أصبح فيروس كورونا يتصدر اهتمامات العالم أجمع، دولا وأمما وشعوبا، ويهيمن على اهتمام وانشغال كل الطبقات والفئات المجتمعية من القمة إلى ألقاعدة، كما يستولى على العقول والأبدان والنفوس ويزرع فيها الخوف… الخوف من فقدان الحياة . وهذا الخوف لا يقتصر على المرضى والمسنين فحسب… إنه خوف يتملك الجميع ، وكلما تعاظم هذا الخوف من الموت يتعاظم إلا حساس بالاقتراب من نهاية الحياة، سواء بفعل الزمن أو القدر أو بفعل المرض، فيلجأ الإنسان إلى الدين كإيمان مغروس بجذوره في البناء الخاص للشخصية وهو طاقة روحية دافعة نحو الانتصار على الداء وليس فقط مجرد معتقدات وشرائع و أحكام . وزادت أدوات الاتصال الجماهيري في ترويع وتخويف الناس بهذا الوباء ، بل ازدادت قوتها في تسويق هذا الوباء حين أتاحت كل التكنولوجيات الجديدة في نقل سيل جارف من المعلومات عن المرض والوباء و سهلت المتابعة الإعلامية الفورية والمباشرة لانتشاره في جعل الإنسان تحت رحمة الآلة الإعلامية، حيث لا صوت يعلو فوق صوت وباء كورونا ، حتى ‘نه استطاع أن يلغي كل الأولويات والضروريات اليومية والحياتية والاجتماعية ويؤجل كل المشاريع المستقبلية ويوقف الأشغال والأعمال والدراسة لأكثر من ثلثي سكان الكرة الأرضية ليظل وحده على رأس القائمة، وهذا أمر طبيعي حيث لا شيء يعلو على حياة الإنسان وصحته، ولا شيء يخيف الإنسان إلا الموت الموبوء القادم من كائنات لا مرئية تقذف الرعب في نفسه وعقله (إن الخوف من الموت ليس كما تدل الظواهر خوفا من توقف الحياة كما قال – اريك فروم – ويستشهد بقول – ابيقور( الموت لا يعنينا لأنه طالما نحن هنا فالموت ليس هنا ، وعندما يكون الموت هنا فلن يكون لنا وجود على الإطلاق …). إن الإنسان ما دام يقاوم المرض والوباء والشيخوخة فلا مناص من الخوف من الموت، ولا تستطيع أي تفسيرات كيفما كانت عقلانيتها أن تزيل هذا الخوف…لكن يمكن بالإيمان وبالعلم أن يخفف هذا الخوف وينتصر على الموت، فالحكيم الحكيم هو من يفكر في الحياة لا في الموت كما قال – سبينوزا- . وعودة إلى تاريخ انتشار الأوبئة والأمراض وما خلفته من دمار وموت وسحق للكائنات، فكيف كانت هذه الأمم والشعوب تتعامل مع هذه الأوبئة ؟ وكيف قاومتها؟ وما هي نظرة المعتقدات إلى هذه الأوبئة و الأمراض الجائحة: أ- إن بعض المعتقدات الدينية القديمة ترى الأمراض والأوبئة كانتقام إلهي من خطايا وعصيان البشر، فالفراعنة اعتقدوا أن الأرواح الشريرة هي السبب وأن الأوبئة والأمراض ما هي إلا تجسيد لغضب الآلهة، وفي الحضارة اليونانية القديمة تروى أساطير عديدة عن وباء الطاعون الانطوني الذي قضى على عشرات الآلاف من البشر عقابا من الآلهة لما اقترفه الرومان من نهب ودمار وحصار لمدينة « سلوقية « . وفي الحضارة الهندية القديمة يعتقد المتدينون الهندوس أن العقاب أو الانتقام الإلهي يأتي على شكل أوبئة قاتلة عندما يتخلى الهندوسي عن عاداته وطقوسه منها الاحتفالات الدينية أو ترك تلاوة الكتب المقدسة أو ذبح البقرة… وعند عرب الجاهلية أورد الطبري روايات تفيد بأن العرب كانوا يقدسون أجمة شجيرات وأحجار تصنع منها تماثيل من جنسي الرجل والمرأة، وأشدها قوة وبطشا الإلهة «العزى» وهي إلهة عبدها أهل مكة في الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام ويرجعون إليها العديد من الأمراض والأوبئة التي يصاب بها القوم الذين يعادونها. ب- وفي الأسفار والكتب الدينية القديمة لليهود المسيحيين جاء أن الوباء ما هو إلا علامة من علامات غضب لله ، وجاء في العهد القديم أن (انتقام الرب من البشر بتسليط الوباء عليهم لا سيما نبوءات ارميا و اشعيا ..). ج- وفي التاريخ الإسلامي القديم والحديث حصلت عدة أوبئة وأمراض جماعية بمختلف الدول و الأمصار إلا أن أبرزها وأكثرها تأثيرا وشهرة : طاعون عمواس ( 693م) وحدث في زمن الخليفة عمر بن الخطاب (ض) نسبة إلى بلدة عمواس بالشام . طاعون الفتيات أو الأشراف (705 م) وحصل بالعراق والشام وأودى بحياة النساء والفتيات تم انتقل إلى الرجال وبعده قضى على الكثير من أشراف القوم . طاعون مسلم بن قتيبة ( 748م) وسمي بأول من مات به . كما انتشرت أوبئة وطواعين كثيرة في العصر العباسي والمملوكي والأيوبي في المشرق. أما في المغرب فمرت الكثير من الأوبئة والمجاعات، سواء في عصر المرابطين أو الموحدين أو المرينيين، وسواء في بلاد المغرب أو بلاد الأندلس ، منها من ظهر بسبب كوارث بيئية وطبيعية ومنها من انتقل إليهما من مصر ( طاعون 1798) عبر التجار الذين حملوه معهم إلى فاس ومكناس والرباط. وموازاة مع انتشار هذه الأوبئة والأمراض القاتلة كان هناك من فسر ذلك على أنه عقاب إلهي لابتعاد الناس عن التعاليم الدينية والأخلاقية الصحيحة. و هو نفس الموقف و الرأي الذي ردده البعض من المنتسبين للإسلام السياسي بعد انتشار فيروس كورونا . إنه لأول مرة في تاريخ الصراع مع وباء جائح ومقاومة انتشاره وتفسير ماهيته تتوحد آراء رجال الدين ومواقف الجماعات الإسلامية السياسية باختلاف ألسنتهم وجنسياتهم ومذاهبهم ، وصدرت فتاوى خاصة وعامة من مؤسسات دينية رسمية، ومن رجال دين مستقلين نشروها في دوريات ومجلات ومواقع في الفضائيات وعبر فضاء الانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي تدعو (لحفظ النفس) لأن مقاصد الشرع الكلية تقوم على رفع الضرر وإزالته، كما أن (حفظ أنفس الناس وصحتهم وعافيتهم) مقدم على كل ما سواه مستدلين بنصوص قرآنية ومن السنة: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن لله يحب المحسنين) سورة البقرة 195. وفي حديث للرسول (ص) عن الطاعون (إذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه). إن هذا الحديث النبوي الشريف يستدل به كل الفقهاء ورجال الدين لحماية النفس والنسل، وهي إشارة واضحة إلى ما يطبق اليوم علميا وعمليا من الحجر الصحي بهدف مواجهة الأوبئة المنتشرة، فرسول لله لم يكتف بأن يأمرهم بعدم القدوم إلى الأرض الموبوءة بل اتبعها بأن أمر من كان في أرض أصابها الطاعون أن لا يخرج منها لمنع انتشار العدوى، وبذلك جاء الحديث النبوي متناغما مع ما يدعو إليه العلماء والأطباء وتدعو إليه منظمة الصحة العالمية للقضاء على الوباء الجائح. كم كان مثيرا ومجديا أن نرصد هذا التغيير الجذري في فتاوي ومواقف و«اجتهادات» رجال الدين وهم يستأنسون ويستدلون بالتفسيرات العلمية للوباء «فيروس كورونا»، إذ عادة ما كان عدد من هؤلاء الفقهاء ورجال الدين يسارعون إلى إصدار فتاويهم و تفسيراتهم «الدينية» كلما نزل البلاء أو انتشر الوباء فيتسابقون ويتناوبون على المواقع الاجتماعية أو يتكلمون باسم المجامع العلمية الدينية ليقدموا تفسيراتهم عن الحدث زاعمين أن هذا البلاء أو الوباء ينزل كعقاب إلهي أو عذاب دنيوي على قوم كثر فيهم العصاة والبغاة ، لكن اليوم نرى إجماع بين العلماء والأطباء ورجال الدين ، وهم يشكلون جزءا من قيادة المجتمع ، فئة منهم تعمل لانقاذ النسل، والأخرى تعمل في موقع التحسيس بالمسؤولية، ويرى الدكتور حميد عنبوري المتخصص في علم مقاصد الشريعة (أنه ليس هناك أي حرج في تعامل العلماء مع توجيهات المنظمة العالمية للصحة، فمثل هذه التوجيهات التي تصدر من الجهات المختصة ويكون قصدها الحفاظ على صحة المواطنين وضمان مبادئ السلامة الصحية أولى بالعلماء أن يبادروا إلى نصح الأمة بها وضرورة التزامها خاصة أنها تتقاطع مع الدين بل سبق الإسلام إلى تقريرها). إن إقرار رجال الدين بقيمة العلم وأهمية العلماء والأطباء والباحثين تعني أن العلم والبحث العلمي مسؤولية تقع على عاتق الإنسان. (قل سيروا في الأرض وانظروا كيف بدأ الخلق)، وبذلك لم تعد الحقائق العلمية (مادة للظلال والحيرة والزيغ والزندقة)، كما قال ابن صلاح وحيث كان تعلم الرياضيات – و لو حتى عند الغزالي – أمرا مكروها لأنه يغري بالمنطق، والمنطق يغري بالفلسفة، ومدخل الشر شر إإإإإ إن فيروس كورونا أعاد النقاش من جديد حول علاقة الدين بالعلم، وفتحت صفحة الصفح والصلح بين حقلين ملغومين كانا في حرب طويلة خلفت ضحايا وفواجع وزوابع فكرية، أقيمت بسببهما «محاكم التفتيش»، فأعدم العلماء ونفي رجال الدين، وضاعت الحقيقة بنسبيتها ومطلقها . كانت العلاقة بين الدين والعلم موضوعا للدراسة منذ العصور القديمة حين اهتم بها الفلاسفة واللاهوتيون والعلماء وغيرهم، وكانت وجهات النظر تختلف وفقا للمناطق الجغرافية والثقافات والحقب التاريخية، البعض منهم وصف العلاقة باعتبارها نوعا من الصراع والبعض الآخر وصفها بالانسجام والفريق الثالث يرى القليل من التفاعل بين الدين والعلم . إن الفريق الأول (يرى أنه لا جدوى من عقد المقارنات أو إجراء التوافقات بين الدين والعلم لأننا إزاء مجالين ثقافيين مختلفين بالكلية من حيث المحتوى والمنهج والأداة والاستراتيجية .. وفريق ثان يرى أن من الممكن إيجاد تقاطع أو نقط مشتركة بين المجالين ،،، لأن كلا من العلم والدين يستجيب لحاجة لدى الإنسان. أما الفريق الثالث فلا يرى هذا الرأي … وأبرزهم العالم البريطاني تشارلز داو كنز المدافع الأكبر عن نظرية التطور، والمعارض الأول لأهل اللاهوت .) علي حرب – العلاقة بين العلم والدين ..أين المشكلة ؟ وتجنبا للصراع بين العلم والدين ترى بعض الحركات الفكرية أنه يجب التعامل معهما من منطلق استقلالهما عن بعضهما البعض حيث أن لكل منهما لغة ومنهجية ومواضيع وغايات خاصة به، ولكل علم موضوعه فالعلوم الطبيعية موضوعها العالم المادي والعلوم الرياضية موضوعها الكائنات الرياضية ،،،والدين موضوعه العقائد والشرائع والطريق الروحي وبتعبير آخر العلم مبني على منهج الاستدلال العقلي أما الدين فهو يأخذ مبرره من التسليم القلبي كما أشار إلى ذلك اللاهوتي مارتن بوبر . وتجاوزا لثنائية العلم والدين التي باتت قضية مستهلكة انبرى العديد من رجال الدين ورواد الفكر الإسلامي فأكدوا أن مقولة التعارض بين العلم والدين هي مقولة متهافتة منطقيا وتعتريها الكثير من المغالطات إذ الحقيقة أن الفكر الفلسفي و«العلمي» هو الذي تعارض مع الفهم الديني في فترة من فترات تاريخ الفكر الإنساني بسبب تضمين قضايا العلم بعدا إيديولوجيا ، بينما حقيقة العلم انه حيادي ويقتصر عمله على استقراء معطيات الطبيعة وطريقة اشتغالها. الحق أنه مهما تطورت العلوم وانتشرت أساليب التفكير العقلي وتعاظمت سيطرة الإنسان على الكون والطبيعة فستظل وستتجدد الأخطار والمجاهيل والتناقضات والفواجع والأسئلة الكونية والمصيرية الكبرى…وسيظل الدين عمقا وجدانيا وروحيا للإنسان وإن اتخذ أشكالا وتجليات مختلفة – هكذا يرى محمود أمين العالم العلاقة بين الدين والعلم، ولذا يرى أن الموقف من الدين لا ينبغي أن يكون موقفا تكتيكيا براجماتيا ، كما تتصوره بعض القوى اليسارية أو موقفا استغلاليا انتهازيا كما تفعل القوى اليمينية ، وإنما يجب أن يكون موقفا إنسانيا يقوم على الاحترام والتفهم العميق لحقيقة الدين . هذا الرأي والموقف الرزين الوارد على لسان كاتب عربي قومي مرموق يتجاوب مطلقا مع رأي المفكرين الإسلاميين و رجال الدين المتنورين الذين يؤكدون حتمية العلاقة بين العلم والدين، وهذا ليس رهين اليوم بل بالأمس وبالأمس الغابر كانت هناك اجتهادات لمفكرين إسلاميين مستنيرين : جمال الدين الأفغاني يؤكد صراحة أن (الدين لا يصح أن يخالف الأفكار العلمية ، فإن كان ظاهره المخالفة وجب تأويله ). (ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهي سلطة خولها لله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم يتناول بها أدناهم ) الشيخ محمد عبده. وكتب محمد رشيد رضا في مقدمة العدد الأول من المنار (أيها الشرقي المستغرق في منامه المبتهج بلذيذ أحلامه حسبك حسبك فقد تجاوزت بنومك حد الراحة، وكاد يكون إغماء أو موتا زؤاما اعلم أن هذا العصر، عصر العلم والعمل، فمن علم وعمل ساد ومن جهل وكسل باد ). فهؤلاء وغيرهم تتردد وتتجدد اليوم دعواتهم واجتهاداتهم في كل المنابر والمواقع والمجامع، وخصوصا بعد انتشار هذا الفيروس لاحظنا أن قراءات وتفسيرات رجال الدين لا تبتعد كثيرا عن تفسيرات العلماء والأطباء والباحثين بل وجدنا رجال الدين ورجال العلم يقفون في نفس الخط مؤدين دورهم ومهمتهم الطبية والعلمية والتأطيرية والتوجيهية ، ملتزمين بضرورة حفظ أنفس الناس وصحتهم وعافيتهم لأنها مقدمة على كل ما سواه والإسلام جاء لرعاية الإنسان وحمايته والعلم يعمل لأجل الإنسان في تقدمه وسعادته … (إن ما نحتاج إليه هو أمر يتعدى المفاضلة بين الدين والعلم… والرهان هو تجاوز ثنائية الدين والعلم التي باتت قضية مستهلة لإنتاج ثقافة مختلفة بنماذجها وقيمها). علي حرب فهل سيكون هذا العصر الكوروني فاتحة أمل لعودة الروح للاجتهادات العقلانية لمواجهة متطلبات الحياة الجديدة، وإنجازات العلم، والحق تبارك وتعالى دعا الإنسان إلى استخدام عقله وحواسه وبصيرته ( لقد خلقنا الإنسان في كبد ، أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ، يقول أهلكت مالا لبدا، أيحسب إن لم يره أحد، ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين، وهديناه النجدين ) – سورة البلد – والإنسان في البيان القرآني هو الذي يحمل الوصية (سورتي لقمان والعنكبوت). فهل سيساهم هذا العصر «الكيروني» في تجاوز ثنائية العلم والدين لأجل إنتاج ثقافة تنفتح معها آفاق جديدة تعيد اللحمة بين العلم والدين لصناعة حياة ترعى الإنسان وتحميه وتسعده اجتماعيا وروحيا.