سكنه الرعب في دواخله. تدلى عنقه مفارقة وإطلالة على أسفله، وجده مبللاً سروالُه. لم يستطع طلب نجدة، ولا إصدار أمر للشاويش تحت إمرته. اختلطت عليه وامتزجت مخاوف محنته. كل الطفولة التي قضاها منطويا وشاردا عن رفقته، وكل الإهانات التي صبر عليها حتى يتسلق سُلّم ترقيته، لم تُسعفه في استنجاد واستعطاف. جرذ صغير وحقير اختلق الحدث. اندس لفضاء حجرة النظافة متسللا من الشقوق الكثيرة والكبيرة التي تميز بناية إدارته. انحبس دمعه واستحضر عرضه. في تلك اللحظة وعد القدر بكل ما يملك لكي يُخَلّصه من ورطته. سيصلح المرافق. سيرجع الأموال لصندوق المصالح. سيرقي الأكفاء بدل حثالى التملق والنفاق والوشاية التي توقع بكل معارض. رافعَ ذاته محاكما لها حتى يحقق ميزانا بين كف الخوف وكف الخلاص. ساءل دواخله: أيكون مبعوثا من طرف المدراء والمسؤولين الكبار؟ أيكون واحدا منهم اختار إلى جانب كوابيس الفضح لخروقاتي لعبة بنقطة ضعفي الكبيرة؟ استنجد بأمه التي ولدته. تَفَكَّر أنه لم يزرها منذ مدة. لم يُقَبّل يدها منذ تقلَّدَ بربطة عنقه.ألصق كفَّيْه بشفتيه. اختلط لعاب خياشيمه وبلعومه. استعاد ابتلاعه بملوحته. قَبِل كل النعوت التي طرقت آذانه خلال مشوار عمله ومعاملاته. هو الكلب. هو الضبع. هو الحقير… هو الجرذ. لكنه فقط لا يريد أن يمثُلَ أمام فأر وضيع ومهيب. شمَّ رائحة سيلانه. عاف اختلاطها بأدرينالين ساقط. اكتشف أن الإنسان أكثر ارتعابا من عالم جرذانه. عاد الآخر لجحره السري وتركه واقفا مرتعشا ومرتعبا كشجرة مُرّة بالنتن مخلَّلة. استعاد نبضه الطبيعي. رجّ باب الحمام بحذائه. نادى بصوت غليظ عائد من جراح وشائجه على الشاويش: اذهب بسرعة للمنزل وأحضر لي كامل بذلة بتحتِيِّها وفوقيٍّها. مرافقكم اللعينة كلّها وسخة ومهترئة. هرول الشاويش منفذا للأوامر، خائفا من مخالفته بقدر مفاجئ: تُرى، لو لم أجد سيدته أو خادمته، كيف سألبي له طلبه؟ تُرى لو نهرتني زوجته، واتهمتني بالتواطؤ معه والتستر على خياناته؟ وهل يكفيني الوقت لكي أغتنمه في قُبَل الخادمة التي تتيتم بمطلعي وتغدق عليّ بما جاد به المطبخ وما فُتِح من قنينات فاخرة قابعة في قبو الفيلا؟ تذكر الشاويش يوم استقل السيد المدير إدارته سيارته وكان سائقه في رخصة مرضية. يوم رجع به من وليمة أقامها كبير وزارته. كيف الْتَهَم تحت الأوامر الدجاج غير الطازج واللحم الغنمي، وما تلا كل ذلك من عروض حلويات ومأكولات. كيف استعجل توقيف عجلات السيارة في الطريق وهرول معها هذا المسؤول الآمر بين أشجار الغاب القريب، ولم يكد ينزع سرواله حتى كان اختلط هذا بذاك بما لا يمكن وصفه أو تكون هناك رغبة في تلفظه، خصوصا وأنه طامع في شهيوات من الخادمة التي ستخدمه بمنزل سيده. بكى كطفل صغير وهو في قاعة انتظار،كانت غرفة إعدام بالنسبة له. تذَكّر الضريح الذي أغلقت عليه أمه بابه وتركته في ظلامه وأشباح حيطانه وقبته المخيفة. كيف بقي في صراخه وبكائه لمدة الساعتين، خرج منها مبللا وملطخا. كان ذلك سبيلا ووسيلة لتخليصه من زعزعة خوف وسلبية مواجهة. أهي نفس التجربة التي سيكون في حاجة إليها؟ ساءل نفسه وهو يسخط ويندب حظه وقدره، وينتظر شاويشه اللعين. توعّد: إذا تأخر -هذا الحقير سأبرحه بالكلام الذي لن ينساه ابداً. … سيدي، لم أجد لا الخادمة، ولا السيدة. جئتك ببذلتي الرمادية التي وضعتها بالمصبنة بالأمس. رغم أنها طويلة على قامتك، فربما تحقق الغرض والمطلوب. خرج السيد المدير ببذلة سوداء من فوق ورمادية من تحت، وبحذاء بقيت عليه آثار الكارثة.