كان الخريف مذنبا هذه المرة أكثر. يحتسي شموخه الزائف بنوع من الرغبة في خنق النفوس البائسة، غبار يتطاير في كل الواجهات وذباب كثيف يشاكس بطنينه ولسعاته ضيوفه الكرام. المحطة الواطئة بكراسيها المغبونة تستقبل الصفير والحشرجات، سحنات كالحة مخطوطة بسيول الهم يبدو أنهم لم يأكلوا جيدا منذ عهد عاد. قطار الخامسة لم يصل بعد، يتحرك المراقب السمين بشاربه الكث المشغول دائما بفتله، فيتماوج بسرواله المنهدل في مهب الريح... الثقب في الجوارب يثير ضحك بعضهم، يتحاشى النظر إليهم يعلم قلق أسئلتهم، لكنه مرة مرة يحرك خيط الهاتف مدمدما بكلمات مبهمة ومشيرا إلى الجموع بيده. تزداد وتيرة حفيف الأشجار، وترفع الأعاصير الصغيرة التراب والقش إلى فوق، فترتكن الأكتاف إلى وقع واحد متلذذة بمعاشرة روحية مبهمة ومنتعشة بنشوة السجائر الرديئة التي تخفف من الزفرات، فلا يسمع سوى صوت الصبي الأشعث بعينيه الكابيتين يهرول بينهم بطبقه المملوء بالخبز والبيض المسلوق : " بيض ساخن... بيض ساخن "، مثنيا على دجاج سلجوق لتتأجج نار الرغبات، يبصق أحدهم على الأرض ويحدجه بنظرة جبارة، إنه يكره هذه الرائحة منذ صغره. انحدرت شمس الغروب تلقي برشفتها الحمراء الأخيرة على المحطة الواطئة، يبدو أن العمال مضربون اليوم، شريط من العربات الفارغة يصبو إلى الراحة، لازال المراقب السمين يتحاشى النظرات الجائعة فيعود إلى الهاتف لتلميع صورته. هكذا تترادف المشاهد في بؤبؤ العيسى الحلبي الهارب لسنين عدة من وحل نظام بلاده إلى جبال كردستان المثقلة هي الأخرى بأحلام حزب العمال. ثمة شيء يجثم على قلبه كالصخر، يؤمن بالحرمان... لا تستهويه المدن العملاقة، حتى نحافته تشي بهذا الزهد القاسي، فتسكن المعطف الأسود الطويل المتآكل على حافات المحطات... وملامح تمور بالأمل المترجى في إشعال نيران الثورة، فلا أفضل من الشرق بملله ونحله، الناس عطشى للأفكار والنظريات. يطرق ساهما بعد أن جذب نفسا من قوقعة نرجيلته الصغيرة وشافطا القهوة السوداء من قارورة الدواء الصغيرة... يحدق في الوجوه مبتسما ابتسامة لا معنى لها فيقول : " رغم فساحة الكون فلن تجد لك وطنا يأويك فلا وجود للأوطان إلا في مخيلة المقهورين ". ينزع جاره حذاءه المطاطي، تعبر الروائح أنوف الكل، يتبادلون نظرات الاستياء، يتوسد الجار الحذاء ويغط في نوم عميق مكسوا بشخير تجفل منه البهائم وهاذيا بكلامه الفاحش المثير للضحك يتوسلها أن تقترب منه ليقبلها... يلقي بيديه على عنق العيسى الحلبي يحاول أن يتهدهد لينفلت منه. لم تبق من الليل سوى ساعة واحدة. مازال المراقب يزعق في هاتفه مستنكفا ما تبقى من لعبته اللعينة. هزيم كالرعد يسمع دويه وقعقعة السكك تتناهى إلى سمعه فاستبشر بقدوم القطار : " وأخيرا هاأنت أيها اللعين كدت أن أخرج عن طوري أمام هذه الأكباش ". يصفق بيديه المكتنزتين للحاق بالممر، استوى القطار يلوك السكك من جديد، وارتكنت الأكتاف إلى وقع واحد متلذذة بالمعاشرة الروحية المبهمة باستثناء واحد. وفي الصباح تناقلت كل إذاعات بلده موته أو قتله ببهجة عارمة، فتنعته بالكلب السائب، وأدرجت أغاني الصباح كعادتها تتغنى بمناقب النظام.