في بار الحفرة يهوِّمُ ضبابٌ ويسْطُو زعيقٌ… ما استرعى انتباهي في غابة الصّخب المتشابكة هي عجلةُ السّفينة الضّخمة في الجدار، تفصل بين حجرةٍ تطلّ على زقاق فرن الخبز، وبين الصّالة الكبرى لمحجِّ النُّدامى الغفير… صيّادون وصنائعيّون وسماسرة وسياح وقوّادون وسماسرة وشواذ ورسّامون وموسيقيّون وشعراء وشحّاذون ووو… يموجُ بهم ليل الحانة العاتي، ويُطوِّح بهم السُّكْر إلى شطآن مفزعة، أو منحدرٍ هائل تتدْحرجُ فيه الأشياء إلى مهاوٍ سحيقة. تتطاير أشلاء السّهرة العنيفة، وتدور بي عجلة السّفينة التي لا أنفكّ أمعن النّظر فيها، كما لو أمعن النّظر في دوّامة الصويرة نفسها، التي استدرجتني إلى لعبتها الخارقة، عن سبْقِ ولعٍ غامضٍ وضيّعتُني في دهاليز متاهتها الفاتنة والقاتلة في آن… لا صويرة يستقيمُ عِلْمُها لديك، إن لم تزرْ حفرتها، بارها العتيد، الشبيه بمطبخها السرّي… فكأنّ دهاليز وسراديب وأنفاق موغادور، محض أنهار تصبّ ليلا في بحيرة هذا البار العجيب… والسباحة في البحيرة السّوداء هو الدليل الوحيد، والطريقة الموجزة، لمعرفة موغادور من الدّاخل، أو القبض على وجه من وجوهها المنفلتة والهلامية في مرآة من مرايا غرقها المبين… تدور عجلة السفينة في الحفرة، وتدور رأسي، كلٌّ منّا يبحر إلى مجهوله… أتحاشى الحديث مع أصدقاء الكونطوار، وبخاصة من يختلقون أوْهى الذّرائع كي يبتزّوك أو يشحذوا منك، وغيرهم يتطفّلون على ما تحاول أن تخفيه وتنأى به، ولا يهدأ لهم بال أو يستقرّ حالهم حتى يتعرّفوا على ما يدور في خيال كأسك، وكأسي في الحقيقة لا شيء يشغل بالها وحالها، سوى العجلة الهائلة في الجدار، كأنّها توحي لي بشيء مبهم لم أتبيّنه بعد، فكلّما هربتُ بعيني شمالا أو جنوبا، وتقافزتْ نظرتي كضفدعة على صخور الوجوه الزلقة في مستنقع البار، إلا وأقفلتْ سريعا صوب العجلة اللعينة، لدرجةٍ صرتُ معها كما لو اعتراني الهوسُ الأخرقُ بها، فلعنتُ اللئيم الذي صنعها من خشب العرعار، ووضعها عن سبْق إصرار وترصّد في الجدار المقابل، كي تستفزّ نديما قلقا ومرتبكا مثلي… يتماوج ضباب الليلة أكثر وأعنف، ويستفحل دُخّان الحشيش في الدهليز، فتغدو الحانة سفينة بالتمام والكمال، تصخب بملء حمولتها، وتتمايل ذات الغرق وذات الفقدان، وها نحن ركّابها كما لو كنّا أسرى حرب، أو مجانين مصحّة، تشقّ بنا عباب الأمواج الشّاهقة، وما تفتأ تغرق بنا، فنترسّبُ صوب القيعان المظلمة والمرعبة… – أرى أنّ تلك الناعورة خلبتْ دماغك، وسرقتك منّا. قالتْ «هيلين». – ما يبدو لكِ ناعورة أراها أنا عين الشيطان. علّقتْ «جانيت». – ليست سوى ساعة تبدو معطّلة، ولكن عقاربها اللامرئية في دوران دائم. عقّبتْ «جيرالدين». كنّ ثلاثتهنّ قد دخلْن للتّوِّ مع الصديق «شُعَيْب» ولم أنتبه لوجودهم الطّارئ في المكان. جاؤوا كلهم من الفندق المحاذي للصقالة. علّق «شعيب»: – صِدْقا أراها مثل عجلة عربة الحوذيّ. أردف صائحا: – كيف فاتني أن أرسمها من قبل. صفّر وقبّل رأسي كامتنان على فكرة شيطانية استلهمها من انصرافي الجارف إلى العجلة المريبة. أشحتُ عنها بوجهي، وقرعتُ الأنخاب مع الزائرات الشّقراوات اللواتي تعرّفتُ إليهنّ البارحة فقط، ومن جمعنا على سبيل المصادفة هو فندق الجزر السّبع الذي أنزل فيه كضيف عند صاحبته العجوز «أندريا»، والغرض من إقامتي العابرة كما أزعم، هو مهمّة كتابة تقرير حول أنقاض السّفينة الأثرية التي عُثر عليها في شاطئ المدينة، برعاية من مؤسّسة برتغاليّة، هي ما يتكلّف بنفقة السّكن والأكل والمشرب… وبدل أن أنجز التّقرير المزعوم، وجدتني مورّطا في كتابة رواية… رواية! هذيان، بل هراء… عموما للآن أنا فاشل في كتابة صفحة واحدة، والرواية متمرّدة عليّ، ولم أقبض بعد على رأس خيطها الضّائع… ربّما عليّ أن أنتشل رأس الخيط من اشتباكات التّجاعيد المهولة في وجه «أندريا» نفسه! في بهو الفندق جمعنا سمرٌ ليلةَ البارحة في حضرة فرقة كناوية، شربنا نبيذ الطوراق، ورقصنا حتى الفجر… «هيلين» مضيفة طيران سابقة، تزور موغادور لأوّل مرّة، والغرض من سفرها هو أن تكتشف المدينة التي كتب عنها أبوها في مذكّرة، أيّام عاش فيها تجربة نزقة مع شرذمة من الهيبيّين… و»جانيت» تزور موغادور لثالث مرّة، فهي وجهتها السّحرية المفضّلة بالمغرب، والمدينة مصدر من مصادر خيالها التشكيلي… و»جيرالدين» تسكن في موغادور ومتزوّجة من مغربي، والمدينة بالنّسبة لها قدر لعين، لا تستطيع فكاكا من سوداويته وغرابته، وكيفما عاشت ومهما جرّبت، فما تنحتُه على خشب العرعار من تماثيل بدائيّة، لم يستوعب ويستوفي بعد أسرار هذه المتاهة الشّعواء… وأمّا «شعيب»، فابن القول المأثور الشّائع، (سبع صنايع والرزق ضايع)، إذ هو دليل السياح إلى شقق وغرف الإيجار حينا، ويحترف البناء حينا آخر، ويشتغل في الفنادق تارة، ويبدّل كل ذلك طرّا ليعمل في الميناء تارة أخرى، أوتاجر خردة مرة ونادل مطعم مرة…الخ غير أني أحرّضه على الرسم بالرغم من فطريته وعصاميته، وما أرى موهبته الفادحة إلا تحتاج صبرا وتمرّسا ومغامرة والتزاما حتى يكون له شأن عظيم في هذه المدينة المغموسة في سطل قوس قزح. ظلّ يشرب وهو يهتف: كيف فاتني رسم هذا الدولاب الدوّار كطاحونة مائية؟!؟ حدث ما لم نتوقّعه جميعا، حين نسينا أمر العجلة لهنيهة، وتشعّبنا في حديث صاخب عن الموسيقى وزمن الهيبيزم في هذه المدينة الحربائية… قفزت قطط البار إلى عجلة السّفينة، الواحدة تلو الأخرى، وعرّشت أضلاعها، فبدتْ مثل كُويْكب للهررة. هتفتْ «هيلين»: – انظروا ناعورة القطط. صاحتْ «جانيت»: – بل عين الشيطان المأهولة بالقطط. فاهتْ «جيرالدين»: – ساعة القطط بالأحرى. علّق «شعيب»: – بل هي العجلة المنفرطة عن عربة الحوذي المتجهة صوب المقصلة، وها هي ذي صارتْ منذورة للقطط. دنا النادل الأفطس منها وطردها ورفضتْ أن تنزل منها أو تغادرها… احتجّ بعض الندامى، وطالبوه أن يتركها لشأنها… «شعيب» الذي لا يرسم إلا عيون زبوناته من زائرات المدينة الأجنبيّات، ابتهج ورقص، فالواضح أن فكرة لوحته المفقودة، شبه اكتملت بصعود القطط إلى عجلة السّفينة… همستُ له بالأمر، وقال لي : – ستكون لوحتي الأخيرة، بل ملاذي الذي طالما تُهْتُ عن خارطته وقد آن أوانه. قلّبتُ عبارته في ذهني، ولم أزج بها في غابة التأويل المتشعّب، وحسبتها هذيان شرب لا غير. أُغلِقَ البار، وأكملنا السّهرة في الشّاطئ حتى تخوم الفجر، ثم رجعنا إلى فندق الجزر السّبع، غير أنّ «شعيب»، دليل السياح إلى شقق وغرف الإيجار، تركنا في منتصف الطّريق على غير العادة، فأكملنا الدرب من دونه… ودّعتنا «جيرالدين» بعدئذ وانصرفتْ، ثمّ نمنا ثلاثتنا، «هيلين» و»جانيت» وأنا لساعات معدودة في سرير واحد، بعد أن تعتعنا السُّكْر، ولعبنا في السّرير على نحو ماجن، بتلقائية عارمة دون أن نخطّط لذلك… نعسنا كقتلى حرب ولكن شخير «جانيت»، كان مزعجا، فلم أحتمله عند السّاعة العاشرة صباحا مما جعلني أغادر سريرهما، لتصادف نظرتي المشوّشة صاحبة النزل «أندريا» في الممرّ، أعني تماما وجهها مفرط التجاعيد، كأنما انزلقتْ على صخرته سحليات العالم قاطبة، على مدار مائة سنة. حتما في خيط من خيوط اشتباكات تجاعيدها المريبة، يرقد السطر الأول المفقود لروايتي. وجدتني أخرج من الفندق نفسه، أروم وجهة الحانة، حتى أعالج ثمل رأسي المشقوقة، بجعتين أو ثلاث لا غير… ألفيتُ بار الحفرة مطوّقا بالشّرطة، فدنوتُ من الحشد أسأل عن الخطب… قال أحدهم: – ثمّة رجل وُجِد مقتولا في البار. – كيف!؟؟ سألتُ بريبة. ردّ الثاني: – وجدوه عاريا ومصلوبا في عجلة السّفينة. – … عارٍ ومصلوبٌ؟ في عجلة السّفينة فوق ذلك! – نعم، فتى طيّب ومحبوب. قال ثالث. – من صلَبهُ؟ سألتُ باحتدام. – ذلك هو السّؤال… لا يُعقل أن يكون قد صلب نفسه. عقّب الرابع. – من يكون؟ سألتُ باضطرام. ردّ الخامس: – اسمه «شعيب». تراجعتُ عن الحشد مرتجفا، يسْمُق بي موجُ الذّعر ويطوّح بي ساعةَ زمنٍ، ثم ألفيتُني أهمسُ ضاحكا بعد أن هدأ الصّفير والأزيزُ في أذنيّ: – فعلها الرّسام العصامي»شعيب»، فعلها الرّجل الفيتروفي!