يفرض علينا كتاب العقل السياسي العربي1 ربطه بالمشروع العام الذي دشنه في صيغة نقد العقل العربي، لاعتبارات متعددة، أولها أن هذا الكتاب هو الكتاب الثاني الحامل «نقد العقل». وثانيها أنه ينبني على الحاضر العربي المحمول بأزمته وتأخره... ولأجل ذلك ما فتئ الأستاذ الجابري يعلن- صراحة- أسباب نزول هذا المشروع. وهي أسباب تتلخص في: البحث عن العقل العربي كمنتج للمعرفة والفكر والسياسة؛ عبر تفكيك الآليات التي تحكم اشتغاله. إن البحث في العقل، إذن، لا يعود إلى البحث الفلسفي فيه. أي ليس من أجل غاية فلسفية تتحدد في تصنيف العقل العربي وتبويب أنظمته؛ بقدر ما يتأسس على سياسة الثقافة. لا يهدف «نقد العقل» إلى بناء فلسفة خاصة بالجابري- وإن كان يروج للفكر الفلسفي تدريسا وكتابة بكونه فكرا نقديا، وأن المجتمع العربي لا تستقيم نهضته إلا بالدعامة الفلسفية- بل إن الفكر الفلسفي شرط أساسي في المشروع النهضوي العربي. ولأن «نقد العقل» أطروحة فلسفية، عودنا تاريخ الفلسفة ذكرها في أهم المراحل الفلسفية إضاءة، نحيل هنا على «نقد العقل» كما رسم حدوده إمانويل كانط من عقل نظري، إلى عقل عملي، وعقل جمالي، وكذلك «نقد العقل» في صيغته الجدلية مع هيغل.. صحيح أن أوربا القرن الثامن عشر دشنت هذا الفعل النقدي للعقل لتفيض بعده نقودٌ أخرى في مجالات علمية مختلفة، لكن صاحب بنية «العقل العربي» لا تهمه إشكالية كانط وهيغل، أو غيرهما، بقدر ما تهمه إشكالية النهضة العربية. من هذا الأساس الإشكالي يجد الأستاذ الجابري في موضوعة «العقل العربي» إشكالية، كأنه يريد إعادة بناء الثقافة العربية الإسلامية، أو بالأحرى إعادة تدوين الثقافة العربية الإسلامية على أسس إبستمولوجية جديدة. ولأجل ذلك، يقدم مشروعه بشكل معماري مؤسس على مقدمات واضحة: مقدمات تشكل الناظم الأساسي لمشروعه، وكذا الآليات المفاهيمية التي يشتغل بها لمقاربة النظام الفكري العربي الإسلامي، وذلك من خلال مفاهيم فلسفية وإبستمولوجية تم استثمارها بتمثل نقدي. لا يفيد ربط المفهوم بالمجال المعرفي الذي تم نحته، والأجرأة التطبيقية له، من قبل هذا الفيلسوف الغربي أو ذاك، بقدر ما أنه يقوم بتبيئة المفهوم حتى يكون أكثر إجرائية. إن الجابري، وإن كان يشير إلى ذلك في مقدمات كتبه/ مشروعه الفكري، فإن الأهم هو ما يقدم به هذه المفاهيم، في تلاؤمها مع موضوع بحثه، وكأن النص التراثي هو الذي يفرض مفاهيم دون أخرى. إن هجرة المفهوم الفلسفي والإبستمولوجي من مجال محدد (الأصل) إلى مجال مغاير/التراث العربي الإسلامي) يخضع لأواليات متعددة من قبيل الترجمة والقراءة والتأويل... وهي الإواليات التي تشكل طريق الهجرة ذاك. صحيح أن الاشتغال بمفهوم معين (الإبستيمي مثلا) ينبني على تمثل نقدي للمفهوم في اللغة العربية ليس أمرًا سهلاً، لكن مراس مفكرنا أعطاه (أي المفهوم) دلالات أخرى ذات قابلية وملاءمة لموضوعه. إن أهمية وجدة فكره لا تقاس بالنتائج التي يصل إليها فحسب، بل بكيفية الوصول إليها، أي في المفاهيم التي يشتغل بها وعليها. لا يتعلق الأمر هنا بإعلاء المفهوم على الموضوع(التراث)، أي لا يتعلق بنوع من الاحتفالية المعرفية التي نجدها عند بعض الباحثين، بل إنه يُبَيِّئُ المفهوم حتى يعتقد القارئ انه مفهوم عربي. إن هذه العملية ترجع في نظرنا إلى مستويين: يتعلق المستوى الأول بالمراس البيداغوجي، أما المستوى الثاني فيرتبط بالجانب السياسي الذي مارسه ممارسة فعلية. إن هذا الفعل (التّبييءْ) لا يمكن أن يكون كذلك إلا بتمثّلٍ عميق مزدوج للثقافة العربية وللفكر الفلسفي والإبستمولوجي الغربي، مبني على أسئلة الحاضر العربي وأسئلة النهضة العربية؛ وذلك عبر تفكيك خطابها المغلق وفتحه نحو أفق أرحب، تتشكل سعته من البحث عن العقل العربي من أجل ضبطه ونقده، وكأن هذا العقل هو الأساس الذي تنبني عليه أزمتنا العربية الإسلامية «لكن غياب نقد العقل في المشروع الذي بشر به مفكرو الجيل السابق قد جعله يبقى مشدودا إلى ما قبل، على الرغم من كل الأهداف والمطامح، التي غازلها أو ألح في تبنيها، كما أن غياب نفس النقد في مشروع الثورة أو النهضة» الذي نحلم به نحن اليوم، قد جعله يبقى على الرغم من كل الألفاظ والعبارات الجديدة التي نتحدث بها عنه، امتدادا لنفس المشروع السابق، مشروع النهضة التي لم تتحقق بعد»2. إن الناظم لمشروع نقد العقل العربي هو النهضة العربية بما تحمله من أفق ممكن التحقق. لذا فالجابري لا يرهن مشروعه في مقدماته، على منظومة إيديولوجية مسبقة، كما كانت عند الجيل السابق له، أو حتى عند بعض معاصريه، ولا حتى على اتجاه فلسفي يشكل منطلقه المنهجي، بل إنه لا يضع نفسه في هذه الخانة أو تلك. إن النقد إذن هو المعول الأساسي- إبستيمولوجيًا- الذي حرره من تموضعه في هذا الاتجاه أو ذاك. وفي المحصِّلة فإن الإيديولوجي والسياسي هما ما يحرك مشروعه النقدي العام، وهو يعلن ذلك صراحة في أكثر من مرة، يقول مثلاً: «العقل العربي عقل يتعامل مع الألفاظ أكثر مما يتعامل مع المفاهيم ، ولا يفكر إلا انطلاقا من أصل أو انتهاء إليه أو بتوجيه منه، الأصل الذي يحمل معه سلطة السلف إما في لفظه أو في معناه»3. سيشكل الأصل، إذن، موضوعته النقدية لاستشكالها، وتفكيك آلياتها، وضبط أنظمتها المعرفية التي يتأسس عليها العقل العربي. إنها النظم الثلاثة التي استخلصها من قراءته للتراث العربي الإسلامي، وهي : البيان والعرفان والبرهان. إنها الابستيمات التي تشكل خريطة طريق لتأريخ مغاير لثقافتنا العربية الإسلامية. إن النقد الذي يمارسه الجابري ليس غاية في حد ذاته، بل هو ممارسة فعالة تروم التحرر من العوائق التي تحول دون الإبداع والفكر الخلاقين. هو ليس نقداً من أجل النقد، بل هو نقد بناء يقوم بالحفر في تاريخ الفكر الإسلامي: حفر في الطبقات الأركيولوجية التي يتأسس عليها. ويؤسس عليها خطابه الفكري وسلوكه وقيمه، يقول الجابري موضحا ذلك بقوة في مقدمة كتابه «تكوين العقل العربي»: « نحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي، والهدف : فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها وتعيد فينا زرعها... ولعلها تفعل ذلك قريبا»4. إن حضور الماضي ? بقوة- في حاضرنا هو العائق الذي يعوق تحررنا من الموت، ومن البداهات التي تغطينا، ومن الأفكار التي تحنطنا وتخرجنا من الزمن الحاضر. إن هذا الحضور الميت فينا هو ما جعل للحفر الذي مارسه الجابري في التراث، والذي ينم عن مجهود شاق لتبيان حدود العقل، والمجالات التي يتحرك فيها. وبالجملة فهو يرى أن العقل العربي في بنيته العامة ظل أسير نظرة معيارية في نظرة العربي إلى الأشياء، وفي البحث عن قيمة لنظرته: قيمة مؤسسة على مرجع مسبق يتحكم في نظام الأشياء، في مقابل نظرة موضوعية ذات حمولة تحليلية وتركيبية للأشياء. نحن، إذن، أمام ثنائية الماضي/ الحاضر في الثقافة العربية الإسلامية باعتبارها ثابتا بنيويا يحكمها، ولأنها كذلك فإن المفكرين العرب لا يستقيم فكرهم وأبحاثهم إلا داخلها، بمعنى أن المفكر العربي، أمس واليوم، لا يستطيع التفكير في حاضره إلا عبر ربطه بماضيه. إنها موضوعة مستحبة في فكرنا المعاصر، والجابري يفكر باستشكالها عبر تفكيك ما يشكله الواو من رابط أنطولوجي ببناء نقدي لها، ذلك أننا -حسب الجابري- لا يمكن أن نعيش حاضرنا إلا عبر قتل الموتى الذين يعيشون في دواخلنا.. إنها مسألة في غاية الأهمية، ليس في الأجوبة التي يقدّمها، بل في الأسئلة التي يستشكل بها تلك الثنائية والكيفية التي يرغب فيها، والمتمثلة في الفصل بين الحياة والموت، بين الحاضر والماضي. وهي مسألة تقوم على قراءة جديدة للحياة والموت في تراثنا العربي الإسلامي، أي عبر إزالة الستار، ليس على خشبة مشاهد الحاضر العربي، بل على الكواليس المعتمة، أي على ما هو مدفون في المكتبة التراثية. لقد أعلن الجابري، في أكثر من مرة، أن ما هو معرفي في التراث لم يعد لائقا في حاضرنا، بل هو ميت حسب رأيه وبالمقابل فحياته تتمثل في الوظائف الإيديولوجية التي يحملها. إن ثنائية الحاضر/ الماضي قاعدة لإعادة بنائهما من جديد، والتي ينطلق منها الجابري لتفكيك الإواليات التي تؤسس رؤية الإنسان العربي إلى العالم. إن المنطلق الذي يشكل تلك القاعدة/ الناظم الأساسي لهذه الثنائية هي عصر «التدوين العربي»5 لاعتبارات متعددة أهمها أن العرب وضعوا حدودًا حديدية لأنظمة ثقافتهم، ليس فقط من حيث تبويب هذه الثقافة وتصنيفها، بل في القياسات التي تنظمها، تنظم الماقبل والمابعد، كطريقة صارمة لبناء خريطة رسمية لهذه الثقافة، وهي التي وضعت ما قبل الدعوة المحمدية وما بعدها في سياق ينم عن سلطة تجذرت على طول تاريخ الثقافة العربية. إن قضايا الشعائر، والطقوس الاحتفالية، والنظام القبلي، التي أثيرت في المرحلة الجاهلية هي نفسها التي أقامت عليها تلك الثقافة نظامها فيما بعد، فهل يعني ذلك أن ثقافتنا العربية لازالت مستندة إلى الماقبل؟ أم أن هذا الماقبل ? الذي يعيش في المابعد بطرائق تعبيرية متعددة ? هو السؤال الماكر الذي يشكل أحد التكتيكات التي يشتغل بها الجابري وفق استراتيجيته النقدية؛ يقول: «لقد تشكلت بنية العقل العربي، إذن في ترابط مع العصر الجاهلي فعلا، ولكن لا العصر الجاهلي كما عاشه عرب ما قبل البعثة المحمدية، بل العصر الجاهلي كما عاشه في وعيهم عرب ما بعد هذه البعثة: العصر الجاهلي بوصفه زمنا ثقافيا تمت استعادته وتم ترتيبه وتنظيمه في عصر التدوين الذي يفرض نفسه تاريخيا كإطار مرجعي لما قبله وما بعده»6. إن نقد العقل العربي استراتيجية تروم تفكيك أنظمته من أجل تملك التراث لتجاوزه، فالجابري يضع «التراث» المكتوب باللغة العربية قاعدة للتفكير والمساءلة. وتخصيص اللسان العربي دون الالسنة الأخرى له ما يبرره على مستوى موضوعة النقد. صحيح أن الجابري لم يهتم بالتراث اليهودي العربي، ولا بالمسيحي العربي، لأنهما لا يدخلان في طبيعة بحثه، كما أنه لم يهتم بالتراث الإسلامي المكتوب بلغات أخرى ، ليس لعدم قدرته على الإحاطة به، بل في سبيل تحديد موضوعة البحث في التراث المكتوب باللغة العربية، وهو تحديد يفيد وضع إطار محدد ودقيق لما يريد الاشتغال عليه؛ في إطار يروم الدقة من حيث إن اللغة العربية هي البوّابة الأساسية لقراءته، وذلك لكون العربي المسلم يعتبر اللغة العربية لغة مقدسة لأنها أعلى اللغات وأوضحها، بينما اللغات الأخرى المجاورة لها لغات أعجمية. هذه القداسة التي يقدم بها الأعرابي لغته، والتي يتمترس داخلها، هي التي تشكل منطلقًا نقديًا للجابري عبر تحريرها من قداستها، والرهان عليها كي تكون حية في حاضرنا، أي أن تكون متلائمة مع الراهن التكنولوجي والعلمي العالميين. وهي مسألة مركزية عنده؛ فهو من جهة يعتبر مجال اللغة العربية لازمانيا وحسيا، وهما خاصيتان تتميز بهما اللغة العربية فيما قبل وما بعد. ولأنها كذلك فإنها، بهاتين الخاصيتين، تعوق العرب عن العيش في الحاضر. إن المعول النقدي للجابري ينطلق من خلخلة هذه البوابة التي تربط العرب بالوجود وتشكل رؤيتهم للعالم. وهي مسألة في غاية الأهمية لأنها تندفع للبحث عن إمكانية تطوير اللغة حتى تكون تعبيرًا عن مقتضيات الحاضر. ولأن قداسة القرآن هي قداسة اللغة التي كتب بها، فإن حدودها ظلت هي هي رغم تطور الزمن والتاريخ. لذا ففتح هذه البوابة النقدية كعتبة أولى في نقد العقل العربي يستدعي الحفر في قاموسها، والبحث في السياق الذي تم إنتاج الأفكار فيه. من هذا المنطلق سيتعامل الجابري مع النص التراثي باعتباره بنية لغوية يتم من خلالها كشف المعاني المخبوءة فيها، عبر الإنصات للغة، بما كانت تقوله، وليس بما نرغب في إعطائه لها: أي ليس من حيث ما تقوله اليوم. إن انتباه الجابري إلى النص التراثي، كبنية لغوية يتم التعامل معها وفق حدودها التأويلية الممكنة، هو ما دفعه إلى قراءة النص القرآني، الذي يعتبر نصوصه يشرح بعضها بعضا. صحيح أن الجابري لا يحتفل باللغة كشاعر ولهان بتأثيث قصيدته، بل إنه يقوم بتطويع اللغة حتى تكون متصالحة مع حاضرنا؛ وتلك هي العتبة الأولى من عتبات نقد العقل العربي، يقول: « إن العالم الذي نشأت فيه اللغة العربية، أو على الأقل جمعت منه، عالم حسي لا تاريخي: عالم البدو من العرب الذين يعيشون زمنا ممتدا كامتداد الصحراء، زمن التكرار والرتابة، ومكانا بل فضاء (طبيعيا وحضاريا وعقليا) فارغا، هادئا، كل شيء فيه صورة حسية، بصرية، أو سمعية، هذا العالم هو كل ما تنقله اللغة العربية إلى أصحابها، اليوم وقبل اليوم، وسيظل هو ما دامت هذه اللغة خاضعة لمقياس عصر التدوين وقيوده»7. لأجل ذلك وضع الجابري «عصر التدوين» موضوعة استراتيجية لإعادة بنائها.. إعادة تنم عن تصور معين للتاريخ، أي إعادة بناء الثقافة العربية على أسس الحاضر العربي لربطه بالراهن العالمي. ها هنا تتمثل بنية الحاضر/ الماضي كبنية مركزية في حاضرنا الفكري العربي رغبة في إيجاد الاتصال والانفصال معا، أي في كيفية تملك التراث عبر إعادة بنائه من جديد، كي ننفصل عنه ونتجاوزه وتلك هي إشكالية فكرنا العربي المعاصر، وتلك مهام نقد «العقل العربي» . إنها مهام تستوجب التفكير فيها عبر الانشغال بما لم يقله الجابري، أو بالأحرى بما تناساه وما لم يعطه الاهتمام الأوفر. إن تدشين «نقد العقل العربي» هو تدشين لمجالات أخرى، ما أحوج الفكر العربي المعاصر للانشغال بها، ليس فقط من قبيل «نقد نقد العقل العربي»، بل الانشغال مع الجابري في أسئلته الفكرية الكبرى بمقاربات أخرى، أي فيما يفيد الحفر في مناطق لم يصل إليها مفكرنا. تلك هي الأهمية والجدة اللتان تقدمان مشروع الأستاذ محمد عابد الجابري. 1 محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، دار النشر المغربية، الدارالبيضاء، 1990. 2 محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، دراسات تحليلية، نقدية، 1982 ص: 13 3 محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص: 5. 4 المصدر نفسه: ص: 8. 5 نفس المصدر، ص: 62. 6 نفس المصدر: ص: 61. 7 المصدر نفسه: ص: 87.