أماسي بمدينة الحسيمة كان يختلف إلينا في أماسي الصيف الصاخبة بمقهى قديم؛ بدت بعض أعمدته أنه كان مأوى للقراصنة، وهم يعبرون مدينة الحسيمة ... مقهى ميرامار يقع على جرف صخري يطل غير بعيد على شاطئ كيمادو، تقصده عينة من الرواد من مدمني لعبة البارتشي، تلاحظ في سحناتهم أنهم يشتركون في أعطاب تتوزع عليهم كنياشين؛ كما كانوا يدعونها " تتخذ من أجسادهم محطات لها، هذا فقئت عينه اليسرى جراء رصاصة طائشة أصابته في حرب الهندالصينية، وهذا مقعد من جراء دبابة هوت عليه نائما ... وذاك بقي بيد واحدة بعد أن ظل ينزف دما لليلة كاملة ، وأخيرا صاحبنا الغرموقي؛ أو القبطان الغرموقي كما كان يحلو للشلة مناداته ؛ رجل مديد القامة غائر العينين كث شعر، بحاجبين تتراقصان عند كل تمتمة تصدر عنه ، نظرات حادة ولو تجاوز العقد السابع من عمره؛ يتخذ من عصا الخيزران سندا له في التأكيد على معنى من معاني أحاديثه الرحبة بطرْق الأرض أو رفعها في اتجاه البحر ، مشيرا إلى جلسائه بأنه جاب بحار العالم لخمسين سنة خلت ؛ قضاها قرصانا وتاجر عبيد وجواري وباحثا عن اللؤلؤ .. أو كنز راقد في الأعماق ! سمر الليلة الأولى كثيرا ما كان يلح الزبناء على رب المقهى ؛ وهم يرتشفون كؤوس الفاندا أن يبقي طوال الوقت على أغنية ريفية " ياحسرتي زوّجك باباك ... وأنت صغيرة .. ياحسرتي" والتي كانت تهتز لها الرؤوس طربا ، وتقدح في نفوسهم ذكريات الهوى والشباب. ولّع القبطان غليونه ، واستتبعه برشفة من قهوة سادة ، وشرعت الآذان ترنو إليه وهو يطرق بعصاه الأرض ، كما لو كان يستعيد خارطة زمنه الماضي. " ... كنت لوحدي على ظهر السفينة ، ومعي ثلاثة بحارة برتغالي وإسباني وإيطالي .. أرصد حركة السفن لعلنا نعثر على صيد ثمين ، وذات يوم لما جن الليل تراءت لنا أضواء خافتة قادمة باتجاهنا ، وعلمت حينها أن سفينة ما بحاجة إلى مساعدة .. بعد حين تناهى إلى مسامعنا صوت بالبرتغالية " وقودنا نفد .. هل لكم مدنا ..؟ " ، ولما تجاورنا نشرنا السلالم ودعوناهم للعبور ،، كانوا قرابة العشرة ، ناولناهم قليلا من الوقود لقاء رزمة من أوراق الدولار .. استضفناهم إلى شرب النخب والذي لم يكن سوى شراب مخدر لنوقع بهم ... وهكذا وقعوا في شراكنا لنتخلص منهم لاحقا ، ونستحوذ على السفينة والتي كانت تقل صناديق من نفس العملة ... بدا لنا أنها غنيمة غنموها من عرض البحر ... لكن المفاجأة كانت أقوى من المال ! توقف مليا وهو يقذف بنظراته بعيدا في أفق البحر الدامس ، بينما كانت المسامع من حوله مصيخة بكامل قواها " .. المفاجأة كانت امرأة ؛ لم أر حتى الآن جمالا يضارعها ..". تنهد الجميع وهم ينادون الساقي بمزيد من الشراب . " .. عثرنا عليها في عنبر السفينة مقيدة بالأغلال والسلاسل ، صبوحة إلى حد الهيام ، ذات صدر ناهد وصارخ ، وعينين حوراوين بزرقة البحر ، نظراتها إلينا كانت كلها غزل مقترنة بإيماءات التوسل والاستعطاف .. لم نكن نجيد لغتها . قعدنا جميعا نحدق في رشاقتها والتي أسالت لعاب الجميع ، ولشد ما كان ذهولنا وتسمرنا في أمكنتنا وهي تؤدي رقصة السّامبا بخفة وحركات ساحرية . ولكن سرعان ما أعقب ليلتنا تلك هيجان البحر ، لم نشاهد مثيلا له في زوابعه الهوجاء وأمواجه المتلاطمة العاتية ، وعلى إثرها افتقدنا تلك الغادة الحسناء ، والتي كنت أنوي ..." سكت قليلا قبل أن تبادره حناجرهم " ... وماذا كنْتَ تنوي ..ههه ... أكنت تنوي الظفر بها أيها الوغد !... كنت تنوي افتراسها ..." " ... كنتُ أنوي بيعها لأمير بمدينة كاليكوتا ؛ كان مغرما باقتناء الجواري الحسان ، لكني فجعت في فقدانها ، وما زالت إلى يومي هذا تحتل أحلامي .." سمر الليلة الثانية كان الطقس رطبا وجموع غفيرة تذرع شوارع الحسيمة ذهابا وإيابا، من بينهم القبطان الغرموقي يجدّ خطاه في اتجاه مقهى ميرامار . قبل أن يسوي جلسته وسط أفراد الشلة ، خلع معطفه ليكشف عن ذراعين غمرهما الوشم من الساعد إلى المعصم بأشكال ورموز تتوسطها رأس امرأة بخصلات شعر مشعثة ، أخرج غليونه وشرع يعبئه بأنامله على مهل ، بينما كانت نظراته سارحة في الأفق البعيد .. " ... سنة 1955 ، تذكرني بلقاء جمعني بالمهراجا ساليهان أحد أكبر أثرياء الهند ... نزل إلي من الهيليكوبتر وأنا أتهيأ لأمخر عباب البحر في رحلة تجارية إلى الصين ، بادرني قائلا : " ... مرحبا .. آسف على إزعاجك ، فقد وصفوك لي الشخص المناسب للقيام بمهمة إلى أعماق البحر " ... أحجمت قليلا قبل أن أجيبه " ... وما علاقتك بالأعماق .. هل تقيم مستعمرة هناك ؟!" . " ...ههها ..كلا فقط مركب غرق هناك ، ومن بين الأشياء التي كان يقلها قارورة فضية ؛ كنا نتوارثها أبا عن جد ، والقصة طويلة ربما سأقتضب لك منها فقرات لاحقا ". قبل أن أخوض معه في الإحداثيات وموقع الغرق ، ناولني صورا بالمركب وإسمه والقارورة وموقعها ، ثم مغلفا بخمسة آلاف روبية قائلا : " .. مبلغ مماثل أو أكثر ينتظرك حالما حملت معك العلبة ... اتفقنا ؟!". لم يكن أمامي بد من شد يده بحرارة وأنا أعده " .. اتفقنا ..أما إذا بقيت في الأعماق هامدا ، فاصرفها صدقة ..". توقف القبطان الغرموقي قليلا ، بعد أن لاحظ أغنيته العذبة لم تعد تصله إلى آذانه من فرط صخب النزلاء ولاعبي البارتشي ... جالت نظراته من حوله قبل أن يستأذن في الانصراف. سمر الليلة الأخيرة اتحق بميرامار باكرا ، ولاحظ أن إيقاع صدى أغنيته الفاتنة "ببام ... إوشام تمزيانت يارللي بويا .." ياحسرتي زوّجك باباك ... وأنت صغيرة .. ياحسرتي ، ارتفع وأصبح يتردد في كل الجنبات ، ليطيب له السمر أكثر . ناداه من الخلف ولعله النادل " ..مون كابيتان ... جلبو لك قهوتك المفضلة تحمل إسمك .." فانفجر ضاحكا ، وأغرق فيه حتى بدت ثناياه ؛ عبارة عن أسنان معدنية عراها الصدأ أشبه بأسنان القرش . أشعل غليونه بعناية فائقة وعبأ منه نفسا قبل أن ينثره في الفضاء ، ويعود إلى حكايته مع المهراجا : " ... في اليوم الموالي ؛ وكان البحر هادئا ؛ وبعد التحاقي بالموقع البحري المحدد رفقة ثلاثة بحارة ؛ إثنين سيرافقاني إلى الأعماق والثالث بقي مرتبطا بنا عبر حبل كوسيلة للتواصل ، كنا مجهزين بأداة تنفس تقليدية لم تكن تسمح بمكوث صاحبها في عمق البحر أكثر من نصف ساعة ... ارتميت في مياه باردة ، واتجهت توا إلى الأعماق ، فتراءت لي طحالب تتمايل جوار جسم غريب لنكتشفه من بعد أنه من بقايا حطام طائرة حوامة ... سبحنا محاذين لأرضية الأعماق، لكن وعلى حين غرة لمحنا جدارا سميكا ألقى بعتمته ، فتعذرت علينا الرؤيا ، وبدأت أشعر بصعوبة التنفس مما حملني على جذب الحبل مرات كإشارة إلى طلب النجدة ، وإدارة ناعورة تلفيف الحبال ... صعدنا إلى السطح وقد اشتد العياء برفيقي الإسبانيين فيرنانديس ومادليس .. حتى أنهما صمما على ألا يعودا إلى هناك .." حانت منه دعكة خفيفة بصلعة رأسه قبل أن يتابع : " ... أصررت أن أعود إلى ذلك الجدار ، وفي بضع دقائق وجدت نفسي أقترب منه ،، استدرت حوله ، فإذا بي ألمح الحروف الأولى لإسم المركب ، كانت أدواتي لرفع الطمي والرمال ضعيفة لم تكن تتعدى مجرفة يدوية ومصباح صغير ، مما حملني على البحث عن منافذ أخرى ، بطارية الإضاءة أوشكت عن النفاد ، والحيتان الصغيرة من عينة سمك البربوط كانت تقاوم حركاتي ، فتعلقت بالحبل أريد الخروج ". تنهد القبطان ، وكأن أحاسيس تلك اللحظات الغابرة بدأت تعاوده ، ولو أنه الآن في بحر الذكريات . أفرغ كوبه في جوفه وطفق يقول : " ... في اليوم الثاني ، عدت إلى قاع البحر مبكرا واستعنت بجرافة كبيرة على اقتحام مداخل المركب ، حتى ولجت عنبرا ضيقا بأسفلها ، وجعلت أجاهد حتى وصلت إلى خزانة تتوسط الغرفة ؛ ذات درج وحيد ، ولكم كانت دهشتي والتي انقلبت إلى قشعريرة هزت جسدي كاملا وأنا ألمح القارورة الفضية كما وصفها لي المهراجا . أمسكت بها وهي مغلقة بإحكام ، وضعتها في جرابي وقفلت عائدا إلى السطح .. جن الليل .. لم يكن النوم يداعب أجفاني ... استبد بي تساؤل كبير ؛ أي سر قد تحتويه هذه القارورة على حقارة حجمها ؟ .. جعلت أتأمل نقوشا كانت تزدان بها جنباتها، وداهمتني حينها رغبة جامحة في أن أفتحها ..". توقف القبطان هنيهة ليمسح جبينه وهو يتفصد عرقا " ... ماذا أقول لكم أتصدقونني ... أتصدقونني ...؟ ! فجعل يكررها ، بينما كانت أصوات تتعالى في وجهه ...." وكيف لا نصدقك أيها القبطان ... الذي يعرفه القاصي والداني ..". " ... لما فتحت بقوة غطاءها إذا بي أرى خاتما لماعا ، لم أتوان في حمله بين أصابعي ، أتأمل شكله ونقوشه الناتئة ... ثم ارتديته ، وما كدت أفعل حتى غشيتني قشعريرة ، لم أستفق منها حتى وجدت نفسي في مرج أخضر أعتلي كرسيا يشع نورا ، وقف على جانبيه غلمان حسان ، وبعد لأي أقبلت علي امرأة بفستان أخضر ؛ كشف عن معظم جسدها البلوري ، حتى إذا اقتربت مني انحنت قليلا ثم توجهت إلي قائلة بصوت عذب : " مرحبا بك بيننا نحن خدامك الأوفياء ، لنا سلطان على بحار السند والهند .. فاطلب ولا تكن مقصرا في طلبك .. وجعلت تنظر إلي في استحياء .. تنتظر مني إصدار أمر .. لم يخطر لي حينها ؛ من فرط الدهشة ؛ إلا أن طلبت العودة إلى مركبي. وكم لو كان حلما ، إن هي إلا طرفة عين حتى وجدت نفسي على ظهر مركبي ومعي صندوق صغير من حبات الياقوت والمرجان ؛ سمعت بنفائسها من العديد من البحارة الذين خالطتهم ... فككت عني الخاتم وأودعته داخل قارورته ، فأخذت الهواجس تنتابني ... ماذا لو حضر المهراجا وطلب القارورة ... وماذا يضيرني إن طلبت من خادم الخاتم تسفيري إلى بلد آخر ... وقد يكون المهراجا نفسه هو الخادم .. ماذا لو طلبت منه الزواج بابنته التي كانت مضرب الأمثال في الفتوة والجمال ... ومن يدري .. أن قبيلة المهراجا تنتمي إلى الجن ... ! " .. في جوف الليل .. والمركب يتراقص على إيقاع أمواج عاتية وريح صرصر ، سمعت نقرات على باب العنبر ، فتحت الباب في ضوء فانوس ضعيف هناك ، وكم كان ذعري وأنا أرى المهراجا واقفا بقامته المديدة .. استأذن في الدخول ، فلم آذن له بحجة أن معي امرأة عارية ... لكن وفي لحظة ما اقتحم الباب ثلاثة من رجاله فسارعت إلى طعن إحدهم بالخنجر ، قبل أن أهشم الفانوس وتتحول المعركة إلى تحسس الآذان .. ذهبت توا إلى مرقدي لأضع يدي على القارورة .. ومن ثم خلاصي لكن المهراجا استوقفني في ضوء ولاعته وهوى علي بسيف ؛ ما زالت ندبته ماثلة حتى الآن على خدي الأيمن ". قبل أن يسترسل في حكايته ، أخذ يتحسسه وهو عبارة عن جرح غائر ممتد بين عينه اليمنى إلى خده ... " ... لم أبال حينها بالضربة ، بل دفعته بعيدا وأنا أنوي فتح القارورة ... لكنه أجهز علي ليتلقفها .. وباغته بطعنة في قفاه ، وجعل يترنح على حافة المركب ، خلته سيعاود الكرة ... لكنه خر جثة هامدة بعد أن سقطت منه القارورة إلى عرض البحر ....". توقف القبطان عن السرد وأخذ يفكر مليا ويده على جبينه كما لو كان يحاول استعادة شيء وسط حطام ذكرياته ، لكنه أخيرا نهض منسحبا مكتفيا بعبارة وبصوت مختنق : " ... اسمحوا لي ..." انتظرت الشلة عودة القبطان ... سألت عنه رب المقهى ... اتصلوا مستخدمين رقمه الهاتفي ... لكن لم يعثروا له أثر ، حتى إن أسرته أبلغت جلساءه ورفاقه بعدم عودته إلى المنزل ... كل الجرائد أصدرت بلاغات باختفائه والإبلاغ عن مكان العثور عليه دون جدوى ... مما جعل اختفاءه هو الآخر لغزا تناسلت حوله حكايا السمار وأقاصيص القصاصين..