مَنْ قَتل روجير أكرويد؟ الرواية البوليسية والتحليل النفسي (2)
تأليف: بيير بيار ترجمة وتقديم: حسن المودن خص الدكتور حسن المودن الملحق الثقافي لجريدة الأحداث المغربية بهذه المقالة النقدية التي قدم بها لكتاب الناقد الفرنسي بيير بيار الموسوم ب"من قتل روجير أكرويد؟ الرواية البوليسية والتحليل النفسي"، الذي ترجمه إلى لغة الضاد مؤخرا.
3 هذا المنهج الجديد في النقد "البوليسي"، كان قد بدأه بيير بيار في كتابه الأول من نوعه: من قتل روجير أكرويد؟، وعنوان الكتاب دالّ على أن بيار يعود بالتحقيق إلى نقطة الصفر، فالقاتل الذي عيّنه المحقّق هركيول بوارو في الرواية ليس هو القاتل الحقيقي، ومن هنا لابد من العودة إلى نقطة البداية: من قتل روجير أكرويد؟، أي لابدّ من محقق آخر(هو بيير بيار نفسه) يعيد النظر في ملف روجيه أكرويد، وينطلق بحثًا عن المجرم الذي لم ينله العقاب، كأنما على كلّ قارئ، بعد قراءة رواية بوليسية، أن يمدّ العدالة بكافة المعلومات التي يكون قد حصل عليها، ولم ينتبه اليها المحقِّق الأول أو كان قد أخفاها لغرضٍ من الأغراض. ولأن الأمر يتعلق بتحقيقٍ مضاد، فإن كتاب بيير بيار: من قتل روجيه أكرويد؟، يبدو كأنه " رواية بوليسية على رواية بوليسية "، كأنما الناقد يأتي بديلا للكاتب، كأنما الرواية تبدّل مؤلِّفها: كيف ذلك؟ دعونا نستكشف الأمر. يحيل عنوان الكتاب: من قتل روجير أكرويد؟ (9)، الصادر سنة 1998، على الرواية المشهورة للكاتبة الانجليزية أجاثا كريستي (10): مقتل روجير أكرويد، الصادرة سنة 1926. وفي هذه الرواية تحاول الكاتبة أن تكشف من خلال محقّقها المشهور (11) السيد بوارو حقيقة مقتل روجير أكرويد، لتصل في النهاية، هي ومحقّقها، إلى أن القاتل هو السارد نفسه. وهذه الخلاصة هي التي لم يقتنع بها بيير بيار، داعيا إلى تحقيق مضادّ، وإلى طرح سؤال المنطلق من جديد: من قتل روجير أكرويد؟ وروجير أكرويد، رجل غني، أرمل، أحبّ السيدة فيرارز، وطلبها للزواج. لكن يبدو أنه عرف أكثر ممّا ينبغي. عرف أن المرأة التي أحبّها قد سمّمت زوجها الراحل، وعرف أن شخصا ما يبتزّها، وجاءه الخبر الجديد بأن هذه المرأة قد انتحرت، ولما حمل إليه بريد المساء رسالة تضمّ اسم الرجل الذي كان يبتزّ السيدة المنتحرة، يأتي مَن يقتله ويتخلّص منه. وبالنسبة إلى السيد بوارو، المحقق في جريمة قتل السيد أكرويد، القاتل هو الدكتور شبارد الذي ليس إلا السارد نفسه. ولاشكّ في أن هذه النهاية التي انتهى إليها المحقق، وبالتالي الكاتبة، هي التي جعلت من هذه الرواية أشهر الكتب في التاريخ الأدبي، وهي التي تفسّر حضورها في دراسات نقّاد كبار من مثل رولان بارت وامبرطو إيكو. ذلك لأن هذه النهاية تكشف أن القاتل هو الدكتور شيبارد الذي لم يكن موضعَ شكٍّ من قبل القرّاء، لسببٍ بسيطٍ هو أنه هو نفسه السارد في هذه الرواية. بهذه النهاية، تكون الكاتبة أجاثا كريستي قد خلقت المفاجأة، وهي عنصر ضروري في هذا النوع من الأدب، لكنها بذلك تكون قد انتهكت عنصرًا جوهريا في ميثاق القراءة الضمني الذي يربط بين مؤلِّف الرواية البوليسية وجمهورها، ومن مقتضيات هذا الميثاق أن القاتل لن يكون أبدًا هو السارد. وفي رواية: مقتل روجير أكرويد لم يكن القارئ ليتصور أن السارد الذي يجمعه به ميثاق ثقة هو القاتل نفسه. وهكذا اقتنع الكلّ بأن السارد هو القاتل، واسمه هو الدكتور شبارد، الذي قرّر أن ينتحر، بعد أن اتهمه المحقق هركيول بوارو. وبدا للقرّاء والنقّاد على السواء أنه لم يعد هناك من مجالٍ للتفكير في حقيقة القاتل، وأن المجالَ الوحيد الذي يبقى للدرس والتفكير هو بناء الرواية: كيف يكون القاتل هو السارد نفسه؟ وبعيدًا عن الدراسات التي اقتنعت بالنهاية المقترحة من طرف المحقق هركيول بوارو، وانكبّت على معالجة المشاكل النظرية التي تطرحها خصائص البناء وخصائص السارد في هذه الرواية، هاهو محقِّق غير مشكوك في أمره، يدخل إلى خشبة المسرح، إنه بيير بيار الذي لم يقتنع بتلك النهاية، وقرَّر لا الاهتمام بالمشاكل النظرية التي تترتب عن رواية تجعل الساردَ نفسَه هو القاتل، بل قرَّر أن يطرح السؤال من جديد: مَنْ قَتَلَ روجير أكرويد؟، وأن يعود بالتحقيق إلى نقطة الصفر، واضعًا النتائج التي توصل إليها المحقق، وبالتالي الكاتبة، موضع شكّ وسؤال، مفترضًا أن عالَم الرواية يتجاوز الحدود التي يضعها له مؤلِّفه. في كتابه: مَنْ قَتَلَ روجير أكرويد؟ يعيد بيير بيار البحث والتحقيق، غير مقتنع بأن الكاتبة تَعْلَمُ كلَّ شيء، وواضعًا يده على تناقضات المحكي والشخصيات، وكاشفًا ما أصاب المحقق، والقارئ أيضا، من عمًى أمام أمور وقرائن واضحة وبديهية، ومتسائلا في النهاية ما إذا لم تكن " أنا " هي " آخر". وهكذا، وتبعًا للتحقيق الذي أجراه بيير بيار، واستنادًا إلى حجج واضحة في النص، فإن القاتل الحقيقي هو كارولين شبارد، أخت الدكتور شبارد الذي اتهمه المحقق هركيول بوارو. فهي، مقارنةً بأخيها، العنصر الأقوى في العائلة، وتلعب دور الأمّ بالنسبة إلى أخيها، ومستعدة للقتل من أجل حمايته، وشخصيتها أقرب إلى شخصية القاتل. وبينها وبين أخيها علاقة حبّ متبادل: هي التي قتلت أكرويد لأنه كان يعرف أن أخاها الدكتور شبارد يبتزّ السيدة فيرارز، وأخوها الطبيب يتهم نفسه، أو يَقْبَل أن يُتَّهَم بالقتل، وينتحر لحماية أخته، القاتل الحقيقي. وبهذا تتحول الحكاية في هذه الرواية من حكاية أموالٍ قذرةٍ إلى حكاية حبٍّ متبادلٍ بين أخٍ وأخته. ويمكن بالمعنى النفسي أن نقول إنهما شخصية واحدة، وهي المسؤولة عن موت روجير أكرويد. وهكذا، فالحقيقة الوحيدة في رواية أجاثا كريستي هي مقتل روجير أكرويد، وتبقى البقية موضعَ تأويل. والتأويل الذي تبنّاه المحقق بوارو ليست خاطئا فحسب، بل هو جريمة قتل، ذلك لأنه التأويل الذي دفع الدكتور شيبارد إلى الانتحار. وفي نظر بيير بيار، ليست هذه هي المرة الأولى التي يَقتل فيها هركيول بوارو، ففي رواية الستارة قتل رجلا ببرودة دمٍ بعد أن عرف أنه المجرم، لكن الجديد في رواية: مقتل روجير أكرويد هو أن تأويل المحقق بوارو لم يكن محكمًا وصارمًا، كما يدّعي، بل إنه كان نوعًا من الهذيان العنيف الذي أجبر الدكتور شبارد على الانتحار. لاتعود أهمية كتاب بيير بيار: من قتل روجير أكرويد؟ إلى كونه يكشف الاسم الحقيقي للقاتل في رواية أجاثا كريستي: مقتل روجير أكرويد، بل إنه من خلال ذلك يدعو إلى التفكير من جديدٍ في عمل المؤوِّل أو القارئ وطريقة اشتغاله، لافتًا النظر إلى موضوع نظري هامّ: التأويل باعتباره هذيانا. لكن، هنا يمكن أن نتساءل: هل الحقيقة التي انتهى إليها هذا المحقق الجديد، بيير بيار، هي الحقيقة، والحقيقة كلّها؟ في التصور الفرويدي، الهذيان هو أقلّ من الجنون، أو إنه نقيضه وضدّه، فهو محاولة في تنظيم الجنون. وبهذا المعنى، فكلّ هذيانٍ إلا ويتأسس على صوغ نظريّ ما، كما أن كلَّ عملٍ نظري إلا ويتنظّم بجزءٍ من الهذيان. وإذا كان الأمر كذلك، تبعًا لهذا التصور، فهل يمكن أن نسائل بيير بيار، الذي أعلن أن صوغه النظري سيكون جادّا وصارمًا وبعيدًا عن الفرضيات الهذيانية والشعرية: أليس في بحثه وتحقيقه المصاغ صوغًا نظريا محكمًا جزءٌ من الهذيان الذي اتّهم به بوارو في تأويله؟ ألا يمكن أن نعتبرَ هذيانًا هذه الرغبة عند المؤوِّل في تحويل حكاية المال القذرة إلى حكاية حبٍّ عجيبة؟ ومع كل ذلك، يبقى بيير بيار هو هذا الناقد الذي يجمع بين التخييل والتنظير بطريقةٍ مدهشة، ويزاوج بين الشك والإصغاء الحكيم للكلمة، كلمة الآخر. ويدعونا في كل مرة إلى عدم التسليم بسهولة، وعدم الاقتناع بالحقائق التي تُقَدَّم إلينا، وأن نتعلّم البحث عن الحقيقة بأدواتٍ مغايرة، وأن نتخذَ من اللعب أوالسخرية أسلوبًا في التحليل والتفكير. ولا ينبغي لنا أن ننسى أن الفرضية التي انطلق منها بيير بيار في هذا الكتاب لا تستمد قوتها إلا من كونها تقترح، باكتشافها قاتلا آخر، نهايةً أخرى للرواية دون أن " تَخْرُجَ " عن النص، بل إنها تلتزم بالنص في حرفيته وكليته، كأنما الأمر يتعلق بإعادة كتابة الرواية من ألفها إلى يائها: رواية بوليسية على رواية بوليسية. ولأن بيير بيار قد أصدر سنة 2010 كتابا تحت عنوان: وإذا ما بدّلت الأعمال الأدبية مؤلِّفِيها؟، فإننا نتساءل: إلى أي حدّ يصح أن نقول إن رواية: مقتل روجيه أكرويد لمؤلِّفتها أجاتا كرستي قد أصبح لها مؤلِّف آخر هو: بيير بيار؟ هوامش: 8) Pierre Bayard, Qui a tué Roger Ackroyd?,ed . Minuit, 1998, Paris. Enquête sur Hamlret, Le dialogue des sourds,ed Minuit,2002,Paris , L'Affaire du chien des Baskerville,ed Minuit,2008,Paris. 9) Pierre BAYARD , Qui a tué Roger Ackroyd? publié aux éditions de Minuit, collection Paradoxe , 1998, 169 pages. بخصوص الترجمة العربية لهذه الرواية، نستعين بالترجمة التي أصدرتها دار النشر الأجيال للترجمة والنشر (المترجم). 10) أجاثا كريستي كاتبة انجليزية، ولدت بجنوب انجلترا عام 1890 وتعتبر من كبار مؤلفي الرواية البوليسية بروايات عديدة تدلّ على ذكاء خارق ومقدرة مذهلة على رواية الألغاز، وتوفيت سنة 1976 بعد أن كتبت سيرتها الذاتية. من رواياتها: جريمة قتل في قطار الشرق السريع، موت على النيل، جريمة في العراق، الستارة، الأربعة الكبار، جريمة قتل بالمترو، جريمة في المرآة، ثلاثة عشر لغزًا … 11) ظهر المحقق بوارو في إحدى الروايات الأولى لأجاثا كريستي: جريمة غامضة في ستايلز، وكرّست له الكاتبة أكثر من ثلاثين رواية ليصبح من أشهر رجال التحقيق إلى جانب شرلوك هولمز ..