إشكالية القراءة موضوع أسال الكثير من المداد في الساحة الإعلامية الثقافية في السنوات الأخيرة، وأنجزت حوله دراسات نظرية وميدانية، وعقدت حوله ندوات ومناظرات، وتقررت توجيهات وتوصيات، لم تعمل الجهات الوصية على تفعيلها وتنفيذها. ويبدو أننا نعيد في كل سنة الكلام نفسه حتى عاد الخطاب عن أزمة القراءة، هو نفسه، خطابا متأزما. أفضل الحديث عن أنفسنا كقرّاء، ولم لا نحاول الحديث عن تجاربنا في القراءة: كيف يقرأ كل واحد منّا؟ ماذا يقرأ؟ لماذا يقرأ؟ ما آخر كتاب قرأه؟ بماذا يحتفظ من قراءاته؟ ما الذي يتبقى من القراءات؟ ما معنى القراءة؟ ما معنى اللاقراءة؟... أقترح، في هذا المقام، أن أؤدي دور القارئ، وأن يكون حديثي عن القراءة هو نفسه قراءة في كتاب. ومن الأفضل أن يكون موضوع هذه الكتاب هو القراءة نفسها. ولأن اهتمامي يميل إلى التحليل النفسي للأدب، فاسمحوا لي أن أقترح عليكم كتابا صدر سنة 2007 للناقد والمحلل النفساني الفرنسي بيير بيار تحت عنوان: كيف نتحدث عن كتب لم نقرأها؟ Pierre Bayard, Comment parler des livres que l?on n?a pas lus, ed.Minuit, 2007وأفترض أن هذا الكتاب يقدّم، من منظور نفساني، رؤية مغايرة لإشكالية القراءة. وفي الواقع، فهي الإشكالية التي تطرحها، بشكل من الأشكال، مؤلفات بيير بيار كلها: إعادة النظر في القراءة النفسانية التقليدية للأدب، إعادة النظر في القراءة النقدية للأدب الروائي البوليسي ... لكن قبل الحديث عن هذا الكتاب، أقترح التعرّف إلى كاتبه الذي تشهد مؤلفاته كما يشهد بذلك قراؤه ونقاده أيضا على أنه أحد أهم قرّاء الأدب في العصر الراهن. 1 الناقد الفرنسي بيير بيار، المحلّل النفسي وأستاذ الأدب بجامعة باريس، من مواليد 1954، ألف العديد من الدراسات التي تسائل الروابط بين الأدب والتحليل النفسي، وتسائل الروابط بين النقد والإبداع، بين القارئ / الناقد والكاتب... من 1978 إلى 2010 يكون قد أصدر سبعة عشر كتابا. واللافت للنظر في مجمل أعماله أنها توظّف السخرية والمفارقة لصالح تحليل أدبي متجدّد. ففي كلّ عمل، يأتي المؤلّف بشيء مثير وغير منتظر، يفاجئ القارئ باكتشافاته ومراجعاته وتحقيقاته وتعديلاته وتنقيحاته ومساءلاته للأحكام والمسلمات. الناقد النفساني الفرنسي بيير بيار وفي إطار هذا الأسلوب الجديد في التحليل والتفكير، يندرج كتابه الذي أصدره سنة 2004 تحت عنوان: هل يمكن تطبيق الأدب على التحليل النفسي؟. ويقترح فيه، وبغير قليل من السخرية، نظرية جديدة: تطبيق الأدب على التحليل النفسي. فإذا كان المألوف هو تطبيق التحليل النفسي على الأدب، فان بيير بيار يدعونا إلى قلب الأدوار، وذلك بأن نجرّب تطبيق الأدب على التحليل النفسي. وهناك العديد من الأسباب التي تدعوه إلى مراجعة العلاقة بين الاثنين، ومن أهمها أن النقد الأدبي الذي يطبّق التحليل النفسي على الأدب قد أصابه الإفلاس، ويعود السبب في ذلك إلى أن تطبيق التحليل النفسي على الأدب يؤكد النظرية التي تمّ الانطلاق منها، ولا يضيء العمل الأدبي. وبالعكس، إذا تم الاعتماد على منهج يقلب الأشياء، يكون بإمكان الأدب أن يقول أشياء عديدة للتحليل النفسي. وقبل ذلك، في سنة 2000، أصدر الناقد كتابا تحت عنوان : كيف نصلح الأعمال الأدبية التي أخطأت هدفها؟، وفيه يدعو إلى فتح أوراش لإعادة كتابة الأدب، فحتى الكتّاب الكبار، في نظره، قد تصيبهم لحظات ضعف، وعلى الناقد أن يقوم مقامهم في تصحيح أعمالهم وتنقيحها والارتقاء بها. وفي كتابه : الغد مكتوب، الصادر سنة 2005، يتساءل بيير بيار: هل يستمدّ الأدب إلهامه من الماضي فقط أم من المستقبل أيضا؟ هل كان ممكنا أن تسبح أعمال فرجيينا وولف في متخيّل الماء والموت لو لم تستمدّ ذلك مما سيعلّمه إياها انتحارها في المستقبل؟ أكان ممكنا أن يصف موباسان الحمق والجنون في بعض أعماله لو لم يقم هو نفسه في المستقبل بتجربة أليمة؟ وتكمن أهمية هذه الأسئلة في أنها، أولا، إعادة النظر في مفاهيمنا التقليدية التي تبقى سجينة مسلمة مفادها أن الأسباب تسبق بالضرورة النتائج، في حين نجد الأدب يقول العكس. وتعلّمنا ثانيا أن دراسة بيوغرافية الكتّاب تفترض أن ليست الحياة وحدها هي التي تحدّد العمل الأدبي، بل إن العمل الأدبي قد يحدّد الحياة أيضا. ومن الكتب اللافتة التي أصدرها بيير بيار تلك التي كرّسها للروايات والمحكيات البوليسية، ويتعلق الأمر بثلاثة كتب: من قتل روجير أكرويد؟(1998)، تحقيق في قضية هاملت، أو حوار الصمّ(2002)، قضية كلب آل باسكرفيل(2008). وهكذا، ففي هذه الدراسات الثلاث، ينطلق بيير بيار من أسئلة أساس: ماذا لو كانت هناك حقيقة أخرى داخل العمل الأدبي « البوليسي « غير التي اقتنع بها القرّاء والنقاد لزمن قد يصل إلى قرون، كما في حالة هاملت لشكسبير؟ ماذا لو كانت الرواية البوليسية هي الأخرى مسرحا للأخطاء القضائية والتحقيقات الخاطئة؟ ماذا لو كان المحقّقون في الروايات البوليسية مخطئين في استدلالاتهم ومنطقهم وخلاصاتهم، كما هو الشأن بالنسبة إلى المحقق هرقل بوارو في رواية: مقتل روجير أكرويد، أو كما هو الأمر بالنسبة إلى المحقق شرلوك هولمز في كلب باسكيرفيل؟ ولا تعود أهمية هذه الدراسات إلى كونها تكشف الاسم الحقيقي للقاتل، بل إن قيمتها تتعلق بخاصيتين اثنتين: الأولى أنها دراسات تقترح علينا التفكير من جديد في عمل المؤول أو القارئ وطريقة اشتغاله، والثانية أن بيير بيار نجح في تأسيس نوع جديد من النقد « البوليسي»، أو الأصح أنه استطاع أن يؤسس نوعا أدبيا جديدا يقوم على ثلاثة عناصر: رواية بوليسية، كتاب حول القراءة، تفكير في التأويل. وهو نوع أدبي يمكن أن نسميه: المحكي البوليسي النظري. ذلك لأننا نجد بيير بيار، في كل دراسة من هذه الدراسات الثلاث، يقدم رواية بوليسية داخل الرواية البوليسية، وقاتلا وراءه قاتل آخر، وتحقيقا وراءه تحقيق آخر... هناك دائما فرصة لإعادة التحقيقات من جديد، وكشف النقاب عن الحقيقة، فذلك دور القارئ أيضا، لا الكاتب فحسب. 2 أما كتاب بيير بيار : كيف نتحدث عن كتب لم نقرأها؟ فان الأمر يتعلق، في الواقع، بكتاب عجيب غريب، يبدو من عنوانه كأنه سيشجعنا على اللاقراءة، وكأنه دليل سينفع من لا يقرأ في أن يدعي لنفسه القراءة. والواقع أننا أمام كتاب يحاول أن يحدث تغييرا جوهريا في إشكاليات القراءة التقليدية. فهولا يناقش فعالية القراءة أو عدم فعاليتها، ولا يسعى إلى بناء معنى جديد لنشاط القراءة، بل انه يدفعنا إلى أن نعيد النظر، مرة أخرى، في مفهوم القراءة، وذلك بلفت الأنظار إلى الطريقة التي تحضر بها الكتب داخل اللغة: كيف نتحدث، نحن القرّاء، عن الكتب؟ كيف تحضر الكتب في وضعية تلفظية تتصادم فيها على الأقل نرجسيتان؟ ومن أجل شرح معمّق لوضعية التلفظ هاته، يقوم بيير بيار، أولا، بتفكيك مفهوم القراءة، مقترحا استبداله بمفهوم « اللاقراءة «، هذا المفهوم الأخير الذي يرى أنه ليس مطلقا نقيضا للقراءة، لكنه الواقع الذي له علاقة بالكتاب حتّى عندما يكون هذا الأخير مقروءا بشكل جيّد: تجاهل، تشويه، اختزال، رفض لمضمونه ... ومن أجل تحديد المقصود ب « لاقراءة الكتب «، يقترح بيير بيار هذا التصنيف: هناك أولا الكتب التي لا نقرأها، والتي لا ينبغي لنا قراءتها. وفكرة المكتبة أو الخزانة تجسّد هي نفسها استحالة أن نقرأ كل شيء. هناك ثانيا تلك الكتب التي نلقي عليها نظرة خاطفة(فاليري مع مارسيل بروست)، أي القراءة التي ننجزها في دقائق قليلة، تبعا لنصيحة أوسكار وايلد. وهناك ثالثا الكتب التي تستمدّ قيمتها ليس من مضمونها الخاصّ، بل من شبكة التعليقات والاهتمامات الخارجية التي يثرها، كما الكتاب الثاني من « شعرية « (فن الشعر) أرسطو في رواية اسم الوردة لامبرطو اكو. وهناك أخيرا تلك الكتب التي قد نكون تأثرنا بها أكثر مما قرأناها، بحيث يتوقف محتواها عن أن يكون محتوى خاصا لكي يتحول إلى « كتاب داخلي « لوجودنا الثقافي، تبعا للتوقف عن التغذية كما يمارسها ويصفها Montaigne، « من أجل أن نساعد الذاكرة قليلا على الخيانة والفشل». ويضعنا هذا التصنيف أمام حقيقة غير متوقعة: عندما نتحدث عن كتاب، فانه يكون دوما كتابا لم نقرأه. ذلك لأن فكرة وجود محتوى كتاب يمكننا استيعابه بدقة متناهية فكرة إن لم تكن تضليلا، فهي نوع من اليوطوبيا Utopie. ويضاف إلى ذلك أن « الحديث عن كتاب لا علاقة له إلا قليلا بالقراءة»(ص 107). والأسوأ من ذلك: لم يكن الكتاب أبدا الرهان الحقيقي لمقام الكلام(أي: وضعية التلفظ). ففي الواقع، نتكلم عن كاتب، عن موضوع، إلى جمهور معين، وعلينا أن نحقق له الإشباع في علاقة بانتظارات غالبا ما لا تكون لها علاقة بمحتوى الكتاب نفسه الذي يستحيل صوغه صوغا موضوعيا. في هذه الوضعية المعقدة لخطابنا عن الكتب، والتي قليلا ما يكون الكتاب موضوعها الحقيقي، يتعلق الأمر بإشباع ذاتي يتمّ من خلال إظهارنا للآخرين أننا قادرون على الحديث عن الكتب، وإذا كنت أكثر مهارة، يمكنك أن تحقق الإشباع للآخرين بإعطائهم ما يطلبون. ومن هنا، يفترض بيير بيار أن الكتاب يشير أولا إلى نقص وفقدان، شخصي أو جماعي، أي أن الكتاب يشير إلى هوة بيفردية Une fosse intersubjective يحاول الكلام ردمها. وفي الجزء الثالث من الكتاب، وهو تحت عنوان: سلوكات مرجوة، يقدّم بيير بيار توجيهات ونصائح بسيطة جمعها طيلة حياة من اللاقراءة: أولا، يبدو من المعقول ألا نخجل من التصريح بالكتب التي لم نقرأها، لكن المثال الذي يقدمه David Lodge يقول العكس. ففي: Changements de décors، يفقد Howard Ringham وظيفته في الجامعة، لأنه صرّح بأنه لم يقرأ هاملت. ثانيا، عندما نتتبّع بلزاك في: Illusions perdues، سنجد صحافيا يكتب عرضا Compte rendu عن كتاب، لكنه لا يكتب هذا العرض إلا ليفرض أفكاره، وليكون في موقع قوة. فأن تكتب عن كتاب، في عهد بلزاك على الأقل، يعني أنك تملك سلطة. وإذا كان صحيحا أن الكتابة عن كتاب تمنح سلطة، فان ذلك لا يمنحنا سلطة فرض أفكارنا، لأن الأمر يتعلق بسلطة مؤسساتية لا نمارسها بقصد أية منفعة شخصية. ثالثا، يقترح بيير بيار أن « نبتكر الكتب « بحسب ضرورات المحادثة، على طريقة إحدى شخصيات Je suis un chat, Natsume Soseki هذه الشخصية التي تجد لذتها في خداع الناس بابتكار حكاية ما. رابعا، يقترح بيير بيار « الحديث عن الذات « على طريقة أوسكار وايلد الذي يرى أن النقد هو الشكل الوحيد المقبول للاتوبيوغرافيا. يبقى أن نتساءل: هل هذه التوجيهات والنصائح التي يقدمها بيير بيار للحديث عن كتب لم نقرأها هي توجيهات ونصائح فعالة؟ في الواقع، ليس هدف بيير بيار أن يقدّم نصائح وتوجيهات للذين لا يقرؤون، بل إن هذه الأخيرة تفكك وضعية التلفظ، أي مقامات الحديث عن الكتب، وتكشف جهازا ثقافيا أساسيا تفضح مقاماته ووضعياته التلفظية أعراضه Symptomes. ذلك أن الكتاب والقراءة والخطاب النقدي عناصر تؤلف موضوع « قداسة « حقيقية. ومع ذلك، فهذه العناصر لا تشتغل ولم تشتغل أبدا تبعا لمنطق نصية النص: فالكتاب نتعامل معه كأنه لا يدير نصّيا محتوى ما، لكنه يتقدّم الينا كأنه Fétiche، أي كأنه صنم أو تعويذة مخدوم بواسطة الفقدان. والقراءة ليست نقلا إلى القارئ لما يتضمّنه الكتاب من معرفة، بل إن القراءة هي علاقة بيفردية تأتي مثلّثة مؤلفة من المجتمع والثقافة والسياق. والنقد ليس حكما على نصّ مقروء، بل يأتي كأنه صدى رمزيّ للكتاب الصنم. ففي اللحظات المتتابعة كلها ( ظهور الكتاب، قراءته، الكتابة عنه وتقديمه للجمهور)، لا يكون الكتاب متناولا نصّيّا وحرفيّا. ومعنى ذلك، في نظر بيير بيار، أن الكتاب لا يكون موضوعا للدرس والحديث قدر ما يأتي في صورة صنم، سواء بمعنى الكتاب الداخلي Le Livre intérieur الذي يخضعه القارئ للتحويل داخليا، أو سواء بمعنى الكتاب الشاشة Le livre ? écran الذي يستخدم كواجهة بين الكتاب الداخلي والمخاطب الذي نحدثه عن الكتاب، أو سواء بمعنى الكتاب الجماعي Fiction du livre الذي نمنحه لا مضمونا ما، بل نضع فيه « صورة « عن الكتاب مقبولة اجتماعيا. ولأن الكتاب، باعتباره موضوعا، يبدو شيئا منتثرا وغير قابل للإدراك، فان مستوى آخر هو الذي يستخدم في العلاقة بين الناس الذين يتحدثون عن الكتب، وهذا المستوى يسميه بيير بيار المكتبةLa bibliothèque ، ويقسّمها إلى: مكتبة داخلية Bibliothèque intérieure هي التي تشكّل ثقافة كلّ واحد منّا. مكتبة افتراضية Bibliothèque virtuelle وهي الواجهة الثقافية التي تسمح بإجراء محادثة حول الكتب. مكتبة جماعية Bibliothèque collective وهي الثقافة بصفة عامة. وتسمح المكتبة، بهذه المعاني، بالتفكير في الكتاب والقراءة لا بعبارات النص، نصّ الكتاب، بل بعبارات الفضاء: فضاء الحديث عن الكتب، وهو فضاء غير واقعي، بل انه يبدو كفضاء الحلم، ذلك لأنه فضاء تسيطر عليه الصور، والصور الذاتية بالأخص، إذ يتمّ إسقاط الفضاء الواقعي للمكتبة داخل « عالم شخصيّ حميميّ «، ثم داخل « فضاء رمزي « للمحادثة والنقاش، ثم داخل « عالم الاعتراف الاجتماعي «. وفي المكتبة، بهذا المعنى، تشتغل الثقافة، مثلما تشتغل فيه التعبيرات الشخصية الحميمية، وفيه تحيى الكنوز الجماعية المشتركة. وهنا نكتفي بطرح سؤال واحد وأساس: هل معنى ما جاء في كتابه أن القراءة، والثقافة، ليست إلا لعبة خالصة للعلاقات البيفردية المجردة من كل محتوى معرفي وثقافيّ؟ ومع ذلك، ينبغي لنا أن نسجل أن كتاب بيير بيار، كما أغلب كتبه، قد عرف نجاحا كبيرا، في فرنسا على الأقل، ليس في وسط الذين لا يقرؤون فحسب، بل وفي وسط عشّاق القراءة، لأسباب عدّة، من أهمها: أولا، نحن أمام كتاب يلحّ على أن الحرية شرط جوهري في علاقة القارئ بالكتاب، فهذا الأخير يتغيّر مع كل قارئ، بل ومع القارئ الواحد نفسه، تبعا لعوامل عديدة، كالسنّ والمستوى التعليمي والثقافي والاجتماعي ... ثانيا، يكشف الكتاب النقاب عن مسألة مهمة: القراءة ظاهرة معقدة بشكل لا يتصور، فهي خليط متفرّد من الانتباه والتجاهل، من التركيز والوعي وحلم اليقظة، من التذكر والنسيان...، بحيث يصعب إخضاع القراءة للدرس المخبريّ، لأن هناك أشياء تنفلت من قبضة المختبرات العلمية، ومن هذه الأشياء أن القراءة قد تعني تصور مضمون كتاب ما أيضا، وقد تعني تمديد فقرة ما من كتاب ما، وقد تعني هذا الشيء الذي يغذّي أحلام اليقظة ...، فالقارئ لا يحكي دوما مضمون كتاب ما، بل قد يفضّل تذوقه من خلال بعض عناصره الشكلية، أو من خلال قائمة مواده... ثالثا، هناك وهم عند القرّاء بأن الكتاب تمكن قراءته كاملا، مع أن قراءة كتاب هي في الواقع قراءة مقاطع، يقرأ القارئ الكتب للحظات، يضع الكتاب ويفكّر للحظات، يترك الكتاب ليومين، يعود إليه، يواصل القراءة، قد يقفز على فقرات، ويتجاوز صفحات، قد يقرأ فصولا من الكتاب من دون أخرى ... ومعنى هذا أن القراءة هي، في الواقع، سيرورة متقطعة تتحول من خلال مقاطع وفقرات إلى نصّ متّصل يحتفظ به متخيلنا مشكّلا ما يسميه بيير بيار: الكتاب الداخلي. رابعا، القراءة تجربة فردية حرّة، وليست نشاطا أكاديميا مدرسيا خاضعا للدقة والصرامة المتوهمتين. وهي التجربة التي ينبغي لنا أن نحررها من تلك الصورة الضاغطة القاهرة التي تقدم الثقافة على أنها خالية من العيوب والنقائص. فلا ينبغي للقارئ أن يخجل من الحديث عن كتاب لم يقرأ منه إلا جزءا يسيرا، أو الحديث عن كتاب لم يستطع استيعابه كاملا. فأن تكون مثقفا، في نظر بيير بيار، لا يعني أنك قرأت الكثير من الكتب، أو أنك قرأت هذا الكتاب أو ذاك، بل هو أن تعرف كيف تتموضع داخل مجموع الكتب، بأن تعرف أنها تشكّل مجموعا، وأن تكون قادرا على تحديد كل عنصر/ كتاب في علاقته بالعناصر / الكتب الأخرى. خامسا، هذا الكتاب ليس دليلا للذين لا يقرؤون، بل كتاب يرمي إلى مقاربة إشكالية القراءة بطريقة مغايرة، مركزا على السؤال الأساس: ما معنى أن أقرأ؟ هل الكتاب الذي نسيت مضمونه أعدّ من قرّائه؟ هل الكتاب الذي تصفّحته أعدّ من قرّائه؟ هل الكتاب الذي قرأت الكثير عنه، من دراسات وتعليقات، أعدّ من قرّائه؟ وأخيرا، يبدو كأن بيير بيار يبتكر، من خلال هذا الكتاب، بيداغوجيا جديدة للقراءة. هل ينبغي لنا أن نقرأ كلّ شيء؟ هذا مستحيل طبعا !وإذن، إذا تعذّر عليكم أن تقرؤوا الكثير، فاقرؤوا قليلا كلّما أمكن ذلك، لأن ما تقرؤونه، ولو كان قليلا، قد يكون كافيا. ملحوظة: نصّ المساهمة التي شاركت بها في لقاء بأسفي حول: واقع القراءة بالمغرب، من تنظيم مندوبية وزارة الثقافة، يوم 26 فبراير 2011.