مَنْ قَتل روجير أكرويد؟ الرواية البوليسية والتحليل النفسي (1)
خص الدكتور حسن المودن الملحق الثقافي لجريدة الأحداث المغربية بهذه المقالة النقدية التي قدم بها لكتاب الناقد الفرنسي بيير بيار الموسوم ب"من قتل روجير أكرويد؟ الرواية البوليسية والتحليل النفسي"، الذي ترجمه إلى لغة الضاد مؤخرا. لاشك في أن للرواية البوليسية اليوم وجودًا مستقلا كجنس أدبي له ما يميّزه شكلا وموضوعا (1)، اعترفت به العديد من الدراسات الأدبية، النظرية والتطبيقية (بورخيس، كايوا، ولسون، تودوروف، بيار …). وقد تبلور هذا الجنس الأدبي في القرن التاسع عشر (2) بفضل التطورات التي عرفتها المدينة الأوربية ومعارفها وفنونها وتقنياتها ومناهجها في التحقيق والبحث عن الحقيقة؛ وعرف تطورات ملحوظة جعلت الدارسين يعملون على تصنيفه إلى أنواع وأشكال، إلا أنه غالبا ما يُختزل تعريفه في اعتباره شكلا فنيا يطرح لغزًا جرميًا واحدًا أو أكثر للحلّ، ويتألف من مجموعة عناصر أساس: جريمة مستعصية على التفسير، ضحية، محقق، استدلال افتراضي استنباطي، حلّ نهائي… وإذا كان صحيحًا أن هذا الجنس الأدبي قد طاله التهميش النقدي والأكاديمي مدة طويلة حتى في دياره الغربية، بالرغم من انتشاره وشعبيته الواسعين، فإن الأصح أنه نال اهتمامًا لافتًا نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة، وعلى الأخص في النقد والفلسفة والتحليل النفسي. وإذا استحضرنا الأدب الروائي العربي، فإن اللافت للنظر هو قلة الإنتاج في هذا الجنس من الرواية بالبلاد العربية، فكُتَّاب الرواية البوليسية قلّة قليلة في بلداننا، ونقادها أقلّ بكثير؛ إلا أنه في السنوات القليلة الأخيرة، ظهرت مقالات وكتابات نقدية تطرح بإلحاح أسئلة في الموضوع: لماذا لم تظهر الرواية البوليسية في البلدان العربية بالقوة والنوعية اللتين ظهرت بهما في أكثر من منطقة في العالم، ومنذ مدة بعيدة في بعض مناطقه؟ ماذا عن نقد الرواية البوليسية في النقد العربي المعاصر؟ لماذا طال الإهمال الكتابات النقدية "البوليسية"، بالرغم مما حققته من تراكمات وتحولات في المنهج والرؤية وتغيير النظرة إلى الرواية البوليسية؟ ومن أجل لفت الأنظار إلى الرواية البوليسية، كما إلى نقدها المعاصر، عملنا على نقل هذا الكتاب النقدي إلى اللغة العربية، لأنه كتاب في نقد الرواية البوليسية فريدٌ من نوعه، ويُعدّ من الكتب التي لقيت اهتمامًا واسعًا في السنوات الأخيرة، لأسباب مهمة على رأسها أنه كتاب نقدي يغيّر من نظرتنا إلى الرواية البوليسية، ويسائل النقد "البوليسي" التقليدي في أسسه ومنطلقاته، ويدعونا إلى اكتشافات جديدة لا في سبل القراءة والتأويل فحسب، بل وفي السبل التي تقود إلى إعادة البناء وإعادة الكتابة. وبكلمة واحدة، فأهمية هذا الكتاب لا تعود إلى أن صاحبه يقرأ الرواية البوليسية من منظور نفساني جديد فحسب، بل وتعود إلى كونه لا يكتفي بالتحليل والتفكيك والنقد والتقويم، بل إنه يتعدى ذلك إلى إعادة كتابة رواية بوليسية من زاوية نظر جديدة مغايرة للتي كتبت من خلالها في الأصل، كأنما الناقد يتحول إلى كاتبٍ ثانٍ لهذه الرواية. نتعرّف أولا إلى صاحب هذا الكتاب وبعض مؤلفاته النقدية، ثم نعود إلى الكتاب وبعض قضاياه، قبل أن نضع النص المترجم بين يديّ القارئ العربي علّه يجد فيه ما يفيد ويمتع. 1 الناقد الفرنسي بيير بيار، المحلّل النفسي وأستاذ الأدب بجامعة باريس، من مواليد 1954، أَلَّفَ العديد من الدراسات التي تسائل الروابط بين الأدب والتحليل النفسي، فمن 1978 إلى 2014 يكون قد أصدر عشرين كتابا تقريبا. واللافت للنظر في مجمل أعماله أنها توظّف السخرية والمفارقة لصالح تحليل أدبي متجدّد؛ ففي كلّ عمل، يأتي المؤلِّف بشيء مثير وغير منتظر، يفاجئ القارئ باكتشافاته ومراجعاته وتحقيقاته وتعديلاته وتنقيحاته ومساءلاته للأحكام والمسلمات. وإذا كان بيير بيار مختصّا بالذات في التحليل النفسي والأدب، فإن هذا هو ما يفسّر لماذا يجمع أسلوبه بين الجدّ واللعب، وكيف يقلب العبارات لا من أجل بناء منهج جديد يدعي الكمال ويطمح إلى الهيمنة، بل من أجل فتح آفاق جديدة للتفكير في الأدب بسخرية لاذعة لا تؤمن كثيرًا بالأسس الصلبة التي يقوم عليه النقد أو النظرية. وفي إطار هذا الأسلوب الجديد في التحليل والتفكير، يندرج كتابه الذي أصدره سنة 2004 تحت عنوان: هل يمكن تطبيق الأدب على التحليل النفسي؟ (3)، ويقترح فيه، وبغير قليلٍ من السخرية، نظرية جديدة: تطبيق الأدب على التحليل النفسي. فإذا كان المألوف هو تطبيق التحليل النفسي على الأدب، فإن بيير بيار يدعونا إلى قلب الأدوار، وذلك بأن نجرّب تطبيق الأدب على التحليل النفسي. وهناك العديد من الأسباب التي تدعوه إلى مراجعة العلاقة بين الاثنين، ومن أهمها أن النقد الأدبي الذي يطبّق التحليل النفسي على الأدب قد أصابه الإفلاس، ويعود السبب في ذلك إلى أن تطبيق التحليل النفسي على الأدب يؤكد النظرية التي تمّ الانطلاق منها، ولا يضيء العمل الأدبي. وبالعكس، إذا تم الاعتماد على منهج يقلب الأشياء، يكون بإمكان الأدب أن يقول أشياء عديدة للتحليل النفسي. وفي الاتجاه نفسه، فسَّر بيير بيار كيف أن المعرفة الإنسانية حول الجهاز النفسي لم تكن مسارًا بطيئا عرف انطلاقته القوية في القرن التاسع عشر، وخاصة في أواخره مع فرويد، كما يعتقد البعض؛ وقد حان الوقت في نظره لإعادة قراءة ما " قبل " التحليل النفسي، وفي هذا الإطار أصدر كتابا مهما سنة 1994 عنوانه: موباسان، بالضبط قبل فرويد (4)، يقرأ فيه المؤلِّف فرويد بمساعدة كاتبٍ سابق: موباسان. كما نجده يعمل على فحص بعض المعاصرين لفرويد وهم لافرويديون من مثل بيسوا وبروست، وينتقل إلى كُتَّاب ما " بعد " فرويد من مثل: أندري بروتون وبول فاليري وسارتر وأجاتا كريستي … الخ. واللافت هنا أن الناقد النفسي، بهذا الأسلوب الجديد، يقوم باكتشاف الإمكانات النظرية التي يمكن أن توجد في فعل الكتابة نفسه، ويعلّمنا كيف نعيد بلذّة جديدة اكتشاف هوميروس وسوفوكل وشكسبير وموباسان وهنري جيمس … وغايته من كلّ ذلك أن يوضح أن الأدب، بمنطقه الخاص، لا يكفّ عن الخلق والإبداع، ويقدم " نظريات أخرى " قابلة للاكتشاف، ويمكنها أن تكون أكثر تقدّمًا مما يقدمه التحليل النفسي. ونشير بسرعة إلى كتب أصدرها في السنوات الأخيرة، ونجحت في مفاجأة القرّاء والنقّاد على السواء، ومنها كتاب أصدره سنة 2007 تحت عنوان: كيف نتحدث عن كتب لم نقرأها؟ (5)، وبهذا الكتاب كسّر بيير بيار ما يشبه الطابو: أولا، ليس عيبا في نظره أن لا أكون قد قرأت رواية " جيرمينال " لاميل زولا أو " البحث " لمارسيل بروست، وثانيا، ليس هناك طريقة واحدة في تناول الكتاب، بل هناك طرق متعددة للقراءة، ذلك لأن الأدب، كتاريخه، فضاء لامحدود من الحرية. وليست غاية هذا الكتاب الدعوة إلى اللاقراءة، بل هو سخرية من تصوراتنا للقراءة، ودعوة إلى بيداغوجيا مغايرة للقراءة. وقبل ذلك، في سنة 2000، أصدر الناقد كتابا تحت عنوان : كيف نُصلح الأعمال الأدبية التي أخطأتْ هدفَها؟ (6) ، وفيه يدعو إلى فتح أوراش لإعادة كتابة الأدب، فحتى الكُتَّاب الكبار، في نظره، قد تصيبهم لحظاتُ ضعفٍ، وعلى الناقد أن يقوم مقامهم في تصحيح أعمالهم وتنقيحها والارتقاء بها. وفي كتابه : الغد مكتوب (7) ، الصادر سنة 2005، يتساءل بيير بيار: هل يستمدّ الأدب إلهامه من الماضي فقط أم من المستقبل أيضا؟ هل كان ممكنا أن تسبح أعمال فرجيينا وولف في متخيّل الماء والموت لو لم تستمدّ ذلك مما سيعلّمه إياها انتحارها في المستقبل؟ أكان ممكنا أن يصف موباسان الحمق والجنون في بعض أعماله لو لم يَقُمْ هو نفسه في المستقبل بتجربة أليمة؟ وتكمن أهمية هذه الأسئلة في أنها، أولا، إعادة نظر في مفاهيمنا التقليدية التي تبقى سجينة مسلمة مفادها أن الأسباب تسبق بالضرورة النتائج، في حين نجد الأدب يقول العكس. وتعلّمنا، ثانيا، أن دراسة بيوغرافية الكتّاب تفترض أن ليست الحياة وحدها هي التي تحدّد العمل الأدبي، بل إن العمل الأدبي قد يحدّد الحياة أيضا. 2 ومن الكتب اللافتة التي أصدرها بيير بيار تلك التي كرّسها للروايات والمحكيات البوليسية، ويتعلق الأمر بثلاثة كتب: من قتل روجير أكرويد؟(1998)، تحقيق في قضية هاملت، أو حوار الصمّ(2002)، قضية كلب آل باسكرفيل(2008) (8). ونشير بسرعة إلى أهمية هذه الكتب، وذلك بطرح سؤالين يبدوان ضروريين في هذا المقام: لماذا يهتمّ المحلل النفسي بالرواية البوليسية؟ لماذا يخصّ بالتحليل أعمالا أدبية(وخاصة رواية أجاثا كريستي: مقتل روجير أكرويد، ومسرحية شكسبير: هاملت) أسالتْ الكثيرَ من المداد، ودرسها الكبارُ من النقّاد؟ يتأمل بيير بيار تاريخ العلاقة بين التحليل النفسي والمحكي البوليسي، لافتًا النظر إلى التأثير الباطني الذي مارسه الثاني على الأول، مشيرًا إلى ثلاثة أعمال أدبية أثّرت كثيرًا في نظرية التحليل النفسي: الملك أوديب، هاملت، الرسالة المسروقة؛ وهي في نظره أعمال أدبية " بوليسية "، جعلت التحليل النفسي يتأسس على أساس فكرتين جوهريتين: الأولى تفيد أن إنتاج المعنى يعني أن تفكّ لغزًا، والثانية أن هناك حقيقة موجودة في مكانٍ ما وأن بحثًا أو تحقيقًا ما يمكنه إبرازها. ومن هنا، فوظيفة المحلّل النفسي هي أن يفكّ لغزًا وأن يبحث عن الحقيقة. وبمعنى آخر، لم يعد دور المحلّل هو دراسة العمل الأدبي أو كاتبه، بل إنه لن يكون محللا حقيقيا إلا إذا أدى دورَ الباحث المحقِّق، منافسًا بذلك أكبر المحقِّقين في الأدب البوليسي. وهكذا، ففي هذه الدراسات الثلاث، ينطلق بيير بيار من أسئلة أساس: ماذا لو كانت هناك حقيقة أخرى داخل العمل الأدبي " البوليسي " غير التي اقتنع بها القرّاء والنقاد لزمن قد يصل إلى قرون، كما في حالة هاملت لشكسبير؟ ماذا لو كانت الرواية البوليسية هي الأخرى مسرحًا للأخطاء القضائية والتحقيقات الخاطئة؟ ألم يسبق لفولتير أن قام بهذا النوع من التحقيق معبِّرًا عن تحفّظاته من المسؤولية الجنائية للملك أوديب؟ ماذا لو كان المحقّقون في الروايات البوليسية مخطئين في استدلالاتهم ومنطقهم وخلاصاتهم، كما هو الشأن بالنسبة إلى المحقق هرقل بوارو في رواية: مقتل روجير أكرويد، أو كما هو الأمر بالنسبة إلى المحقق شرلوك هولمز في: قضية كلب باسكيرفيل؟ وهذه الأسئلة هي التي دفعت بيير بيار إلى وضع منطلقات جديدة للنقد النفسي للرواية البوليسية، من أهمها أن مهمّة المحلِّل هي أن يقوم بتحقيق مضادّ، فالمجرمون، في الأدب كما في الحياة، قادرون على الإفلات من تحقيقات المحقّقين، والشخصيات الأدبية ليست شخصيات ورقية، بل هي شخصيات حيّة يمكنها أن ترتكب جرائم من دون علم الكاتب المؤلّف، ولكن هناك دائما فرصة لإعادة التحقيقات من جديد، وكشف النقاب عن الحقيقة. وهكذا، ففي كتابه: تحقيق في قضية هاملت، أو حوار الصّمّ يطرح بيير بيار السؤال من جديد: من قتل والد الأمير هاملت؟ وهل كلوديوس هو القاتل فعلا كما اعتقد القرّاء لقرون؟ ويخلص بيار في كتابه هذا إلى اتهام هاملت نفسه بقتل أبيه، استنادًا إلى حجج ومنطق في التحليل يدفعان فعلا إلى إعادة النظر في القضية. وفي كتابه: قضية كلب آل باسكيرفيل، يفترض بيار أن المحقق شرلوك هولمز قد أخطأ في تحقيقه المشهور باتهام حيوان بئيس وترك القاتل الحقيقي يفلت من يد العدالة. وإجمالا، فبغير قليل من السخرية، واقتناعًا بأن الكُتّاب لا يعلمون كلّ شيء عن أعمالهم، يلاحظ بيير بيار كيف أن بعض الكُتّاب قد يخطئون بخصوص مرتكبي الجرائم في أعمالهم، وهم بذلك يتركون المجرمين أحرارًا! ولا تعود أهمية هذه الدراسات إلى كونها تكشف الاسم الحقيقي للقاتل، بل إن قيمتها تتعلق بخاصيتين اثنتين: الأولى أنها دراسات تقترح علينا التفكير من جديد في عمل المؤوِّل أو القارئ وطريقة اشتغاله، والثانية أن بيير بيار نجح في تأسيس نوع جديد من النقد "البوليسي"، أو الأصح أنه استطاع أن يؤسس نوعًا أدبيا جديدًا يقوم على ثلاثة عناصر: رواية بوليسية، كتاب حول القراءة، تفكير في التأويل. وهو نوع أدبي يمكن أن نسميه: المحكي البوليسي النظري. ذلك لأن بيير بيار في كل دراسة من هذه الدراسات الثلاث نجده يقدم رواية بوليسية داخل الرواية البوليسية، وقاتلا وراءه قاتل آخر، وتحقيقا وراءه تحقيق آخر. هوامش: 1 ) ينظر: Marc Lits : Le roman policier, introduction à la théorie et à l'histoire d'un genre littéraire, Liège, ed. CEFAL, 2eme édition, 1999, p. 21. 2) مع أن أصول هذا الجنس أو بداياته الأولى، يجدها بعض الباحثين قديمة جدًا، فبيير بيار يرى في " الملك أوديب " الإغريقية البداية الأولى. إلا أن الرواية البوليسية بخصائصها الحديثة تكون قد تبلورت، كما وضح مارك ليتس في الكتاب المذكور أعلاه (ص 27) في القرن التاسع عشر مع إدغار آلان بو. 3) Pierre Bayard, Peut-on appliquer la littérature à la psychanalyse, ed. Minuit,2004,Paris. 4) Pierre Bayard, Maupassant, juste avant Freud, ed. Minuit,1994,Paris. 5) Pierre Bayard, Comment parler des livres qu'on n'a pas lu ?, ed.Minuit, 2007, Paris. 6) Pierre Bayard, Peut – on améliorer les œuvres ratées?, ed. Minuit, 2000, Paris 7) Pierre Bayard, Demain est écrit, ed Minuit, 2005,Paris.