سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
«الرواية والتحليل النصي: قراءات من منظورات التحليل النفسي»: تطبيق الأدب على التحليل النفسي، أو استقراء «الكينونة المتكلمة» في تحديدات المفهوم النفساني للكتابة والأدب
اقتضى تجريب النص الروائي اليوم لتقنيات وأشكال جديدة في الكتابة من منظورات مختلفة، واكتساحه لأقانيم «اللايقين»، قيامه بمهام جديدة تحرره من الشروط الجمالية التي ظلت تحكمه. فمن الانسجام والتناسق اتجه النص الروائي الى الازدواج والتعدد، وأمست الكتابة بعيدة عن إبلاغ حقيقة ما، قدر مساءلتها بشكل يودي الى اللايقين. بهذا المعنى عادت الكتابة الى مساءلة نفسها، في علاقتها بنظامها الداخلي، بالكينونة بعوالمها الحميمية. وفق هذه التركيبة السحرية، أضحى الأدب مولد لانهائي لمرايا متعددة تضعه في منطقة الالتباس، وهو ما يشكل في النهاية، بعضا من خيوط «المفهوم النفساني للكتابة». هذا جزء من منظورات كتاب الناقد حسن المودن «الرواية والتحليل النصي»{1} الصادر حديثا عن منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون ببيروت ومنشورات الاختلاف بالجزائر ودار الأمان بالرباط، ويواصل من خلاله ما بدأه في مؤلفات منها ترجمته لكتاب: التحليل النفسي والأدب للناقد الفرنسي جان بيلمان نويل(منشورات المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، 1997)، ومؤلّفان نقديان: لاوعي النصّ في روايات الطيب صالح: قراءة من منظور التحليل النفسي»(2002)، والكتابة والتحول(منشورات اتحاد كتاب المغرب، 2001)، البحث عن «هذا الموطن اللغوي الذي يعبر فيه الواقع السري للإنسان عن نفسه..إسماع ذلك الآخر الموجود في الداخل في داخل الذات {الكاتبة والقارئة}»/ص10. البحث هنا، لا يتشكل من رؤية «تطبيق التحليل النفسي على الأدب» بل من رؤية معدلة، و «منقحة» تكمن في «تطبيق الأدب على التحليل النفسي»، ومعها نعيد اكتشاف العلاقة بين التحليل النفسي والأدب. يعيد الناقد حسن المودن قراءة هذه العلاقة وإعادة تقليب الأسئلة والإشكالات وإعادة مساءلة المبادئ والمنطلقات، في أفق بناء مقاربة ورؤية جديدة لإشكالية التحليل النفسي والأدب. وبما أن سؤال المنهج يطرح نفسه بحدة، يتجه «مشروع» الناقد حسن المودن الى تعبيد الطريق في اتجاه مختلف أنماط المقاربة. منهج احتمالي يسمح بفتح الطريق أمام احتمالات جديدة يجعل التخييل عنصرا مشتركا بين الكتابة والقراءة. وفق هذا المنحى، تدفعنا المقاربة الى إثارة أسئلة جديدة تحفز على التفكير في أسس الكتابة كما في أسس القراءة، وتجمع بين التخييل والتنظير، في مزاوجة بين الشك والإصغاء للنص، للآخر، من تم سر بلاغة حواريتها. وسواء عند جان بيلمان نويل، أو بيير بيار خصوصا كتابه «هل يمكن تطبيق الأدب على التحليل النفسي»{2}، فإن العلاقة بين التحليل النفسي والأدب تظل مسألة إشكالية. فالناقد الفرنسي جان بيلمان نويل في كتابه «التحليل النفسي والأدب» أعاد قراءة فرويد والعلاقة بين التحليل النفسي والأدب بطريقة تجمع بين التاريخ والنقد، ولم يكتف بالعرض التاريخي قدر ما قام بقراءة تاريخية تقويمية، انتهى من خلالها الى تقديم منهج جديد في النقد النفسي سماه «التحليل النصي» يسمح بتركيز النظر على العمل الأدبي نفسه. إن «الأدب والتحليل النفسي» يشتغلان بالطريقة نفسها، فهما يقرآن الإنسان في حياته اليومية وداخل قدره التاريخي. إجمالا، هناك علاقة وثيقة بين التحليل النفسي والأدب، ومن هذا المنطلق فالنص الأدبي «كتابة مرموزة يمكن فك سننها من أجل مساعدة المحلل النفسي على التحكم في مناهجه والتحقق من مسلماته النظرية بمراجعة قيمتها الكونية»، ويساعد التحليل النفسي القراءة على «تعيين بعد جديد للقطاع الجمالي..الأدب لا يحدثنا عن الآخرين فقط، بل وعن الآخر فينا أيضا». بيير بيار المحلل النفسي وأستاذ الأدب بجامعة باريس، عدل السؤال المركزي بحيث تساءل «هل يمكن تطبيق الأدب على التحليل النفسي؟» وهو ببذلك يقلب المعادلة من أجل لا بناء منهج جديد، بل من أجل فتح آفاق جديدة للتفكير في الأدب لا تؤمن بالأسس النقدية والنظرية. لذلك اقترح بيير بيار وضع منطلقات جديدة للنقد النفسي للرواية البوليسية، حيث مهمة المحلل «هي أن يقوم بتحقيق مضاد». يدعونا بيير بيار، ومعه الناقد حسن المودن، الى قلب الأدوار بحيث يمكن للأدب أن يقول أشياء عديدة للتحليل النفسي، ويمكن للناقد النفسي أن يقوم باكتشاف الإمكانات النظرية التي يمكن أن توجد في فعل الكتابة، ومن تم، يدفعنا التفكير الى إعادة قراءة الأدب من منظور جديد وفق نظريات أخرى، قابلة للاكتشاف وكأننا هنا أمام استرجاع كاشف وبناء في اتجاه أن تكشف النصوص عن مجاهلها الجديدة. اقتراح تطبيق الأدب على التحليل النفسي، يدفع في اتجاه تجاوز نظرية تطبيق الثاني على الأول، خوفا من ابتلاعه. وللخروج أيضا من نظام تفكير التحليل النفسي. أي أن تطبيق التحليل النفسي على الأدب «يؤكد النظرية التي انطلق منها، ولا يضيء العمل الأدبي، وإذا تم قلب الأشياء يكون بإمكان الأدب أن يقول أشياء عديدة للتحليل النفسي. يثير الناقد حسن المودن، نقطة مركزية في إضاءته النظرية، تكمن في أن الرواية هي اليوم من أجناس الأدب أكثر تأهيلا لتقول الكثير للتحليل النفسي عن الإنسان لما لهذا الجنس الأدبي من إمكانات تسمح باستنطاق ذاتية الإنسان في علاقاته المعقدة بالمجتمع والتاريخ والآخرين.. لذلك يتجه الناقد المودن في محاولاته التطبيقية أن يمزج بين المقاربة الموضوعاتية والمقاربة النفسانية، بما يسمح باكتشاف بعض الموضوعات الملحاحة في الرواية العربية، في علاقاتها بالخصائص الشكلية والجمالية والفنية. كما يسمح بمساءلة العلاقة الإشكالية القائمة بين الإنسان والكتابة وإعادة طرح الأسئلة من جديد. في القسم الثاني، يمزج الناقد حسن المودن بين المقاربة الأسلوبية والمقاربة النفسانية بشكل يسمح بقراءة العمل الأدبي في حد ذاته، في أساليبه ومضامينه ومناهجه في الكتابة. وقد اشتغل الناقد في القسمين التطبيقيين على متن روائي يغطي مرحلة من تاريخ الأدب الروائي العربي تمتد من الخمسينات والستينات من القرن الماضي، و تصل إلى بداية الألفية الجديدة. وبعض هذه الروايات هي لكتّاب من المغرب العربي(محمد شكري، محمد برادة، مبارك ربيع، محمد عز الدين التازي، إبراهيم الكوني، بشير مفتي، عبد الحي مودن، جمال بوطيب، أحمد الكبيري)، وبعضها الآخر لكتّاب من بلدان عربية مختلفة(سهيل إدريس، مجيد طوبيا، الطيب صالح، يوسف القعيد، فوزية شويش السالم، عبد الله زايد). رهان المقاربة: المزج بين المقاربتين من منظور التحليل النفسي، أفضت هذه المرة، في اتجاه أكثر تطورا إذ فتحت الرواية نوافذ على الذات والمجتمع والتاريخ. وتبدو وظيفة الكتابة أبعد من إبلاغ عن حقيقة، بقدر مساءلتها بشكل يجعل من التخييل مرآة نقدية لما يقدم على أنه «الحقيقة». إننا أمام نص روائي عربي يقوم بمهمة جديدة تقتضي تجريب تقنيات وأساليب وأشكال في الكتابة تعمل على تشخيص الحياة النفسية للشخصية، وبناء «محكي شعري بأسلوب إشكالي». لقد عادت الكتابة، وفق هذا المنظور، لمساءلة نفسها وهذا ما قد يشكل بعض خيوط المفهوم النفساني للكتابة. لقد استطاع الناقد حسن المودن، تجريب منهج التحليل النصي، كي يصبح النص الأدبي هو بؤرة التحليل. لتمسي الكتابة فضاء تخييليا يشرع نوافذه على المناطق الملتبسة، كما يعمق تجريب منهج نفساني «حواري» قلب المعادلات وتغييرنا الدائم للعديد من المفاهيم. بحيث يصبح المنظور للأدب هو المستقبل. والمنهج نسق متجدد، دينامي لا يحمل أي حقيقة في ذاته، يبطن التعدد مما يجعل من المعنى الأدبي «متعدد التحديد». من هنا، يحسب لمنظور التحليل النفسي خلخلة هذه القواعد، ودفعنا في اتجاه قراءة الأدب، عموما، من منظور مختلف يقوم في كل مرة بفتح احتمالات جديدة. ويسمح للقراءة في النهاية، بأن تكون «تورطا للذات القارئة داخل عوالم النص الأدبي. كما يسمح للنص بأن يساهم في توليد وتوسيع امتدادات للخطاب الأدبي». عندما يمزج الناقد حسن المودن، في القسم الأول من الكتاب، بين المقاربة الموضوعاتية والمقاربة النفسانية، يتجه الى الإجابة على أسئلة متفردة، من قبيل، ماذا يشكل فعل الكتابة بالنسبة للإنسان؟ لماذا يكتب الإنسان؟ ما حاجتنا الى الأدب؟...وتقربنا موضوعات {الكتابة والعنف، الكتابة والألم، الكتابة واللامعقول، الكتابة وعودة المكبوت، الكتابة والصحراء، الكتابة والسفر، جدل الجسد والكتابة}، من سؤال العلاقة الإشكالية القائمة بين الإنسان والكتابة. وفي اختيار الرواية كموضوع المقاربة استجابة لمقولة «فعالية المقاربة النفسانية»، وهي مقاربة «لا تتعرف على مريضها، بتعبير ديديي أنزيو، إلا من خلال محكيه الخاص، ومن خلال أسلوبه ولفظه الفريدين». يقارب الناقد حسن المودن، الرواية في حالاتها المتعددة التخييلية، الأطبيوغرافية، العائلية، القصيرة.. ويتوزع أشكال المحكي النفسي داخل الكتاب، بالشكل الذي يطور من جهة اشتغالات الناقد المنهجية، مادام قد تخلص من قيود «نقدية مسطرية محددة». وأنصت للنص الروائي الذي يحاوره دون فرض لمنهج قراءة معيارية محددة. ومن جهة ثانية، يسمح هذا المنحى أن نتمثل إحدى أهم أنماط المحكي النفسي وهي محكي الأنشطة النفسية غير اللفظية. لقد اختار الناقد حسن المودن، في القسم الثاني من الكتاب، المزج بين المقاربة الأسلوبية والمقاربة النفسانية بشكل يسمح بالإجابة على أسئلة، من قبيل، ما هي أساليب وتقنيات السردية التي يستخدمها النص من أجل قراءة الإنسان في واقعه النفسي؟ وكيف تمارس الكتابة تحليلها النفسي للشخصيات؟. وفي إشارته للأنشطة النفسية {غير اللفظية} يثير الناقد المودن، إشارة أساسية الى تعريف دورثيث كوهن والتي تؤكد أنها أنشطة «صامتة وملتبسة وغامضة» ذات طبيعة غير لفظية، تعيشها الشخصية ولا تعبر عنها لفظيا. لذلك المعرفة غير قابلة للإدراك ولم يعد النص يمتلك حقيقة العالم. فالعالم أمسى أكثر انشطارا، وفي أنشطته النفسية تلك، المساحة من الصمت والالتباس والغموض، يعبر عن بلاغته الخاصة. أما القراءة، فهي الأخرى أمست تولد ل»لانهائيات» من مرايا متعددة. والأولى أن نعيد طرح السؤال على النقد وهذه المرة من منظور التحليل النفسي؟؟ مادمنا نجرب «منهج نفسي هو التحليل النصي الذي يفتح الطريق ليصبح النص الأدبي هو بؤرة التحليل لإدراك قوة الدال الروائي» فإننا نفترض هذا التساؤل بتعديل انقلابي على شكل سؤال بيير بيار. عموما، يواصل الناقد حسن المودن في كتابه الجديد تجريب منهج نفسيّ يتميّز عن النقد النفسي التقليدي في مقاصده وإجراءاته المنهجية، ويتعلّق الأمر بمنهج التحليل النصّي الذي يفتح الطريق ليصبح النص الأدبي هو بؤرة التحليل. وتتجلى قيمة هذا المقترح المنهجي في كونه لا يحوّل النص إلى ذات مطابقة لذات الكاتب، ذلك لأن هذه المطابقة لا تخلو من اختزال أو تعسّّف يؤدي إلى تجاهل خصوصية النص واستقلاليته، كما يؤدي إلى إهمال الجوانب الشكلية والفنّية. فالنقد النفسي التقليديّ، إذ يركّز على المدلول الروائي، يكون بعيدا عن إدراك القوة التي يمكن أن تكون للدالّ الروائي. بهذا المنحى، يقوم الناقد بخلخلة قواعد القراءة بتجريب فتح حوار دائم بين النص والقارئ، كما يؤسس بمشروعه النقدي المتواصل إضاءة ما يسمه ب»الوطن اللغوي الفريد: الأدب» الذي يعبر عن الواقع السري للإنسان «مبدعا وناقدا وقارئا..». ويبلور في النهاية، الحاجة لمنظور التحليل النفسي في القراءة والتأويل، بذلك تتقدم الكتابة كأنها دعوة فعلية الى «تأزيم اليقينيات». هوامش: 1 - «الرواية والتحليل النصي: قراءات من منظور التحليل التحليل النفسي» منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم ناشرون ودار الأمان ط1/ 2010. 2. Pierre Beyard _peut-on appliquer la littérature à la psychanalyse_ ED. Minuitt- paris 2004.