يعير عابد الجابري أهمية قصوى لدور اللغة في البناء النسقي للعقل، صحيح أن بعض الدراسات الحديثة التي يصرح الجابري باستيحائه لنتائجها هي الأخرى تربط برباط متين الفكر باللغة، إلا أن اللغة العربية بالنسبة إلى العقل العربي كانت لها خصوصية؛ وتتجلى خصوصيتها في أنها محل تعظيم وتقديس من العربي، إلى حد أن اللغة العربية نفسها تحمل بين طياتها ما يؤكد هذه الخصوصية، ففي معاجم اللغة العربية؛ الذي لا ينطق بالعربية يُطلق عليه «أعجمي»، ولا تخفى تلك الصلة الجذرية بين «أعجمي» و»عجماء»، فهذه الأخيرة تعني في اللغة الحيوانات المتسمة بالعجمة؛ أي عدم امتلاك ملكة النطق، من هذا المنظور يمكن القول إن العربي «إنسان فصيح» كما يقول عابد الجابري، وهذا من غير شكّ يدعونا لاستحضار التعريف اليوناني الشهير للإنسان بأنه «حيوان عاقل»، فكأن الجابري يوحي بوجود تقابل بين عربي بياني ويوناني عقلاني. بل إن للغة العربية خصوصية تاريخية أخرى، قد تبرر هي الأخرى إيلاءها كل هذه الأهمية، خصوصية تتمثل في أن أول نشاط فكري وأول عمل منظم قام به العرب هو التقعيد للغة العربية نفسها والتأسيس لها علميا بما يجعلها مادة قابلة للدرس، ولا يخفى أن هذا الاندلاع الأول لهذه الشرارات الفكرية الأولى، وهذه البذور التي تُنثر في العقل المكون يكون لها أعظم التأثير في رسم مسارات العقل اللاحقة، يقول عابد الجابري "ثمة اعتبار يمكن أن يبرر إعطاء الأولوية للغة العربية في دراسة العقل العربي: مكوناته وآلياته. إنه المعطى التكويني نفسه. ذلك أن الواقع التاريخي يؤكد أن أول عمل علمي منظم مارسه العقل العربي هو جمع اللغة العربية ووضع قواعد لها". والحال أن اللغة، أية لغة، كما تؤكد بعض الدراسات على حد تصور الجابري لها، تسهم بقسط كبير في تحديد رؤية الإنسان إلى الكون، وإلى التاريخ، وإلى نفسه، فاللغة حسب هردر ليست مجرد أداة للتواصل أو وسيلة للتعبير عن أفكارنا، بل هي قبل هذا ذلك القالب المسبق والجاهز الذي تصاغ فيه هذه الأفكار، وهذا لا ينطبق على المعجم اللغوي الذي تقدم لنا لغة ما، والذي نوظفه في كلامنا، بل كذلك قواعده النحوية هي الأخرى تكاد تكون قواعد للعقل نفسه، وعلى هذا الأساس، فقد يبدو بديهيا وغير مثير لأي استغراب القول بأننا نتكلم كما نفكر، لكن ما قد يتراءى صادما حينما نعيه لأنه خفي ولاشعوري وإن كنا نخضع له خضوعا تاما هو أننا نفكر كذلك كما نتكلم، يلخص آدم شاف هذه الفكرة فيقول: "ابتداء من هردر وولهلهم فون همبولد على الأقل تبنت الدراسات اللغوية مرات عديدة الأطروحة القائلة بأن منظومة لغوية ما تؤثر في طريقة رؤية أهلها. الشيء الذي يعني أن اللغة التي تحدد قدرتنا على الكلام هي نفسها التي تحدد قدرتنا على التفكير". والمعطى اللغوي الآخر الذي يستحضره الجابري هو أن اللغة تتأثر بمحيطها الطبيعي، إنها تعكس عالم الإنسان الثقافي والاجتماعي والبيئي، وتترجم كذلك حضارته على المستويات التقنية والعلمية والاقتصادية.. إلخ، فالمعجم اللغوي لمجتمع ذي طبيعة صحراوية غير ذاك السائد في المناطق الباردة المتجمدة، والقاموس اللغوي الذي يستعمل في المدينة المعاصرة المجهزة بأحدث التقنيات سيختلف على طول الخط مع المعجم اللغوي لتجمع بدوي بدائي، يقول عابد الجابري: "إن اللغة لا تعكس الظروف الطبيعية وحسب، بل تحمل معها هذا الانعكاس نفسه لتنشره على أمكنة وأزمنة مختلفة، فتكون بذلك عاملا أساسيا، وأحيانا حاسما في تحديد وتأطير نظرة أصحابها إلى الأشياء". بناء على هذه المقدمات المنهجية، ينتقل الجابري إلى بيان الكيفية التي بصمت بها اللغة العربية عالم الإنسان العربي، وحددت أطر تفكيره، مع التأكيد بدءًا أن تأثير اللغة على الإنسان العربي لم يفتر إلى الآن، فذلك النشاط العلمي الذي قاده علماء اللغة في عصر التدوين لا يزال يعتمل إلى الآن، والسبب راجع إلى أن اللغة العربية، سواء في كلماتها أو في قواعدها النحوية لم تتغير قط، والقواميس التي ألفت في الحاضر لا تختلف عن القواميس القديمة، وهي –كما يرى الجابري- فقيرة تنقل إلينا عالما خاصا، بسمات إيكولوجية وثقافية لا تساير العصر، وتعرض، في المقابل، صفحا عن المفاهيم والكلمات الجديدة التي استجدت، سواء بالتطور الداخلي أو بالاحتكاك مع حضارات جديدة، يقول ناقد العقل العربي: "إن قاموس لسان العرب وهو أضخم وأغنى قاموس في اللغة العربية، لا ينقل إلينا على ضخامة حجمه، أسماء الأشياء الطبيعية والصناعية ولا المفاهيم النظرية وأنواع المصطلحات التي عرفها عصره في القرن 7 و8 للهجرة، وفي القاهرة أحد المراكز الحضارية الرئيسية في التاريخ الإسلامي". خصلتان كرستهما اللغة العربية والطريقة التي تم بها تقعيدها وتأسيسها علميا، وهما اللاتاريخية وطابعها الحسي. فمن جهة سجن الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ أول من جمع من خلال منهجية منطقية وعلمية صارمة اللغة العربية، بين جدران عالم قديم، فقد كان لطريقته الدور الكبير في إغلاق اللغة العربية والحيلولة دون تطورها بما يسمح لها بمسايرة التقدم الذي تعرفه الحياة في مستوياتها المختلفة وتمظهراتها المتنوعة. فالخليل بنى معجمه بشكل منطقي محكم فعلا، لكن بطريقة يتم على إثرها الانتقال من الذهني إلى التحقق الواقعي وليس العكس، يشرح الجابري صنعة الخليل، فيقول: "لقد انطلق الخليل من الإمكان الذهني في التعامل مع الحروف الهجائية العربية تعاملا رياضيا صرفا، فحصر أنواع الألفاظ الممكن تركيبها منها. وهذا المبدأ كان لا بد أن يجعل اللغة من صنع الذهن بدل أن تكون نتيجة التعامل معها كمعطى واقعي"، وقد كانت النتيجة أن انغلق النسق اللغوي على نفسه، ولم يواكب التغير الحاصل، فبحكم إقفال اللغة لم يكن بالإمكان إدراج مفاهيم جديدة تغني القاموس العربي أو تساعده على الارتقاء بتفكيره مستعينا بكلمات جديدة بدل الإبقاء على الذات حبيسة وضع اجتماعي وبيئي وثقافي متجاوز، وهذا هو الوجه التاريخي للغة. أما أنها لغة حسية، فلأن اللغويين الأوائل حين استشعروا فشو اللحن والخطر الذي يتهدد اللغة بسبب ندرة العرب الأقحاح الذين يحفظون السليقة ويجيدون التكلم بلغة الضاد بالفطرة، سارعوا إلى جمع قاموس لغوي، فكانت وجهتهم المناطق الموغلة في القفر، والتي لم تحتك بالأعراق الأخرى الأجنبية، وبالإضافة إلى سذاجة الحياة في هذه المناطق، والتي تستخدم وسائل بدائية، فإن حياتها حسية يغيب فيها التفكير المجرد، وهذا المحيط البيئي، وذلك النمط من التفكير كان لابد أن يطغى على لغتها، لأن اللغة ليست شيئا آخر غير دوال الأشياء التي يتعارف عليها الناس، وهي منعكسة بطبيعة الحال في حياة الإنسان اليومية ونشاطه الفكري، يقول الجابري عن الشرط الذي اشترطه اللغويون في الذي يأخذون عنه اللغة: "كان أهم شرط وضعوه فيمن يصح أخذ اللغة عنه أن يكون خشنا في جلده فصيحا في لسانه"، إنه إذا "الأعرابي"، وهذا سر تسمية الناقد لأحد فصول كتابه ب "الأعرابي صانع العالم العربي"، وفي عبارة أخرى موازية يسمي الأعرابي ب "أستاذ العلماء". يجمل الجابري عملية جمع اللغة من الأعراب، فيقول: "لقد انطلقت عملية جمع اللغة وتقعيدها من الخوف عليها من الانحلال والذوبان بسبب تفشي اللحن في مجتمع أصبح العرب فيه أقلية، وبما أن سبب اللحن كان الاختلاط الواسع الذي عرفته الحواضر في العراق والشام خاصة، بين العرب والموالي، فلقد كان طبيعيا أن تطلب اللغة الصحيحة من البداية وبكيفية خاصة من القبائل التي بقيت منعزلة وبقي رجالها الأعراب محتفظين بفطرتهم وسليقتهم وسلامة نطقهم".