سبق لأحد السياسيين أن قال إن الذي يتحكم في عقول الناس ويشكلها بالطريقة التي تخدم مصالحه هو من يضع المعاجم والموسوعات. اليوم، مع تقدم تقنيات الاتصال وظهور الأنترنيت على وجه الخصوص، يمكننا أن نقول إن المتحكم في العقول هو من يسيطر على هذا الابتكار الخطير في تاريخ البشرية ويسخره لأهدافه. وهذا الرأي لا مبالغة فيه، فالأنترنيت بدأ يأخذ شيئا فشيئا مكان المعاجم والموسوعات، ويغني عن الرجوع إليها. في تقاطع مع رأي هذا السياسي، سبق للفيلسوف محمد عابد الجابري أن عقد فصلا في كتابه «تكوين العقل العربي» عنونه كالتالي «الأعرابي صانع العالم العربي». وبغض النظر عما أثاره هذا الفصل من نقاشات ومن نقد يستند إلى خلفيات مختلفة، فإن الجابري قدم مجموعة حجج تبرر تصوره هذا، والتي يمكن تقسيمها إلى مستويين: المستوى الأول يؤكد أن اللغة تساهم مساهمة أساسية في تحديد نظرة الإنسان إلى الكون وفي تصوره له، كما أنها هي الإطار الذي يتشكل فيه الفكر بدءا ونهاية. والمستوى الثاني يؤكد أن اللغة العربية مكون أساسي في العقل العربي، إلى درجة يمكن القول معها إن العربي حيوان فصيح، كما يؤكد أن أول عمل علمي منظم مارسه العقل العربي هو جمع اللغة العربية ووضع قواعد لها. وهو عمل انطلق من الخوف على العربية من الانحلال والذوبان، بسبب تفشي اللحن في مجتمع أصبح فيه العرب آنذاك أقلية ضئيلة. وبما أن سبب اللحن كان الاختلاط الواسع الذي عرفته الحواضر في العراق والشام خاصة، فلقد كان طبيعيا أن يتم طلب اللغة «الصحيحة» من البادية، وبكيفية خاصة من القبائل التي بقيت منعزلة وبقي رجالها الأعراب محتفظين بفطرتهم وسليقتهم. والجمع بين هذين المستويين، أي أهمية اللغة في تشكيل الفكر واهتمام «العرب» المفرط باللغة العربية وجمعهم لمتونها من أفواه الأعراب، سوغ للجابري أن يقول إن «الأعرابي هو صانع العالم العربي». يظهر أن كل حجج الجابري في حاجة إلى تنسيب، فمع التقدم التكنولوجي وظهور الأنترنيت وسيطرة محرك البحث غوغل، أصبح لزاما تغيير هذا العنوان ليغدو غوغل هو صانع العالم العربي. لا شك أن الكثير من القراء سيقولون إن غوغل هو صانع العالم بإطلاق وليس فقط العالم العربي، إلا أن هذا القول فيه نظر إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الصراع المحتدم بين محركات البحث من أجل الاستحواذ على حصة من السوق، وإذا ما استحضرنا فكرة الاستثناء الثقافي التي يدافع عنها البعض صراحة والتي يمارسها آخرون ضمنا، بهدف الحفاظ على خصوصياتهم الثقافية، وهو ما يخلق نوعا من التوازن في صنع اتجاهت الرأي والمواقف ويجعل، بالتالي، من الصعب على غوغل الاستحواذ على السوق وتشكيل ذهنيات بعض الشعوب بطريقته الخاصة. غوغل صانع العالم العربي، لا شك في ذلك، فاللغة العربية تقع تحت هيمنته، إذ هو من أولى المحركات التي وفرت لوحة مفاتيح افتراضية تتضمن أحرفا عربية، مما شجع كل العرب على اللجوء إليه في البداية من أجل تجاوز معضلة عدم توفر الأبجدية العربية في الإصدارات الأولى من «ويندوز». فهذا الإجراء الذكي، ربط المستعمل العربي للأنترنيت بهذا المحرك ووثق صلته به. ولأن بعض مستعملي الحواسيب في العالم العربي يجدون صعوبة في كتابة الكلمات العربية، إما لعدم تمكنهم منها أو لتوفرهم على لوحات مفاتيح لا تتضمن إلا الأحرف اللاتينية، فقد ابتكر غوغل خدمة سماها «تعريب» «reebع ta» تتمثل في إمكانية كتابة الألفاظ بالأحرف اللاتينية، وبمجرد الضغط على «زر مسافة» تتحول الأحرف اللاتينية إلى كلمة عربية، وهو حل فعال لإجراء أبحاث والإبحار في الشبكة بواسطة كلمات مفاتيح. فغوغل بهذه الخدمة يفرض نفسه على العربي في حله وترحاله، فلو افترضنا عالما لا وجود فيه لحواسيب تدعم اللغة العربية، فإن هذه الخدمة قادرة على تعريب الألفاظ وبالتالي ضمان التوصل إلى المعلومة العربية بيسر. ولأن الشكل في اللغة العربية يساوي المعنى، فقد دخل غوغل من هذا الباب كذلك، وقدم خدمة سماها تشكيل «Tashkeel» تعمل على شكل الألفاظ ووضع الحركات على الكلمات والنصوص حسب سياقاتها، ورغم عدم دقة الشكل في الكثير من الحالات، فإن هذه الخدمة توفر جهدا ليس باليسير على الذي يرغب في شكل النصوص أو تهجيها لعدم تمكنه من العربية. والترجمة هي الأخرى تنقل المعنى من لغة إلى أخرى، لكن الترجمة منذ القدم اعتبرت خيانة غير متعمدة للنصوص، ويمكننا أن نقول إنها مع غوغل قد تتحول أحيانا إلى خيانة متعمدة، والكل يذكر تلك الجمل التي تتضمن قدحا في إسرائيل والتي كانت كلما تم طلب ترجمتها في غوغل من العربية إلى اللغات الأجنبية، تم الحصول على محتوى إيجابي، الآن صحح ذلك بعد أن تم تجريبه من طرف المتصفحين وبعد أن كثر النقد. ولأن للدين هيمنته على العربي والمسلم على العموم، فإن دور غوغل لا يستهان به في هذا المجال، فقد تحول هذا الأخير إلى شبه معجم مفهرس للقرآن والحديث، فالكل يلجأ إلى غوغل بحثا عن الآيات ومواقعها من القرآن أو عن الأحاديث أو الفتوى في قضية من القضايا، مما دفع البعض إلى تسمية هذه المؤسسة الضخمة بالشيخ غوغل. وكما أن هذا الشيخ له القدرة على جمع ما هو متوفر في الشبكة وعرضه على المتصفح بموضوعية، فإن له القدرة على الانتقاء وعلى التقديم والتأخير والحذف. فمتى يكون العرب هم صانعو العالم العربي.. متى يكونون هم صانعو أنفسهم؟