركجارد ، التكرار، تر: قحطان جاسم ، دار الرافدين ، بيروت / لبنان،2018 . (***) حسن المودن، الأدب والتحليل النفسيّ: ما معنى أن تكون ناقدا نفسيّا اليوم؟ ، كتاب مجلة الدوحة ، 2019. (****) فرانسوا تريفو ، هيتشكوك – تريفو ، تر: عبد الله عويشق وحسن عودة ، دار المدى ، بغداد ، 2012 (*****) شتيفان كلاين ، الأحلام : رحلة إلى واقعنا الداخلي ، تر: نهلة ناجي ، مركز المحروسة ، القاهرة ،2018. (******) ماجي آن بورز، الواقعية السحريّة، تر: سليمان العطار و أماني توما، المركز القومي للترجمة ، القاهرة ، 2018.