إلى صديقنا عبد الخالق أتراري القسم الأول حين يصل إلى المكان الذي نلتقي فيه لا يكون هو الشخص الذي كانه. لا يعرف، أنا على الأقل، أو الأكثر، لا أعرف ما كان عليه، وتصورت في البداية أن الأمر أمره،لا يعنيني. لكنه، وكما تعلمون، الفضول. الفضول شأنٌ من الغيرة، والحسد، والنّميمة، والتجسّس على الناس، وهو مثل الوسواس الخنّاس، الذي...والعياذ بالله، كما هو شأنٌ يتفنن فيه المغاربة، وأنا منهم. *** أحترز، أُعاند، من عادتي أن لا أكون فضوليا. ليقودني عناد آخر إلى التجاهل واللامبالاة. في الأخير أقنع نفسي أن ما عندي يكفيني، فلماذا أزيد على الهمّ همّا، بل ربما هموما؟! * * * في النادي الذي نطرقه تتجاور الطاولات. يبقى بين الطاولات فراغ محدود. لكننا نحن المغاربة نزيله تماما بأصواتنا المرتفعة، كأننا نتعارك، أو نتحاجج. من أجل ماذا؟ لا أحد يعلم. * * * حين أصل أجدُه دائما قاعدا وأمامه شرابُه، وصُحَيْنات ينقُر منها بسرعة كطائر يلتقط حبيبات بحذر. يفعل ذلك وساعداه يبقيان مستندين على كوعيهما عموديا، كعمودي كهرباء مغروسين في الشارع، وفي الوقت عينِه هو منبطحٌ على مقدمة الطاولة. * * * طاولتي إما تجاور طاولته، أو منفصلة عنها بواحدة مثلها أو اثنتين. في الحالتين، نحن نتجاهل بعضينا. أظن عمدا. أو نتخالس، يقينا. والأغلب أنه ينظر قدامه. الأغلب، أيضا،أن ينظر ذات اليمين، وذات الشمال، من غير أن يركز على شيء محدد. * * * بدا لي، مذ لفت نظري، مُجتَمِع الهيئة، مُكدَّسها. أي أمْيَل إلى القصر، مكتنزا في الوسط، ومنتفخ الرقبة، مُنضغِطَها لارتدائه تريكو يحزم صدرَه ويلفُّ عنقه. تريكو أسود أسدل عليه جاكيتا رماديا، قد تسرول دونه بنطالا أسود، ذا تناسق أعجبني، واعتبرته علامة أناقة تُحسب له. * * * لم أره، ولا سمعته يكلم أحدا قط. ولا هو يكلم نفسه، مما هو معتادٌ عندنا نحن معشر المغاربة. عاكفٌ على شرابه، ومواصل نقره للصُّحينات بانتظام وعناية. ساعداه عموديان معتمدان على كوعيهما. يشرب النبيذ طبعا كأنه لا يشرب، وينقنق، إن اختلسته كأنه لا... ** * يقضي مثلي وقتا طويلا مقتعِدا كرسيّه وحده، مُكعيا دائما، إن اختلسته تحسبه قطعة ناتئة من الطاولة، أو على الأرجح وجدته نصبا موضوعا فوق كرسي. وهذا ببساطة، برؤية العين المجردة، لأنك تراه، أنت المختلسُ، الفضوليّ، المتجسّس، جامدا، متصلبا، لا نأمة ولا حركة. * * * بقي أن أضيف لوصفه أن ظهره يأخذ شكل انحناءة خفيفة، تظن هناك من يضغط من الخلف على رقبته المشدودة مثل حزمة خيوط، فوقها رأسُه ملتصقة بها التصاقا. اللهم، إن ركزت في لعبة الاختلاس، لترى، أو تخمّن عينيه تريان ما لا تعرف. طبعا، ما لا ترى. والحاجبان وهما يصعدان ويهبطان. وربما حسبتَ أن نفَسا حارا أو باردا يهب عليهما،هو ما يحركهما، بينما هو جامد، قد نُصِب صخرةً صمّاء بلا حراك. * * * في المرة الأولى، وقد التقت عيناي بعينيه، ارتجّت في عينيّ الصورة. تقاطعت نظراتنا، تطابقت. لم يدُم ذلك أكثر من ثانية. يقينا، كانت نفاذة. يقينا، كانت متوجسة، شكّاكة، كثيفة الصمت وهي مهذار! ولا بد أن أسجل أن أهم ما التقطته في هذه الثانية إحساسٌ بالخوف. لا أعرف، أمِنْه؟. من نظرته؟ من المكان؟ أم من رُعب تأويلي لنظرتي إليه. * * * نسيت الإشارة من البداية إلى أن نادينا يقع في طرف من المدينة، خلف ملعب لرياضة متاحة للأثرياء وحدهم.نحن نطرق النادي ليلا فقط ، وهو خلاء. موجودٌ ليلا في الخلاء. لا تعرف إن كنت تطرقه تسللا أو علانية، ويقينا أنك تلِجه تحت سُدُف الظلام، وتغادره تحت سُدُف أشدّ إظلاما. *** ضرورةُ هذا الوصف أن زبائن النادي يعرفون بعضهم تقريبا، وفي الآن لا يعرفون بعضهم حتما. هم يجلسون خارج مساحة الضوء الشّحيح المُسدلة عليها خامية عتمة خفيفة،فلا يتراءون إلا قليلا، ونادرا،خاصة إذا أضفنا أن طاولاتهم جلها متجاورة في صف واحد لا متقابلة، أو متحلقة. * * * لذلك حين تقابلت عينانا، تعامدتا، تطابقتا، اعتبرت ذلك حدثا، وهو الحدث الذي تصورت أن كل قصة لا بد أن تتوفر عليه، أو تصنعه، أو تتصنّعه، أو تصبح هراءً. ومن ثم فقد كان من وراء النظر ما كان،، وهنا ينتهي القسم الأول من هذه القصة. القسم الثاني كنت عائدا من المرحاض حين حدثت النظرة، قاصدا طاولتي مباشرة، لكني ترددت قليلا، سأقول ارتبكت. ثم، ثم اقتنصته في الوضع، بل اللحظة الفريدة. هنا اصطنعت ارتباك من كاد يزلق، مما سمح لي بغفلة في النظر، بعيدا عن أي فضول، رغم أننا نحن معشر المغاربة نبحلق في وجوه بعضنا بلا استئذان وبقلة أدب مفرطة، ولا نبالي(!). أما الخوف، ما لم أتوقعه منه، فهو حركته بالذات،لا تشبه أي حركة سريعة الإدراك في المرئيات. وقبل أن أقطع الخطوة الضرورية، سأسميها الكبيرة، نحو طاولتي، فإني رأيت: ماذا * * * حين أصل عادة إلى النادي في الثامنة ليلا، وهو يقع في طرف المدينة، خلف الملعب الرياضي الخالي ليلاملعب المترفين نهاراأصُفّ سيارتي بين سيارات في موقف خاص مظلم، ثم أدلف من ممر ضيق أحرك فيه يدي كأعمى في الظلام. يُسلمني بعده إلى ممشى ينيره ضوءُ القمر إذا كان منيرا، فترى المكان مزدانا بأصص، ومنتشرةً في جنباته أعشاب برّية، ولا نأمة، ولا حركة. أجمع نفسي، وقامتي، وخطوي، إلى، إلى أن أصل إلى نهاية الظلام الممتد كنفق بلا مخرج، وأخيرا في نهايته نور مصباح،عندئذ أستعيد كامل جسدي، وثقتي، لأقول: ها، أخيرا وصلت، ُممنّيا النفس بسهرة، بجلسة، و.... *** ولمّا انقشع الخوف عن قلبي، وانخلع عن جسدي، صرت كأني أصدق ولا أصدق. فإذ أنا عائدٌ من لَمْطاهر أقصد طاولتي، شاهدت جاري بالعين المجردة يتململ في مكانه، يهتز في مقعده، تتقلص رقبته، يشرئب عنقُه، قد صار ظهرُه أكثر انحناء، ورجلاه تجاوزتا أضلاع طاولته، وعيناه، يا لعينيه،واقعتان عليّ، قد نبتت لهما أنياب،وهي تنهش لحمي نهشا! * * * هل هذا وهمي؟ مجرد واحد من أوهامي؟ ما أكثرها! لأجيب على هذا السؤال والاستغراب سأعيد صياغة الصورة على نحو مختلف، وهنا أيها القارئ اللبيب ربما تجد شغفا بقصتي، أو قد تعتبرها مبتذلة، مكرورة، مثل كثير من قصص هذه الأيام، التي يروّج لها أصحابها في الأسواق، ويعرضونها في مزاد الجوائز والسمسرة، في ما يسمى ب»أدب الريكلام»[الدعاية] وأنا لا أريد لها هذا المصير والعياذ بالله، خيرٌ منه والله الصّممُ والانقطاع عن أي كلام. * * * تطابقت عينانا إلى حد أنه بعد أن جمّدني، زحزحني عن وقفتي المرتبكة، المرتعبة، لا أذكر كيف عدت إلى كرسييِّ أُجالس مشروبي وحدي، وأرمّم جسدي من شدة خوفي، وبقية ما لا أذكره مما رأيت. رأيته وَقَف. بالأحرى انتفض. انزاح عن ضِلع الطاولة العُلوى الملاصق لبطنه، فأشاحها جانبا،لا أعرف، هل بيديه أم دفعها بوسطه،لأني رأيت يديه مرتخيتين أمامه تتقدمان وهما تتحركان كزعنفتين، بتناسق تام مع انحناءة ظهره، واشرئباب عنقه، ورأسه المنقذفة قدامَه، زيادة على عينيه الجاحظتين، تنظران تجاهي وإلى لا شيء في آن، وهو مُقبِلٌ صوبي، نحو لَمْطاهر. * * * ثم أتذكر، في تقاطع النظرة، انحناءَ كتفيه، واستعيد الآن أنه كائن بلا كتفين، أعني، تقريبا ، بمعنى أن رقبته المضغوطة تنزلق مباشرة أسفلَه لا تكاد تُبقي مسافةً للوصول إلى ساعديه. ويكون أَظْهَرُ ما فيه كتلةٌ عليا تتكون من رأسه المسطّحة، وصدرُه العريض الذي يحتوي بطنَه مُتحِدا بأسفله، أي بفخذيه الملتصقين تقريبا بساقيه القصبيتينهكذا أتخيلهماالمخفيتين تحت سرواله الفضفاض،وصولا إلى قدميه ترتفعان وتنخفضان بإيقاع حركة يديه الزّعنفين. * * * بقِيَ نظري مركزا على مدخل لمْطاهر، لذا لم أعِر انتباها لمن دخل،واحدٌ، والثاني، أيضا، وحين تسرّب هواءٌ باردٌ من جهة مدخل صالة النادي التفتتُ لأرى الثالث الذي اتجه مباشرة إلى طاولة الداخل الأول، على ما قدّرت، فالثاني، وجالَسَهم بلا سلام ولا كلام، كأسُه مُترعةٌ عَبّ منها مباشرة، فهالني ما رأيت، ولِأتأكدَ فرَكتُ عينيّ لأيْقن أني أرى حقا ما أرى! * * * صدّقوني، فقد فزعت حقا مما رأيت، أو خُيل لي، أو اختلط عليّ. وإلى هذا الحد تذكرت من سجل مقروئي أن هناك أشخاصا يتخذون خيالاتهم واقعا، وربما إن هم أسرفوا في هذا التخيل وضعوا خطوتهم الأولى على طريق الجنون. لم أكن في حاجة إلى دليل إضافي مسوّغا لهذه الفكرة، أو لهذه الغرابة. ومع ذلك جعلت بصري نصب اتجاه لَمْطاهر، مُتربصا بخروجه، هو من لم أسمّ حتى الآن، ولكم،إن شئتم،أن تلقبوه البطريق، وأفضل عليه تسمية الفقمة، بما أنه أقرب ما يكون إلى هذا الحيوان البرمائي،لا يكف مثله يغطس في سائل كأسِه، ويعود يرفع شفتيه ليعبّ الهواء قليلا وهو ينقنق من الصُّحيْنات أمامه، فإن أصختَ جيدا سمعته كأنه يُبقْبق، بل هو يُبقْبق! * * * بمجرد ما استقر في مقعده من جديد، زال عندي كل شك، وفي الآن تكاثف فَزَعي بعد أن أعدت النظر صوب الأول، والثاني، والثالث، في صف الطاولات المتجاورة، ثم وهم ينتقلون من طاولة إلى أخرى كأنهم في أطوار لعبة، ثم وكل واحد يقصد لمطاهر ليفرغ متانته من كثرة ما عَبّ، تراه يدفع قامته المنحنية، حاملا رأسه المُسطّح ووجهَه الأملس، مع رقبته المضغوطة، بينا يداه تلْبِطان أمامه، ورجلاه تعلوان وتنزلان. وأخيرا، وهم يتجمعون حول طاولة مشتركة ويصدر عنهم صوت هو البقبقة: بَقْ، بَقْ، بَقُ، ودون أيّ توقع نهضوا عن كراسيهم، وخرج من أفواههم في وقت واحد سؤالٌ استنكاري كالنذير، لم أحَر له جوابا: لماذا لا تشبهنا؟! أردفوه بآخر أشد استنكارا ونذرا: ولماذا لا تُبقبق مثلنا، أم تحسبُ نفسَك أفضل منا؟! * * * واصلوا تحديقهم فيّ، كأني كائن غريب وافدٌ على هذا الكوكب، ولم أملك نفسي من التحديق فيهم وأنا أتحسّس أطرافي لأتأكد من طبيعتي، وأتلمّسُ رأسي لأيْقن من سلامة عقلي، وأخيرا صرخت عاليا من فزعي، فهبّ النادل، وتلاه مُسيِّرُ النادي،اللذان بدلا من أن يسعفانني رأيتهما يتجمدان بدت عليهما الدهشة من رؤيتي، وزادا استغرابي إذ انضما إلى الآخرين المتوعدين لي وهما يسألان: لماذا لا تُشبهُهُم ؟! لماذا لا تُبقبق مثلهم؟! * * * لمّا أيقنت أن الحصار أطبق عليّ من كل جهة، قلت لابد من حيلة لأنفذ بجلدي، أو أنا لا محالة هالك. فمِلت بقامتي كأني أقصد لمطاهر، فمالوا إليه جميعا بحركة متباطئة ومُوحّدة. هنا استخدمت مرونة بدنية لاحظت أنهم لا يتمتعون بها لأقفز ركضا نحو باب الصالة، ومنها إلى الخلاء الخارجي مباشرة وهم يهرولون على إثري دافعين رؤوسهم وأعناقهم المضغوطة وزعانفهم، بينا أسمع الهواء حولي، من خلفي وقدامي يصوّت: بق، بق، بق،،، حتى قلبي الذي خفتُ أن يتوقف علا خفقانا : بق، بق، بق!!!