1 لاشك في أن روايات الحب قد تعرضت، منذ زمن غير قليل، للإبعاد أو الإهمال، وصارت روايات المتعة والجنس الأكثر حضورًا وهيمنة. والسؤال الذي يشغلنا هو: أين تكمن قوة الأدب: أفي كتابة الحب والعشق أم في كتابة الجنس والمتعة؟ ما الذي تصعب، أو تستحيل، كتابته: الحب أم الجنس؟ ربّما أن الحجج التي تسند هذا النزوع إلى إبعاد روايات الحبّ قد تكون مقنعة، وخاصة بالنسبة إلى طبقات القرّاء الآتية: بالنسبة إلى الرجال الراشدين الذين خبروا الحياة، واكتسبوا من التجارب ما يسمح لهم بأن يطلبوا من الرواية أن تهتمّ بأشياء جدّية وصلبة، لا بمسائل ترتبط بالشعور والطيش والشباب وانعدام التجربة. بالنسبة إلى القراء الذين ملّوا حكايات الحبّ المتشابهة: في كل زمان ومكان، هناك رجل يجري وراء امرأة، وهناك دوما هذا البحث السعيد أو الحزين عن النصف الاخر المفقود. وهذه اللعبة التي تعاد في كلّ مرة لا تشغّل في العمق إلا عددًا محدودًا من التوليفات والتجارب التي استنفذ الأدب الشعري والسردي صورها. بالنسبة إلى الرجال الذين يريدون والنساء اللواتي يردن من الحبّ أن يتحرر من رومانسيته، وأن يسترجع فعل الحب جوانبه الواقعية والطبيعية، وعناصره المادية والملموسة، بلغة تقول الجسد والجنس والمتعة واللذة، لا بلغة تضفي نوعا من الأسطرة على فعل الحبّ، وتصوغه صوغا مثاليا فوق إنسانيا، متعالية على وجوده المادي الملموس. وللردّ على هذه الحجج، يمكن أن نستحضر ردود الناقد المعاصر بيير لوباب في كتابه الذي صدر سنة 2011 حول تاريخ روايات الحب(Pierre Lepape : une histoire des romans d'amour, ed. Seuil, 2011.)، فنتساءل: ماذا لو كانت الرواية أصلا جنسا أدبيا غير جدّي، يرتبط بالطيش واللعب والشباب أكثر من ارتباطه بالرشد والجدية والنضج؟ ماذا لو كانت الرواية نوعا أدبيا طائشا مرتبطا "أصلا بانعدام التجربة وبانفعالية الشباب، وخاصة عند البنات الشابات ..."؟( المرجع نفسه، ص12) هل يمكن للبالغين الراشدين الذين يفهمون الحياة على أنها مصالح أن يقتنعوا بما تُعَلِّمه روايات الحبّ للشباب: أن الحبَّ هو الشيء الأكثر أهمية في الحياة؟ وللرد على من يفضلون كتابة الجنس والمتعة على كتابة الحب والعشق، يمكن أن نستحضر ما يقوله أحد أكبر منظّري الحب في هذا العصر، المحلل النفسي جاك لاكان. ففي نظره، الحبّ علاقة، ولذلك فهو يقودنا في تجربة جوهرية إلى معرفة الاختلاف، إلى لقاء الآخر. أما في الجنس، فإنه " لا وجود لشيء اسمه العلاقة الجنسية " ( Alain Badiou, Nicolas Truong : Eloge de l'amour, ed. Flammarion, Paris, 2009.)؛ ذلك لأنه في الجنس يكون كل واحد من الطرفين منشغلا بمتعته، صحيح أن هناك جسدَ الآخر، لكن المتعة هي دائما متعتك، فالجنس لا يجمع بل إنه يفرّق: فأن تكون عاريا ملتصقا بالآخر ليس إلا صورةً أو تمثلا خياليًّا، والواقع هو أن المتعة الجنسية تحملك بعيدًا، بعيدًا جدًا عن هذا الآخر. وعلى العكس من ذلك، فإنه داخل الحب تحاول الذات اقتحام "كينونة الآخر"، ففي الحب تذهب الذات أبعد من ذاتها، بعيدًا عن نرجسيتها. في الحب، الآخر هو الغاية، فعلاقة الحب تفرض عليك أن تسير نحو الآخر، أن تتواجد معه، أن يشاركك وجودك. وبهذا المعنى، لن يكون الحب مجرد قناع متخيل لواقع الجنس والمتعة، بل هو تجربة فريدة من نوعها تقودنا إلى اكتشاف المجهول والمختلف: الآخر. والحب، بهذا المعنى اللاكاني، لا يمكن أن يفسّر علميا كما كان يظن فرويد، ولا جدوى من التفاسير العلمية النظرية كما يذهب إلى ذلك بعض الباحثين المعاصرين ( Annie Le Brun : Anthologie amoureuse du surréalisme, ed. Syllepse, Paris, 2002.) ذلك لأن الحب لا يمكن أن نتحدث عنه، كما قال أفلاطون، إلا من خلال حكي الحكايات. وإذا كان صحيحا أن الروائيين قد حاولوا منذ قرون بناءَ وصفٍ كاملٍ للحب، فتناولوا شروط ميلاده، ومدته الشديدة التغيّر، وآثاره واضطراباته المتغيرة، وما يخلقه من سعادة أو تعاسة، وما يلقاه من رفض أو قبول من مؤسسات المجتمع ... إلا أن الأصح، في نظر بيير لوباب، أن الرواية، وعلى عكس التراجيديات القديمة أو التحليلات النفسية الفرويدية، لا تعتقد أن الأحاسيس المتعلقة بالحب هي أحاسيس أزلية ثابتة، ومن هنا فهي لا تكفّ عن استثمار الوقائع الجديدة، مستخدمة تقنيات سردية غير مسبوقة قادرة على أن تأخذ بعين الاعتبار الأشياء التي ما تزال مجهولة بخصوص شيء اسمه: الحبّ.