غيثة الخياط كاتبة وطبيبة نفسانية وأنتربولوجية،أوّل مغربية اقتحمت مجال الطب النفسي.تكوّنت في فرنسا على يد أقطاب كبار أمثال جورج دوفرو وبرنار تيس. حاصلةعلى أربع شواهد للدكتوراه في الطب،ألفت ما يزيد عن أربعةوثلاثين كتابا موزعة بين الدراسة والرواية والشعر والقصة وأدب المراسلة. أول امرأة مغربية ترشحت لجائزة نوبل للسلام سنة 2008. قارئة شغوفة بالكلاسيكيات، ترجمت العديد من أعمالها إلى اللغتين الإنجليزية والإيطالية، لكن ترجمة نصوصها إلى لغة الضاد مازالت متعثرة. وتعتبر هذا وضعا كارثيا؛ لأن رصيدها الببليوغرافي وإشعاعها الثقافي، وجوائزها المحصل عليها، ومكانتها الجامعية بإيطاليا…يزبد من ديننا لها.
من بين تداعيات مصرع «جورج فلويد، في أوربا، والاحتجاجات الأمريكية المتصاعدة، بروز حركة جديدة ل «النصب التذكارية»، التي تريد محو الآثار، والقضاء عليها، من الفضاء العمومي، التي من شأنها تشريف المستعمرين أو المستعبدين، وتعزيز صورتهم. فما حصل لم يكن بالإمكان توقعه: حتى أن «كريستوف كولومبوس» الممجد خلع مثل صدام حسين، في بغداد، من طرف الحشود الهائجة… لا شيء يجمع بين هاتين الشخصيتين، اللهم إلا الإحداث المباشر أو غير المباشر، بسببهما، لمعاناة متعددة ومزيد من قتل النفوس! تعزى هذه النتيجة الاستثنائية والأكثر إدهاشا، في أوروبا، -هي إذن حركة أكثر قوة وتوسعا- إلى حركة احتجاجية إثر مصرع «جورج فلويد» في الولاياتالمتحدةالأمريكية، على يد شرطي من « مينيابوليس» (مينيسوطا)Minneapolis (Minnesota يوم 25 ماي 2020. أطلق مناضلو» Black Lives Matter «، بهذه الطريقة، نقاشا واسعا حول ماض كولونيالي وأمبريالي مستور في بلدان العبودية والاستعمار سابقا، لتنديد أفضل، بالتفاوتات المستمرة والحادة أيضا، من جراء الوباء الذي عصف بالعالم جميعه، بما خلفه من نتائج صحية واقتصادية، خلال هذه السنة. تشير الإحصائيات في انجلترا، أحد أهم مصادر التعبئة الأوربية، إضافة إلى بلجيكا، إلى أن السود وباقي الأقليات الإثنية أكثر عرضة للقتل، من الإنجليز البيض. لا ننسى أن انجلترا امتدت امبراطوريتها الكولونيالية حيث لا تغرب فيها الشمس أبدا، (استبدلت اليوم بالكومنويلث) تليها فرنسا. بقية العالم اقتسمته إسبانيا، البرتغال، إيطاليا، ألمانيا، هولندا. ولن ننسى العبودية أبدا، عشرون مليونا من الزنوج زج بهم في النخاسة، عبر المحيط الأطلسي نحو الولاياتالمتحدة، وما قامت به القوة التجارية للرقيق لدى الانجليز والفرنسيين، وما كان من نصيب هذه تجارة في إفريقيا عند العرب، سبعة عشر مليونا من السود… يدل انتزاع هذه النصب التذكارية على أن آثار الماضي ما زالت قائمة، وأن ألم البشر لا ينسى؛ لأن الأجيال السابقة تعرضت للموت: فهي لا تحمل معها الصدمات، العنف وضحاياه. نحن اليوم، على علم بما يجري في ميناء بريستول»، ببريطانيا العظمى، حيث يرمي مناضلون، في مشهد مذهل، النصب التذكاري للمستعبد» Edward Colston « في الماء. ولإشارة فإن مصالح مجلس المدينة عمدت إلى انتشاله، يوم الخميس 11 يونيو، وتوجب وضعه في مكان آمن، لينضاف إلى مجاميع المتحف الإنجليزي. في اليوم السابق حيث حطم النصب، « Marvin Rees « عمدة مدينة «بريستول»، جنوب غرب إنجلترا أحد العمال من أصل جمايكي، شرح بأنه يريد أن يترك للساكنة قرار أية ذاكرة لاقتراح اسم « Paul Stephenson « المدافع عن الحقوق المدنية. ففي سنة 1963 أطلق، بنجاح، حملة لمقاطعة الحافلات ب «بريسطول» بعدما رفض مسؤولوها ومالكوها توظيف سائقين سودا؛ لأنهم ذوو بشرة سوداء. سؤال مشروع يمكن طرحه: لماذا كان الإحساس بالحاجة إلى إقامة تماثيل لأشخاص تاجروا في الكائنات البشرية، وعرضوها للإهانة، والاغتصاب، والموت الناتج عن الأمراض، الانتحار والأشغال الشاقة؟: «جورج فلويد» سليل هؤلاء السود. بعيدا عن كل سوء فهم، «أوباما» لم يغير وجه العبودية والسود في أمريكا، أولا لأنه لم يكن ابنا منحدرا من أصول العبيد، فأبوه كيني جاء للدراسة في أمريكا وأمه كانت أمريكية بيضاء. وحتى لا ننسى فإن ملف تجارة الرقيق لم يدرس بعد… مجموعة من الطلبة المتظاهرين بجامع أكسفورد المرموقة تحالفوا مع حشد كبير من المناضلين المناهضين للعنصرية حاولوا سحب واجهة « Oriel Collège في أكسفورد، حيث يوجد تمثال « Cecil Rhodes»امبريالي شرس ومقاول كبير، ومدافع عما يسمى بالتفوق البريطاني. في لندن، تمثال « Robert Milligan « مزارع شهير، وتاجر عبيد من القرن الثامن عشر، عرف عنه ولعه بالتفوق الأبيض، وتعنيف العبيد، جرى خلعه، لكن بهدوء، يوم الثلاثاء 9 يونيو، بموافقة وقبول رئيس مجلس عمال المدينة، صديق خان (من أصل هندي أو باكستاني، الهند وباكستان كانتا مستعمرتين بريطانيتين). وسيرسل إلى متحف بلندن « London Docklands «. – في كلاسغوي « Glasgow « بسكوتلندا تركز النقاش حول تمثال « de Guillaume III d'Orange « ملك انجليزي من أصل هولندي، وتم نبش كل ما له علاقة بتجارة العبيد. وفي بوول Pooleبجنوبإنجلترا، استهدف تمثال مؤسس الكشفية» Robert Baden-Powell « فيما عارض عدد من السكان وأغلبية المنتخبين المحافظين، إزاحته. تأسيسا على هذه الوقائع المذهلة، نرافع على إعادة التملك وإعادة قراءة التاريخ. لم يكن بالإمكان الاعتقاد بحدوث هذه الأشياء… موقع « Toppletheracists.org « رصد أكثر من سبعين تمثالا معرضا للتفكيك لكل شعب. أفاد المؤرخون والباحثون من مسألة العبودية وتجار العبيد والمستوطنين، ومن النقاش المحتدم حاليا. وإذا كان بعضهم يرحب، بسعادة، بإعادة تملك التاريخ الوطني، فإن الآخرين والمحافظين يحذرون من المخاطر، وهي واقعية بالتأكيد، ومن حرب ثقافية. فالأشخاص الذين طلب منهم نسيان الجرائم التي ارتكبها كولستون»Colston«طلب منهم أيضا السكوت عن صعوباتهم الخاصة المطروحة بفظاظة في ضوء الجائحة، حسب المؤرخ البريطاني من أصل نيجيري» David Olusoga «. يتساءل المؤرخ والمخرج الوثائقي « Michael Wood « لماذا كان علينا أن ننتظر زمنا طويلا، قرونا، لنواجه حقيقة امتلاء الفضاءات العمومية والشوارع بالنصب التذكارية، التي تمجد أشخاصا مسؤولين عن مقتل آلاف الناس. نحن لم نكن على علم بذلك. وكان من المهم جدا معرفة ما كتب على هذه النصب التي حطمناها. في مقابل ذلك، يعتقد « Geoff Palmer«المؤرخ بجامعة « Edimbourg « أن تخريب النصب هو تصرف انفعالي، لا يجيب عن مشاكل العنصرية المؤسساتية، مما يجعله مجانبا للصواب تماما؛ لأن الرموز دائمة التأثير على تصورنا للعالم ولاوعينا. نعثر على نفس الخط من التفكير عند « Louise Richardson «نائبة مستشار جامعة أكسفورد التي تزعم أن تأسيس جامعة أكسفورد، يعود إلى تسعمائة سنة. خلال أكثر من ثمانمائة سنة، عمداؤها يعتبرون أن النساء لا يستحققن الولوج إلى التربية. لقد أخطأوا، لكن علينا إعادة الأشياء إلى نصابها. وهو تفسير خاضع لنظام نسوي لكنه ليس إنسانيا. ما بين حرمان النساء من التربية واستعبادهن بالاتجار فيهن، مفرقات بينهن وأزواجهن، ومبعدات عن أطفالهن، رغم حداثة سنهم، مبيعات ومشتريات من طرف «سيد» آخر، معروضات عاريات في سوق النخاسة، موضوع جنسي وللاغتصاب غير المنقطع، هناك فجوة عميقة تخطتها السيدة» Louise Richardson « بكل مرح، دون اعتبار فظاعة العبودية والاستعمار… أصدرت بيكين وموسكو حكما بشأن حركة « Black Lives Matter «بكونها ضعفا في الديموقراطيات الليبرالية، إذ لا تدركان أبدا أن ما يتصورانه ضعفا، هو قوتها في واقع الأمر. يساند الحزب العمالي حركة « Black Lives Matter «مع محاولة توجيه فكرة الملاحقة والمتابعة. مائة وثلاثون مجلسا بلديا من اليسار، أعلنت المرور إلى استعراض تراثها. دعا « Keir Starmer « رئيس الحزب العمالي إلى إصلاح البرامج من أجل تعليم جيد لماضي العبودية. وقف النواب السكوتلنديون وألقوا كلمة من أجل إقامة متحف سكوتلندي للعنصرية. بدأ النواب المحافظون يتفاعلون، ضد الحركة الليبرالية، ضد حركة العمال؛ بعضهم اقترح إخفاء التمثال النصفي لكارل ماركس في مقبرة « Highgate « بلندن. وآخرون أرادوا إقامة نصب للنساء في منصب الوزارة الأولى للبلاد، ولوزراء حكومة الأممالمتحدة المنحدرين من أقليات. اكتفى الوزير الأول بوريس جونسون باستنكار مظاهر العنف المسجلة على هامش بعض المظاهرات. كيف سيتفاعل، (بحدة أكثر)؟ إذا كان تمثال(ه)، « Sir Winston Churchill « استهدف من جديد؟ أمام « Westminster» النصب الضخم من البرونز للوزير الأول السابق، بطل المقاومة أثناء الحرب العالمية الثانية، وضعت عليه علامة «عنصري»، سرعان ما تم محوها، في عطلة نهاية الأسبوع. تفاديا لمزيد من الإهانة والازدراء خلال المظاهرات المرتقبة يوم السبت 13 يونيو، عمدت السلطات إلى تغليفه بتابوت من معدن. خلال بضعة أيام، رأينا كيف أن» Black Lives Matter « صارت شعارا عالميا جاب العالم جميعه، كل واحد أخذ نصيبه من « Black « …بمعنى ما يحس به في داخله من ظلم واضطهاد. امتدت الحركة إلى بلجيكا، لا سيما حيث تتواجد تماثيل ل» Léopold II « استهدفت بدورها في إطار «تحرير الفضاء العمومي» الذي طالبت به الحركات المناهضة للعنصرية. هناك ما يستحق الانتباه! في فترة ملكه (1865-1909) المستعمر القوي للكونغو، التي كانت ملكيته الخاصة قبل أن تستعيدها الدولة وصارت كونغو-بلجيكا، في 1908، الملك القديم كان مؤسسا عبقريا في نظر البعض، طاغية تلطخت يداه بالإبادة العرقية. فهمنا اتجاهات كل من الفريقين المتقابلين. مقاول على أي حال، بتجربة كولونيالية تسمح للبلدان الصغرى بالاستفادة من أراض إفريقية شاسعة، تضم أيضا، من 1920 إلى 1962، رواندا وبرنداي الحاليتين، تحت الانتداب البلجيكي إلى إعلان استقلالهما. عمال (دائما العمال) قاموا بتنظيف الخربشات les graffitis التي غطت تمثال « Léopold II « عقب مظاهرة مناهضة العنصرية في بروكسيل، يوم 11 يونيو. ينبغي أن نسجل أن حملة التعبئة التي أطلقتها « Black Lives Matter « تجمع بفضلها عشرة آلاف شخص، يوم الأحد 7 يونيو، أمام قصر العدالة ببروكسيل. في اليوم الثاني بعد المظاهرات اختفت التماثيل النصفية ل» Léopold II « من جامعات « Mons « و « Leuven « مفردات « قاتل» و « الصفح» وغيرها زينت كل مكان. في» Ekeren « قريبا من « Anvers « نقل تمثال من قبل رجال البلدية قصد تجديده، حسب الرواية الرسمية، فالمقصود، في حقيقة الأمر، حمايته من مخربشين graffiteurs أو مخربين محتملين في حين أن والتوترات لم تهدأ بعد. شوهدت أيضا صورة أكثر قوة، قريبا جدا من القصر الملكي، في قلب العاصمة، صورة الملك» Léopold II « مزهوا على صهوة جواده (إنه لأمر مدهش حقا، بإرادته التوقيع على عظمة بلد صغير بجغرافيته بفضل التمثال الضخم لذلك الذي توسع في أراضيها…في إفريقيا) لطخت بالصباغة الحمراء، بمعنى لون الدم. الفترة الكولونيالية البلجيكية حسب بعض المؤرخين حصدت فيها أرواح ما بين ثلاثة ملايين وخمسة ملايين إفريقي. في كتابه» Fantômes du roi Léopold « استحضر الأمريكي « Adam Hochschild « اختفاء عشرة ملايين ممن نسميهم « INDIGENES « سنة 1998. هذا الرقم كثيرا ما تم الطعن فيه لكنه، في مقابل ذلك، تحقق من « Jan Vansina « المؤرخ الفلاماني البلجيكي الشهير، أستاذ بالجامعة الأمريكية « Wisconsin « المتوفى سنة 2017. في سنة 1960، بداية استقلال الكونغو، أشار الملك الشاب « Baudouin « إلى «العبقرية» (كما قال) مع ذلك، لسلفه الملكي، دون أدنى طلب للصفح أو الاعتذار للمستعمرين ضحايا الدولة البلجيكية، ضحايا القمع العسكري الشرس مباشرة، والشركات الكبرى للمناجم والفلاحة التي تستغل المطاط خاصة، ومعززة أيضا بمليشيات مكلفة باستتباب النظام، بالقوة، وبالقتل إذا اقتضى الأمر. ينبغي التذكير بأنه في سنة 2018، حدث تشنج كبير، أثناء الافتتاح الرسمي ل»AFRICA MUSEUM «، في « Tervuren «. رئيس الدولة البلجيكي الحالي، الملك فيليب، تغيب لدواع برتوكوليه وأمنية، في هذا المكان الذي لم يعد بوصفه متحفا لإفريقيا الوسطى، بمحتوياته التي تصل إلى مائة وثمانين ألف قطعة جرى تعدادها، ليصير مكانا مخصصا للتاريخ الإفريقي، حيث الحديث عن الذاكرة، والاستغلال، وعن فترة عنصرية ولاأخلاقية. بذكرنا هذا المتحف الاثنولوجي ببرلين ، نشير الى أنه جلبت ملايين الأشياء من المستعمرات، لم تعرض كلها، نظرا للكم الوافر للقطع…وكما هو الأمر في العديد من المتاحف الكولونيالية في العالم! لم تخف حدة التوترات في بلجيكا بعد ، فقد وزعت عريضة مزدوجة اللغة حصدت سبعين ألف توقيع، يطالب أصحابها بإزالة كل النصب التي تذكر بالاستعمار، لكن عريضة مضادة تطالب بعكس ذلك، وتتمسك بتلك النصب. مشترك «الذاكرة الكولونيالية» يناضل من أجل مناهضة العنصرية خاصة، المضادة للسود يعلن أنه لا ينبغي أن تكون نفيا للماضي الامبريالي، لكن الأمر يتم بتحرير العقول. فمجرد إزالة هذه النصب قد يكون خطرا في حد ذاته، إذا انتهت في النهاية، إلى نفي العلاقة بين هذا الماضي والعنصرية اليوم. إنه من الخطأ الاعتقاد أن العلامات، المجسمات، الأعلام، الشعارات والنصب بدون تأثير على العقول. لا ينبغي الاحتفاء بالرجال والنساء المفترسين، اللاأخلاقيين، الجائرين. في بروكسل الحكومة الجهوية وعدت بدراسة إنشاء نصب تذكاري للتحرر من الاستعمار. كل هذا يأخذ إيقاعا بطيئا جدا للاعتراف. التفكير في هذه الفترة من التاريخ البلجيكي، التي تعرضت للمحو عموما وبشكل تام (وكل تواريخ العبودية والكولونيالية) يتطلب على كل حال، المرور عبر المدرسة، والولوج إلى المعلومة، ونشر أعمال المستعمرين أنفسهم (تكريما لألبير ميمي الذي رحل عنا مؤخرا، مخلفا كتابا رائعا « Portrait du colonisé « مع تقديم لجان بول سارتر). ليس من الضروري الحديث عن عصر « مجهول بكل بساطة»، كما يدعي بعض الأنذال فكريا. فباسكال باشلار ، مؤرخ ومهتم بالوثائقيات، متخصص في الإمبراطورية الكولونيالية الفرنسية، أنجز عملا جميلا حول المسألة الكولونيالية، «رهانات التعدد وتاريخ الهجرة». في الواقع، يجب تحرير العقول، عقول المستعمِرين والمستعمَرين على حد سواء حتى يستعيد التاريخ كل الحقائق وحتى تلك الخفية المحرجة، التشييد والبناء، قوة العالم الأبيض الغربي على العبودية والاستعمار. * باحث في الفلسفة