ذات ليلة، كنت في رحلة ما. و نظرًا لعدم وجود خط مباشر إلى مكاني المقصود، اضطررت إلى النزول في إحدى محطات الاستراحة الواقعة على الطريق بانتظار قدوم القطار المتمّم للرحلة، الذي لم يكن ليصل إلا في صباح اليوم الموالي. كان الليل قد أقبل، و حاجتي إلى النوم و الراحة بدأت تزداد. فغادرت المحطة بحثاً عن فندق أقضي فيه ليلتي. لم أجد غرفة في أي فندق ولا في أي مكان آخر بالمدينة الصغيرة. أخيراً دلوني على عنوان أكدوا لي أنني سأجد فيه حيث أنام. نَزْلٌ فسيحٌ ذو هندسة واطئة. تحيط به حديقة. " هذا شأنك الذي لا يعنيني ... لكن الغرفة مسكونة "، قال لي صاحب النزل. كنت أخشى ليلة بدون مأوى ليست سوى ليلة بدون نوم ! كيف هي مسكونة ؟ لن أدخل في التفاصيل ... هي عموماً مسكونة... عموماً ! هذا مُطَمْئِنٌ و غير مطمئن : غير مطمئن لأنك لا تعرف شيئاً، و مطمئن لنفس السبب... فقبلت . " كان واجباً عليّ أن أنبهك "، قال لي مضيفي وهو يرافقني إلى غرفة حيث كان، زيادة على باقي الأثاث، دولاب كبير. حين وجدت نفسي وحيداً في الغرفة، ذهبت إلى النافدة لأنظر إلى الخارج. فلم أر شيئاً . كنت أسأل نفسي عن معنى أن تكون غرفة ما مسكونة ... خلعت بذلتي ووضعتها على إحدى الأرائك . ترى أي شيء ينتظرني ؟ أفرغت ماءَ جرةٍ في إناء. هياكل عظمية ؟ أكفان؟ جماجم مكشوطة من اللحم ؟... غسلت وجهي . ساق ضخمة تنقر على الزجاج نقرات موزونة ؟... نشفت وجهي بالمنديل . أو رأس يتدحرج وحده على الأرض ؟ نزعت حذائي . كلب أسود هائل ؟... نظرت تحت السرير. أو مجرد شبح ؟... خلعت باقي ملابسي، واستلقيت فوق السرير. كنت مرهقاً لا يطاوعني النوم. جثة معلقة في الدولاب ؟... قصدت الدولاب. فتحته. كان فارغاً. عدت إلى الفراش بعد أن أغلقت الدولاب. ضوء فسفوريّ ينبعث من إطار ساعتي. الوقت تجاوز منتصف الليل. لعل اللحظة الحرجة قد مرت. فهل يكون صاحب النزل قد سخر مني ؟... فجأة سمعت خشخشة خافتة، لكن جلية. هنا انتفضت واقفاً. أضأت المصباح. كانت الخشخشة آتية من داخل الدولاب. على أصابع رجليّ دنوت من الدولاب. كنت ممسكاً المصباح باليمنى، و باليسرى فتحت الباب. ما هذا ؟ فأراً رأيت ! صفقت باب الدولاب، وتهاويت على أريكة. هكذا ?ذن، وبدون أي حرج، أجاز "هذا" لنفسه أن يزعجني... أن يخيفني ! إلا إذا كان "هذا" في هيأة فأر ! بيد أن "هذا"، في الحالة هذه، لا يبعث على الخوف ! لكن ... هل حقّاً لا يبعث "هذا" على الخوف ؟ إذا كانت هذه غاية الفأر، إذا كان الفأر لا يكتسي أيّ معنى ما، فهو إذن أبعث على الخوف من أية هياكل عظمية أو أكفان أو جماجم مكشوطة من اللحم... أشعلت سيجارة . ... أو أية ساق ضخمة تنقر على الزجاج نقرات موزونة ... تصفحت مطبوعاً للدعاية السياحية. ... أو أي رأس يتدحرج وحده على الأرض... تلفنت إلى عشيقتي اليونانية لأطمئنها على حالي. ... أو أي كلب أسود هائل ... خرجت إلى الشرفة لأتنشق هواء الفجر. ... أو مجرد شبح... تناهى إلى مسمعي صوتُ سكرانٍ يردّد لحن أغنية "لا مامّا" لشارل أزنافور. ... أو جثة معلقة في الدولاب ... ذلك لأنّ مجرد شبح مثلاً غيرِ عاديّ ليس دائماًً غير شبح غير عاديّ ... أما فأر عاديّ، فأي شيء يمكن له أن يكون إذا لم يكن فأراً عاديّاً ؟ ما الذي يضمره من نوايا ؟ انتصبت شعرات رأسي. إلا إذا لم يكن يضمر أية نوايا. ارتخت شعرات رأسي. إذن... إمّا أنه شيء أكثر إرعاباً من الأشباح، و إمّا أنه لا يبعث على الرعب إطلاقاً ! لكن ... كيف يمكن لي أن أتأكد ؟ مرة أخرى، ألقيت نظرة حذرة داخل الدولاب. كان الفأر بَعْدُ هناك، رماديّاً، منزوياً في ركن من الدولاب. هل له معنى ما أم ماذا ؟ لا شيء في هيئته يفصح عن ذلك . كان ينظر إليّ بعينين صغيرتين تشبهان حبّتي خشخاش. أي شيء يمكن لنا أن نقرأه في حبّتي خشخاش ؟ صفقت باب الدولاب. كنت أعاني عرقاً كالثلج بارداً. ربما كان العكس ... لكن ... لو حدث أن الفأر ينوي أن... تناولت فردة حذائي وقتلت الفأر ثم تنفست الصعداء. استرحت منه . حينئذ، انتبهت إلى أنني كنت أمسك فردة حذائي بين يديّ. لم يحدث أبداً أن أعرت حذائي أي انتباه من قبل ! وضعت الفردة أرضاً و بدأت أتأملها من كل جهة. و بعد ؟... إنها مجرد فردة حذاء ! لكن كونها كذلك هو بالضبط ما جعلها مدعاة للشك ! لأنها، إلى حد ما، فردة حذاء أكثر من اللازم ! قررت أن أفاجئها . أخذت الجريدة، وتظاهرت بالقراءة. ثم أدرت رأسي نحوها في حركة مباغتة. لكن الفردة، وكأنها لم تكترث بذلك، ظلت جامدة. بقيت فردة حذاء. لم يكن ذلك ليبرهن على شيء ما ! كرّرت العملية مرّات عديدة... بنفس النتيجة. لكن الفردة لبثت كما هي ! على حين غرّة، سمعتني أقول همساً : و إذا كان حذائي مصنوعاً من جلد فئران؟ تفحّصته بإمعان وكأنني لأول مرة أراه. فتنبّهت إلى أنّ لونه رماديّ مثل لون إِهاب فأر الدولاب. و بعد ؟ لِيَكُنْ ... أشعلت سيجارة. تخيّل لي أن الحذاء ينظر ?ليّ نظرة شزراء. شربت جرعة ماء . الخبيث يتشفى مني ! ارتميت فوق السرير. لحظتئذ، تذكّرت تعدادَ صاحب المحل التجاري في غدانسك لمزايا جلد الحذاء ليقنعني بشرائه. من بين ما قاله لي، وهو يُريني بصمة الجودة، ?نه مصنوع في الجزائر من لدن شركة أحذية باذخة. فجأة طفت على سطح ذاكرتي فئران ألبير كامو، الجزائري الأصل، في روايته : "الطاعون". فانتفضت بطريقة آلية، و استويت جالساً فوق السرير. قلبي كان يخفق بقوة. و ?ذا لم يكن الفأر، بل الحذاء هو الذي ... أو هما معاً ... وقفت، و أضأت المصباح، ثم فتحت النافذة، و طوّحت بكل قوتي بالحذاء في الهواء، فردة تلو الفردة. أغلقت النافذة، و قصدت الحمّام لأغسل يديّ. رفعت ذراعَيّ. كانت منامتي ذات كُمّين جد ّ قصيرين. ولعل هذا هو السبب الذي جعلني أتفطن إلى أنّ يَدَيَّ كانتا بالفعل يدين ! أجل ... يجب على المرء أن يواجه الأشياء كما هي ... من غير لف و لا مواربة ... يدان اثنتان ! .. أشعلت سيجارة. إنهما يداي ... استرعى انتباهي أنّ النهار بدأ يطلع ... لكنّ كونهما يَدَيَّ لا ينفي عنهما أنهما يدان ... عطست عطسة قوية أيقظتني من غفوة قصيرة ... نعم ... يدان بكل بساطة و بداهة ... جلست تلقاء الطاولة. وضعت عليها يَدَيَّ ... نفس اليدين اللتين أشعلت بهما جهاز التلفزيون والسجائر الواحدة تلو الأخرى و أضأت بهما المصباح وطوّحت بإحداهما بالحذاء بكل قوتي في الهواء و اللتين غسلتهما في الحمّام و أمسكت بهما فردتي الحذاء و هويت بإحداهما على الفأر لأقتله و اللتين كَمْ يلذ لعشيقتي اليونانية أن أضرم بهما النيران في جسدها الحريريّ البض و ... على حين غفلة، بدأت الحقيقة القاسية تنجلي لديّ. إنهما يدان بالتأكيد ... و هما الآن موضوعتان أمام عينيّ فوق الطاولة ... هكذا إذن، فليس من شأنهما أن تكونا و لو يَدَيَّ ما دامتا مبسوطتين أمام عينيّ فوق الطاولة ... إن اليد تتميز عن الحذاء بكونها يداً لا غير ... كذلك بالنسبة للفأر ... و بمعنى آخر، فلا فرق هناك. يا إلاهي ! و إذا كان الحذاء، مَثله مَثل الفأر و اليدين، قد ... مع شروق الشمس، أتى صاحب النزل، و نقر على باب غرفتي مرّتين. كان حاملاً إليّ وجبة فطوري. لمّا لم أجبه، اقتلع باب الغرفة. ثم زاول على جسدي عملية التنفس الاصطناعي. فعُدت إلى الحياة، صُوَرُ الفأرِ و فردتيْ حذائي و يَدَيَّ تتراقص أمام ناظري. قدّرت بالتخمين أنه سيسألني لا محالة كيف أمضيت ليلتي في الغرفة "المسكونة". فأطلقت للريح رِجليَّ الحافيتين باتجاه محطة القطار.