سألت ديفيد لينش عن كيفية اكتسابه إخلاصاً كهذا من العاملين معه، أصدقاءه، وحتى زوجاته وحبيباته السابقات، رغم تقنينه لتواصله الإنساني. رمى سيجارته على الأرض، وأطفأها بحذائه قبل أن يجيبني: «أحبّ تواجد الناس حولي. لو كنتُ وحيداً تماماً لشعرتُ بغرابة ما، ولا أتحدث عن غرابة هزلية». نادراً ما يبتسم ديفيد لينش في الصور الفوتوغرافية. يُحملق وجهه الذي يبدو كأنه ينتمي لتماثيل جزيرة القيامة: شفاه مزمومة وعيون مغطاة. يُظهر كل جزء منه عبقرياً سينمائياً. خصلة الشعر كثيفة التموج تضاعف التأثير، فتبدو وكأنها تتجمد في مكانها بفعل الأفكار «اللينشية» المُقلِقَة. خلال مسيرته في صُنع الأفلام والتي تقارب الأربعين عاماً، نقل المخرج جماهير من المشاهدين من عالم الأمريكيين المشمس والهادئ إلى أبعاد سرياليّة ملأتها الشياطين، الشخصيات البديلة والقتلة المضطربين نفسياً. يصعبُ عليكَ نسيان أيّ من مشاهده: الطفل المشوه المتشنّج في فيلم Eraserhead، الأذن المقطوعة في Blue Velvet، العنف الراشق للدماء والساحق للجماجم في Wild At Heart، الانفجار النووي في Twin Peaks: The Return. إذا قمت ببحث عبر محرك جوجل باستخدام جملة «ديفيد لينش مُخيف»، فإنك ستحصل على 5.5 مليون نتيجة. يعمل لينش من استوديو يقع على منحدرٍ أعلى ثلاثة منازل متصلة يملكها جميعاً في «هوليوود هيلز»، على مرمى حجر من طريق «ملهولاند»، الذي كان عنواناً لأحد أفلامه. يتجنب لينش الصّحبة ونادراً ما يغادر دنياه الصغيرة، غير آبه بجماهير المحبين ولا الصحفيين. لكنه جاهز الآن، عشية نشر سيرته الذاتية غير الاعتيادية، والمليئة بالذكريات «مساحة للحلم». رافقني أحد المساعدين في جولة عبر أرجاء المنزل، الحديقة والاستوديو، مروراً بجدران وأسطح من الخرسانة الملساء، رفوف ممتلئة بأشرطة الفيديو المنزلية والأقراص المدمجة تمتد من الأرض إلى أعلى السقف. حدثني مساعده عن حية تسللت إلى المنزل في ذلك الصباح. يجلس لينش في الزاوية، منحنياً فوق آلة طباعة حجرية. تمتلئ الطاولة بعبوات دهان، مستحضرات جلدية، مواد كيماوية، اسمنت هلاميّ، أوراق مخصصة للطباعة الحجرية، مثقب هوائي، أسلاك وكابلات، بالإضافة إلى فُرش الألوان. هناك أيضاً فنجان قهوة وعلبة سجائر. يرتدي المخرج حذاءً عتيقاً معطوباً، بنطالاً رثاً، وبقايا قميص أسود مزرر يبدو أن قارضاً مفترساً قد مزّقه. هو أمر هائل أن تتطلع على سر عظيم لم يعرف به أحد من قبل: لديفيد لينيش روحٌ مرحة متجانسة، تكاد تنافس شخصية «نيد فلاندرز» من المسلسل الشهير «ذا سمسبونز»، تكاد تنافسه على طيبة «هاودي داودي» الشهير. يحيّي مساعده مصافحاً وبابتسامة عريضة: «مرحبا يا صديقي!». غالباً ما يضحك وهو التوّاق إلى السلام على كوكب الأرض. «أحب حياتي، وأنا مخيّم سعيد». يضيف: «سيكون جميلاً لو تمكنّا جميعاً من تحقيق رغباتنا بعيش حياة طيبة طويلة سعيدة». يشبه الاستوديو غرفة تخزين مصنوعة من الخرسانة والزجاج. يُشرف على إطلالة بانورامية من الأشجار، أزهار القرنفل الجهنمية، وأسطح الفيلّات. بوسعك أن تشعر بحرارة الشمس في الصباح، في حين تسمع أصوات غناء العصافير. «أحب العيش هنا، الأشجار» يقول لينش مستعيراً تردد «جوردن كول»، عميل مكتب التحقيق الفيدرالي الذي لعب دوره في «توين بيكس». «إنه شعور يراودني في لوس أنجلوس، شعور بالحرية. الضوء، والطريقة التي تنتصب فيها المباني عاليةً. بإمكانك القيام بأي شيء تريد». يسأله مساعده عمّا إذا كان يرغب في تناول بعض القهوة، يجيب: «نعم، أعتقد أنني مستعد لفنجان ساخن، شكراً لك!». لا يوجد حمّام في الاستوديو. فحتى يتجنب العودة إلى المنزل، يتبول «المدير» في مغسلة تم بناؤها في الجدار. يشرح لينش: «هل ترى ذلك الشيء ذو المقبض؟ ينزلق إلى الخارج، بإمكانك قضاء حاجتك من خلاله قبل استخدام صنبور المياه». ترى لوحة كبيرة في وسط الاستوديو. عمل غير منتهٍ بعد. تصوّر اللوحة شجرة وأطفالاً. فحصٌ عن كثب يكشف عن صبي واقف على قاعدة الشجرة بينما يحمل سكيناً، وعن فتاة ترتعد على إحدى الجذوع في الأعلى. تستطيع أن ترى فتاة أخرى تتدلى من حبل مشنقة. لا يبدو أن أياً من الفتاتين مرشحةٌ لحياة جيدة، طويلة، وسعيدة. «بوسعك أن ترى المعاناة والموت في كل مكان إذا نظرت». يقول لينش. «قبل بضعة أيام، حبست شبكة عنكبوت نحلة بجانب مكتبه. تحررت النحلة أخيراً، قبل أن تعلق في الشبكة مرة أخرى. تحرك العنكبوت واستمرّ في لفّ خيوطه حول النحلة حتى غطاها تماماً. حتى أنني أظنه قد لسعها أيضاً. قام العنكبوت بفك أسر النحلة قبل أن يخدرها ويسحبها». تباغت الابتسامة ذكريات لينش: «كان هذا عنيفاً يا رجل!» يضيف: «لوس أنجلوس متألقة، لكن لا بدّ من أن تشاهد أموراً كهذه». يُعدّ ما يراه لينش، ويقدمه لنا عبر الشاشة لنراه، واحداً من أعظم الألغاز في عالم السينما، لغز أطلق العنان لآلاف من برامج الدكتوراة المتخصصة بدراسات الفيلم. حين ينظر المخرج إلى مرج مشذّب، فإن عينه التحليلية تشق تحته طريقاً نحو لغز غامض، باطن، وفاسد. رؤى حوّلها إلى أعمال تلفزيونية وسينمائية تقلب الدماغ. إنها تحف فنية اعتاد الناس أن يحبوها أو أن يبغضوها، ولا يدّعي حتى أنصار لينش أنهم يفهمونها بالكامل. فباستثناء فيلم «The Elephant Man» 1980 و "The Straight Story" 1999، تُعدّ أفلامه غير مباشرة وذات غير وُجهة. فمَن هي السيدة ذات الوجنتين، التي تشبه السنجاب في Lady in the Radiator، والتي تسحق الديدان التي تشبه السائل المنوّي بينما تستمر في الغناء لوالد الطفل المتحوّل في Eraserhead؟ وكم من طريق حقيقي هناك كذاك الذي نراه في فيلم Mulholland Drive؟ أو تحلم به الممثلة الواعدة «ناعومي واتس»؟ وهل النهاية هي حقاً البداية؟ لينش هو آخر من يمكن أن يقدم الإجابات على هذه الأسئلة، ولكن الآن، بعمر 72، يُفصح عن بعض الأشياء في كتابه الكبير ذي ال577 صفحة. كتاب «مساحة للحلم» يقدم نفسه على أنه ساردٌ لسلسلةٍ من الأحداث، وليس شرحاً لمعانيها. وفقَ ما ذكرت المؤلفة المساعدة «كريستين ماكينا»، فإن فصول الكتاب تتنقل بين ذكريات لينش الخاصة، وتلك الخاصة بأصدقائه، وأقاربه، والعاملين معه. فيتحدث فيه عن صِباه في وسط الولاياتالمتحدة خلال الخمسينيات من القرن الماضي، وعن بداياته في فن الرسم، كما يتحدث عن زيجاته الأربعة، ل «بيجي لينتز»، و»ماري فيسك» والمحررة والمنتجة التي عملت معه عقوداً «ماري سوينيز»، وصولاً إلى الممثلة «ايميلي ستوفلي»، كما يذكر علاقات أخرى مع أكثر من امرأة. لا يظهر في هذا الكتاب «ديفيد لينش» واحداً فقط، بل عدة شخصيات تتميز عن بعضها البعض: فترى لينش ذو العقلية المنفردة، ذو الرؤيا المنعزلة، والذي هو في نفس الوقت متخصص محترف بالإعلام. تجده منصبّاً بكامل وعيه على الرفع من شأن مكانته السينمائية. يكون لينش بكامل حركته ونشاطه عندما يناقش الأفكار. «إنها كالأسماك، إذا اصطدت فكرة مشوّقة، ركّز اهتمامك عليها وستسبح بقية الأسماك نحوها. تصبح الفكرة كطُعم للسمك، ستتمسك بها بقية الأفكار وهكذا ستَصطادُ المزيد.» عندما يحوّل لينش قصة ما إلى عمل سينمائي، فهو لا يفكر في مستوى النجاح الذي قد تحققه، ولا في نقاط سير الأحداث. «لا، فهو شعور، أو فلنقل أنه حدس. إنها الفكرة التي تقع في حبّها وتبذل قصارى جهدك أن تبقى مخلصاً لها. تتخيل الطريقة التي ستُمكن السينما من إيصال الفكرة، فتُفتَنُ بها». يوشك ديفيد لينش على صنع فيلم سينمائي في أي وقت قريب، بينما تسرق أنظاره جودة صوت وصورة السينما التي لا يفوقها شيء. يعتقد لينش أن الإصدارات المسرحية أصبحت قصيرة جداً. «لن أصنع فيلماً روائياً في هذا الزمان، لأنه ليس بوسع الأفلام التي أصنع الاستمرار على الشاشات الكبيرة لمدة طويلة.» لذلك فهو يعتقد أنه من الأفضل صنعُ أعمال تلفزيونية، فهي وسيلة تتناسب أكثر مع النهايات الفضفاضة، والروايات ذات النهايات المفتوحة، حيث يمكنه أن يقصّ حكايات مستمرة. هناك فرضية تقول أن لينش نفسه لا يعرف أحياناً ما يحدث في أفلامه. يحدثنا عن هذا مباشرة فيقول: «أنا أحتاج لأن أعرف معنى كل شيء في العمل، وما يحدث فيه. أحياناً، تأتيني بعض الأفكار، ولا أعرف تماماً ما تعنيه. فأفكر فيها وأحاول أن أجد لها حلولاً، حتى أجد إجابة بنفسي». ولكن، على الجمهور أن يجد هذه الحلول بنفسه. «لا أشرحها أبداً، لأنها ليست مسألة تعبير بالكلمات، فقد تقلصها وتبخسها حجمها». نادراً ما يقبل الظهور في أي مقابلات هذه الأيام، حتى أنه لم يفعل خلال عودة عمله Twin Peaks العام الماضي، والتي تسببت بضجة هائلة، نظراً لأن الجدل ما زال مستمراً حول ما إذا كان هذا المسلسل التلفزيوني هو العمل الأفضل على الاطلاق، أو الأسوأ على الاطلاق خلال عام 2017. «عندما تُنهي عملاً، يريد الناس أن يتكلموا عنه. أنا أظن أن هذا جريمة تقريباً». يشرح قائلاً، «إن فيلماً أو لوحةً فنيةً هي لغة خاصة بحد ذاتها، وليس صواباً أن يحاول أحد التعبير عنها بالكلمات. لا توجد كلمات للتعبير عن ذلك. تتحدث الأفلام والسينما لغتها الخاصة، ولا يمكن لأحد أن ينجح في ترجمة ذلك إلى اللغة الانجليزية. يتناول لينش سيجارة، يشعلها بينما يتفحّص طاولة العمل. ربما يتمنى لو كان بوسعه التعبير عن نفسه بالاسمنت الهلاميّ بدلاً من هذه الكلمات الغامضة والمقتضبة. إن الفيلم السينمائي أو العمل التلفزيون هما بمثابة أعمال من السّحر، يُكمل، «والسحَرَة لا يخبرون أحداً بالطريقة التي صنعوا بها أعمالهم». يكره تصوير «ما وراء الكواليس»، أو تصوير كيفية صنع الأفلام وإضافة المؤثرات الخاصة. «يفعل الناس هذا لرفع مبيعاتهم، للربح المادي. ولكن الفيلم هو الفكرة، لذا تجب حمايته». إذن، ما من توضيح للحلقة الأخيرة من «عودة توين بيكس»، والتي حلّت، بشكل عابر، بعضاً من أحداث القصة، قبل أن تكسرها خالقة منها أحجيات جديدة؟ حتى أشد المعجبين طالبوا بالتوضيح. يتبسم لينش: مستحيل! ولكنه يدحض النظرية التي لا طالما أحبها معجبو «توين بيكس»، بأنه يجب مشاهدة جزئي المسلسل الذي يُعرض في 18 ساعة في ذات الوقت على شاشتين مختلفتين، بسبب تداخل الحوار. «نعم، لقد سمعت عن هذا. إنه هراء. أنظر، من الجميل أن أحداً تكبّد عناء الإتيان بهذه الفرضية، فبإمكانك أن تكشف عن مشاهد متزامنة في أفلام عدة لتخلق شيئاً رائعاً». «لقد سمعتُ عن العديد من النظريات الأخرى في حفل إطلاق «عودة توين بيكس» قبل عام. كان حفلاً جذاباً في وسط لوس أنجلوس، حيث استمتع الحضور بالمشاريب، وارتدوا بدلات رسمية وفساتين السهرة. كان للينش وشريكه في الكتابة، مارك فروست، سيطرة قوية على النصّ وتعديلاته، ما جعل الجمهور يعجز عن توقع أي شيء. لم يعرف أحد شيئاً، حتى الموظفون العاملون في استوديو «شووتايم»، والذين قاموا بتمويل المسلسل بأكمله. ابتسامات حذرة سيطرت على فكرة جماعية: أرجوك يا رب، لا تجعله سيئاً». قدّم لينش يومها خطاباً لا يُنسى عن الأشجار، قبل أن تُرفع الستارة ويتم عرض أول ساعتين، اللتان أعادتا شمل العميل «كوبر»، سيدة الجذع، و»لورا بالمر»، وشخصيات أخرى لم يشاهدها أحد منذ عام 1991. شخصية «ديل كوبر» التي أدّاها «كايل ماكلاكان» كانت لا تزال عالقة في «النزل الأسود» ذو البعد الإضافي، وسط عالم أكثر غرابة. عالمٌ يتم فيه اعتقال مدير المدرسة جرّاء شكوك بأنه قام بذبح مسؤول مكتبة، في وقت تم فيه قتل زوجين شابين بعنف، بواسطة كيان شبحيّ تسلل من صندوق زجاجيّ. كانت هناك أيضاً شجرة متكلمة. عندما انتهى العرض، حلّ صمتٌ تبعه تصفيق مدوّ. كانت الكلمة الأكثر استخداماً من قِبَل أولئك الذين حضروا حفلة ما بعد العرض «مدهش». لم يفهم أحدٌ الحبكة، كما لم يبدُ أن أحداً قد أحبّ الشخصيات، ولكن كل هذا لم يكن مهماً، ف لينش كان عبقرياً. وجدتُ مهرطقاً واحداً، صحفيٌ هولندي، اعترف بأنه شعر بالملل. ذُهل حضورٌ آخرون قائلين: ألم يكن بوسعه أن يلحظ الذكاء؟ كتب الرجل الهولندي نقداً سلبياً، لكن رفاقه المحررين نشروا شيئاً آخر، معلنين علامة فارقة في تاريخ التلفزيون. استمرّ نجاح لينش. بينما تقدّم «عودة توين بيكس»، اعترف الكثيرون حتى المعجبين باستشعارهم شيئاً من المازوخية أثناء المشاهدة. فهناك مشهد يستمر لدقيقتين ونصف، لا يحدث فيه شيء سوى أن رجلاً يكنس الأرض. عندما ينجح كوبر أخيراً بالهرب من «النزل الأسود»، يُبعَثُ عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى الحياة كرجل مبيعات أبله يعمل في شركة تأمين، وهو الشخص البطيء الأحاديّ الأبعاد، والذي يتألم المشاهد عند رؤية مشاهده مع ناعومي واتس، زوجته في العمل. «هذا الحجب للمتعة الذي تجده في «توين بيكس» هو السلاح السّري الجديد، وهو ناجح جداً». هذا ما كتبه ستيورات هيراتيج من الغارديان. لم يتفق معه الآخرون، ف «ذا هوليوود ريبورتر» روّجت لإعادة إطلاق الفيلم على أنه «ممارسة متساهلة، غير هادفة، وبلا معنى، وحنين وُضع في غير مكانه، كما أنه تبجيل لمخرج سينمائي محبوب». عندما سألتُ لينش عما إذا كان يؤلمه هذا النوع من النقد، قال أنه يميل إلى عدم قراءته أصلاً. «النقد الجيد ليس جيداً بدرجة كافية، والنقد السيء يصيبك بالاكتئاب». كما أنه لا يشاهد الكثير من التلفزيون أو أفلام السينما. عندما سألته عمّا يحب مشاهدته، اكتفى بالقول أنه يشاهد برامج الجريمة والسيارات. رفض الإسهاب في هذا الخصوص، فعندما سألته: ما هو فيلمك المفضل للعام الماضي، التزم الصمت، وقطّب حاجبيه فيما كان يفكر ويفكر ويفكر. استمرّ الصمت ثم نفث دخان سيجارته. عندما تفحصتُ تسجيل المقابلة لاحقاً، وجدت 46 ثانية من الصمت. أخيراً قال: «العام الماضي شاهدت فيلم ابني «أوستن» الوثائقي «غراي هاوس»، وأعجبني جداً. لا أعتقد أني شاهدتُ أفلاماً أخرى». لا بد وأنه شاهد البعض. «شيب أوف ووتر»؟ «لا». «دانكريك»؟ «لا». «بلاك بانثر»؟ «لا». هل يتملكه الفضول تجاه أي من هذه الأفلام؟ «في الواقع، لا. لم أكن يوماً مولعاً بمشاهدة الأفلام. أحبّ صُنعها. أحبّ أن أعمل. لا أحب أن أخرج كثيراً». «ولكن، في هذه الأيام، بوسعك مشاهدتها في المنزل». يتململ بحثاً عن إجابة. في كتابه «مساحة للحلم»، يقول لينش أنه كان عصبياً، وأن ذلك قد منح أعماله شيئاً من الحدّة. دأبَ بعد ذلك على ممارسة التأمل التجاوزي، والذي خلّصه من غضبه وأكسبه درجة أعلى من التركيز. تحول إلى هذا النوع من التأمل منذ أن أهدى كتابه للزعيم الهندي الروحاني الراحل «مهاريشي ماهش يوغي»، بالإضافة إلى «العائلة حول العالم». لاحظ المشككون: ربما يكون هذا الرجل الذي يُسرف في تناول الكافيين، والذي يدخن علبة كاملة من السجائر كل يوم، هو الرجل الأقل عصبيةً في هوليوود. يؤمن لينش بتناسخ الأرواح، والذي يحفظ له هدوءه عندما يفكر بالشيخوخة، وخسارة الأصدقاء والزملاء، بمن فيهم صُنّاع «عودة توين بيكس»: «هاري دين ستانتون»، «ميغيل فيرر»، و»كاثرين كولسون» أو «سيدة الجذع»، والذين ماتوا جميعاً بعد انتهاء التصوير. «الحياة رحلة قصيرة، لكنها دائماً مستمرة». يقول لينش وهو يتخلص من رماد سيجارته. «سنلتقي مرة أخرى. في النور تدرك ماهيتك الحقيقية، وتصل إلى الخلود. لن يكون عليك أن تموت بعد ذلك». في هذه الأثناء، ينشط لينش سياسياً. فقد صوّت للمرشح «بيرني ساندرز» في الانتخابات الحزبية الديمقراطية عام 2016، ويعتقد غير جازم بأنه صوّت للحزب الليبرتاريّ في الانتخابات الرئاسية. «لستُ شخصاً سياسياً، لكنني أحبّ أن أمتلك الحرية فيما أفعل». يقول المدخن الكاليفورنيّ المضطهد. يبدو متردداً فيما يخصّ «دونالد ترامب»، فيقول: «بوسعه أن يدخل التاريخ كواحد من أعظم الرؤساء، فقد حرّك الكثير من المياه الراكدة. ليس بوسع أحد أن ينافسه بذكاء». يعتقد لينش أن ترامب لا يقوم بعمل جيد، ولكنه يفتح فضاءات قد تمكن غيره من القيام بالكثير. «لا يمكن لمن يُوصفون بأنهم قادتنا المضيّ بنا إلى الأمام، لا يمكنهم القيام بأي شيء. فهم كالأطفال. أظهر ترامب كل هذا». لا يحتوي كتاب «مساحة للحلم» على أسرار مفصلية، ولا مفاتيح لفك ألغاز لينش، رغم أنه يقدم الكثير من المفاتيح لفهم طفولته. فلقد نشأ طفلاً سعيداً محباً لعائلته الممتدة، وكان بوسعه الحصول على الأصدقاء بسرعة. كانوا يركبون الدراجات الهوائية، يتسلقون الجبال، ويشرعون ببناء قلاع في باحات المنزل الخلفية. كانت والدته، مدرّسة اللغة الانجليزية، ترفض اعطاءه دفاتر التلوين حتى لا تحدّ من خياله. ومع والده، العالم والباحث الزراعي، فحص لينش الآفات الزراعية والأشجار التي تموت، كما كانوا يصطادون الغزلان فيسلخونها ويأكلونها. يتذكر لينش بدقة الذباب الذي تجمّع فوق حيوان نيص أطلقوا النار عليه. هنالك مشهد صادم آخر من طفولته. فكتب لينش أنه التقى في إحدى الليالي امرأة جميلة عارية تمشي في الشارع، كانت تبدو عليها آثار الضرب، وكانت تشعر بالهلع. «كان مشهداً لا يصدّق. بدا لي أن جلدها كان بلون الحليب، وكان فمها دامياً. كان صغيراً جداً أو مذهولاً جداً لدرجة أنه لم يحاول معرفة هويتها قبل أن تختفي. بعد دراسة الفن، كافح لينش ليصنع Eraserhead، والذي يعتقد كثيرون أنه جاء كرد فعل على ولادة طفلته الأولى «جنيفر»، والتي عانت من عيب خَلقي في قدمها. ما زال السينمائيون يتجادلون عن المُكوّن الذي صُنع منه الطفل في الفيلم: أرنب ذا جلد، أو جَنين حَمل؟ عندما سألتُ لينش عن ذلك، تخلّص من السؤال قائلاً: «لا أتحدث عن الطفل». بسبب Eraserhead، حصل لينش على فرصة إخراج The Elephant Man. حيث باءت بالفشل محاولته لصنع ووضع ماكياج الوجه لشخصية «جون هيرت»، ما أجبره على الاستعانة بخبير، وهو ما أثار فيه نزعة استثنائية من لوم الذات. «اعتقدتُ أنه من الأفضل أن أقتل نفسي. لم يكن بوسعي تحمّل وجودي داخل جسدي»، كتب لينش. ما لبث أن تعافى من تلك الحالة حتى اصطدم بخلاف مع النجم الثاني في الفيلم «انثوني هوبكنز»، والذي لم يتمكن من رؤية عمق الأمريكي الشاب، وحاول التسبب في طرده من العمل. يتذكر «ميل بروكس»، منتج الفيلم، مكالمة غاضبة من هوبكنز، الذي لم يدعُ إلى طرد لينش صراحة. بكل الأحوال، فقد دافع بروكس عن مخرجه، وقاد الفيلم إلى ثمانية ترشيحات للأوسكار عام 1980. يخبر بروكس المؤلف المساعد للينش: «لا زلت معجباً بأعمال لينش. إنه قلق ومرتبك بالكامل بالطبع، ولكنه يصبّ اضطراباته العاطفية والجنسية على أعماله، فيهاجمنا بالمشاعر التي تتم مهاجمته بها». واحدة من أعظم الألغاز عن لينش هي علاقته بالنساء. فهو دائماً ما يكتبُ عن بطلات قويّات، وقد عمل لسنوات طويلة مع نفس الممثلات، «ناعومي واتس، لورا ديرن، وشيريل بي»، لكن العنف المتكرر على الشاشة أدى إلى اتهام البعض للينش بكراهية النساء. بعيداً عن الشاشة، يبدو لينش قاسياً فيما يتعلق بنهايات علاقاته. في كتابه «مساحة للحلم»، تروي «ايزابيلا روزيليني» أن لينش ضَحكَ أثناء تصوير مشهد اغتصابها من قِبل «دينيس هوبر» في فيلم Blue Velvet، «ولا زلت أجهل السبب حتى الآن». كانت العلاقة التي جمعت «روزيليني» بلينش سبب انتهاء زواجه من «ماري فيسك»، التي تخبر بدورها «ماكينا» كيف أن قلبها تحطّم آنذاك، حيث كانت تسير في الشارع كإنسان تائه ينزف من كل مكان في جسده»، إلا أنها تقول أنها سامحت لينش بعد ذلك. جاء الدور على «روزيليني» بعد أربع سنوات، عندما كان لينش يقوم باخراج Wild At Heart. «لينش إنسان لطيف على نحو مذهل، لكنه أبعدني عن حياته تماماً. لم أكن أتوقع حدوث ذلك». بقلب محطّم تساءلت حينها إذا ما كان لذلك علاقة بعدم رغبتها في التأمل، قبل أن تكتشف أنه كان قد وقع في غرام محررته «ماري سويني»، والتي أصبحت فيما بعد زوجته الثالثة. ولم يستمرّ زواجهما أكثر من بضعة أشهر. يبدو جليّاً عبر الكتاب وما فيه من قصص يخبرها بنفسه، أن شغف لينش الثابت هو عمله. أثناء حمل زوجته الحالية «ايميلي ستوفلي»، الممثلة التي ظهرت في Inland Empire و Twin Peaks: The Return، حذرها بأن فيلمه سيكون الأوْلى بالاهتمام. عندما وُلدت ابنته، كان لينش في السادسة والستين من عمره، فيما كانت زوجته في الخامسة والثلاثين. «بعد أن أنجبتُ لولا، اختفى انشغالاً بعمله. هذا ما يفعله، فعمله هو مصدر سعادته»، تخبر زوجتُه «ماكينا». سألت لينش عن كيفية اكتسابه إخلاصاً كهذا من العاملين معه، أصدقاءه، وحتى زوجاته وحبيباته السابقات، رغم تقنينه لتواصله الإنساني. رمى سيجارته على الأرض، وأطفأها بحذائه قبل أن يجيبني: «أحبّ تواجد الناس حولي. لو كنتُ وحيداً تماماً لشعرتُ بغرابة ما، ولا أتحدث عن غرابة هزلية». لكن لينش يعترف أنه كثيراً ما يغيب عن عائلته، كأب وزوج: «عليكَ أن تكون أنانياً. إنه أمر فظيع. لم أرغب يوماً بالزواج. لم أرغب يوماً بأن يكون لديّ أطفال. شيء يؤدي إلى شيء آخر، وهذا ما وصلت اليه». يبدو في كلامه شيئاً من الندم، حتى يسهبُ في الشرح: «قمتُ بما كان عليّ القيام به. كان بوسعي القيام بأعمال أكثر بكثير. هناك دائماً ما يقاطعك». نُشر الحوار بتاريخ 23 يونيو 2018 في الغارديان