الميثاق الذي جمع الحركة الوطنية والملك محمد الخامس كان يهدف إلى استرجاع المغرب لحريته واستقلاله وبناء دولة وطنية ديمقراطية. التحدي الثاني بالنسبة للوطنيين هو إيجاد صيغ جديدة لتنظيم الكفاح ضد الاستعمار. الفرنسيون والإسبان نزعوا السلاح من يد المغاربة وحاولوا ترسيخ الانقسام القبلي والعرقي والخلاف بين الحاضرة والبادية، لكن عبقرية الوطنيين كانت بخلق صيغ جديدة للنضال بشكل عصري مستوحى من تجارب أخرى في الشرق واليابان وأوربا، وحملت النخبة راية السلفية المتنورة وهي الدعوة للرجوع إلى المنابع الأصلية للدين من جهة والنهضة السياسية لإصلاح الأمة وبناء المؤسسات من جهة أخرى.كما اهتدت إلى ضرورة تأطير المغاربة في بناء جديد هو الحركة الوطنية بتنظيماتها السياسية والنقابية ونواديها الأدبية والمسرحية والرياضية، وهو ما سهل اندماج المغاربة، على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية وانتمائهم القبلي، في وحدة وطنية، وحدة تخرج المغرب من الموروث المتخلف إلى مستوى رفيع من الاندماج بين ساكنة الحواضر والبوادي. وللنهوض بهذه الحركة الوطنية عملت النخبة على بناء قاعدة المدارس الحرة للتعليم تربط المغربي بهويته ووطنه وتزوده بالمعرفة التي يسمح بها القرن العشرون. التنظيم السياسي الحديث دخل بالتدرج في العمل النضالي وتمت المطالبة بالإصلاحات في إطار الحماية لإحراج المستعمر وإظهار أنه لم يف بتعهداته، حيث إنه، حسب عقد الحماية، كان على الدولة الحامية أن تسير بالمغرب إلى الإصلاحات، إصلاح المجتمع وإصلاح الدولة وإصلاح المؤسسات. وهذا ما لم يفعله، بل على العكس نهج صيغة الإدارة المباشرة التي حمت مصالح المعمرين وقمعت المواطنين. العمل الوطني بالتدرج انطلق بكتلة العمل الوطني 1934 والمطالب المستعجلة ثم تأسيس الحزب الوطني والحركة القومية في منطقة الحماية الفرنسية وحزب الإصلاح وحزب الوحدة المغربية بمنطقة الحماية الإسبانية 1937، واستفاد الوطنيون من الوضع العالمي الذي نشأ عن الحرب العالمية الثانية والصراع ضد النازية. انخرط الوطنيون في هذا التطور للوضع العالمي الجديد. وأكد لهم ذلك انعقاد مؤتمر أنفا على أرض المغرب بحضور الرئيس الأمريكي روزفلت والوزير الأول البريطاني تشرشل والملك محمد الخامس. وفتحت مساهمة الجنود المغاربة في تحرير أوربا وفرنسا الباب أمام المغرب لتقرير مصيره. وفي هذه الظروف تم تكوين حزب الاستقلال من أعضاء الحزب الوطني وعدد من الشخصيات المستقلة لتقديم عريضة المطالبة بالاستقلال يوم 11 يناير 1944، وتحولت الحركة القومية إلى حزب الشورى والاستقلال. لقد أصبح المطلب الأساسي هو الاستقلال في جهة عريضة تجمع الشعب المغربي وملك البلاد. بعد نفي محمد الخامس وعائلته سنة 1953 سيدخل المستعمر في أزمة كبيرة مع انطلاق المقاومة المسلحة في المدن وقيام جيش التحرير في المناطق الجبلية، وبعد حوار بين الأحزاب الوطنية والمستعمر قبلت فرنسا رجوع محمد الخامس إلى عرشه وتم الاتفاق بين ممثل السيادة الوطنية والحكومة الفرنسية على إنهاء الحماية واستقلال المغرب، وقد شكلت ثورة الملك والشعب ليوم 20 غشت 1953 الأرضية الصلبة للميثاق الذي يجمع الحركة الوطنية بالملك محمد الخامس من أجل الاستقلال وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية. بعد الاستقلال سنة 1956 اتجه محمد الخامس إلى احترام ذلك الميثاق بتأسيس المجلس الوطني الاستشاري الذي ترأسه المهدي بن بركة والذي رغم أن أعضاءه معينون، إلا أنه شكل النواة الأولى للعمل البرلماني، لكن البلاد عرفت صراعا قويا بين الحركة الوطنية التي طالبت بانتخاب مجلس تأسيسي لصياغة الدستور وولي العهد مولاي الحسن الذي كانت له رؤية أخرى لتنظيم الحكم الجديد، وهذا التنظيم الجديد كان يجمع فيه بين دولة المخزن التي انهارت سنة 1912 والسلطة المطلقة للمقيم العام الفرنسي أيام الحماية والتي لم تكن تخضع لأي مراقبة ديمقراطية. وبعد صعوده العرش مكان والده محمد الخامس أكد الحسن الثاني هذا التوجه بصياغته الشخصية لدستور 1962 وعرضه على الاستفتاء. لكن السؤال المطروح عند الاستقلال سنة 1956 يعني الوحدة الترابية، فماهي المناطق التي ستنعم بهذا الاستقلال؟ كان المغرب أطرافا متعددة، هناك منطقة الحماية الفرنسية وهناك منطقة الحماية الإسبانية وهناك طنجة الدولية، ومنطقة سيدي افني وطرفاية والساقية الحمراء ووادي الذهب والصحراء الشرقية. كان استقلال منطقة الحماية الفرنسية هو الأول في 2 مارس 1956 وفي أبريل 1956 كانت نهاية الحماية الإسبانية عن المنطقة الإسبانية في الشمال. ثم بدأت بعد ذلك مفاوضات مع الدول التي كانت تسهر على تدبير منطقة طنجة دوليا ورجوعها إلى الوطن سنة 1958 ومفاوضات مع الإسبان في نفس السنة لاسترجاع طرفاية، أما الصحراء الشرقية فكان فيه إشكال، ذلك أنه عند استقلال المغرب كان الفرنسيون مستعدين للمفاوضات مع الحكومة المغربية على تسطير حدود المغرب الشرقية. آنذاك قال محمد الخامس، رحمه الله، وأغلبية أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال إن المغرب لا يمكن أن يطعن الثورة الجزائرية وهي تخوض نضالها المشروع من أجل استقلال الجزائر. لابد إذن من الانتظار حتى تستقل الجزائر لإجراء مفاوضات من أجل ايجاد حل للمشكلة. وحده الحاج أحمد بلافريج كان له رأي معاكس. كان يدافع عن رأيه القائل إن الأراضي التي انتزعها الاستعمار من المغرب يجب أن يتفاوض المغرب حولها مع المستعمر، لأن المفاوضات مع الحكومة الجزائرية في المستقبل ستكون أصعب، وحسب اتفاق مع رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة فرحات عباس سنة 1961 التزم قادة الثورة الجزائرية أنه لما تستقل البلاد ستشرع في المفاوضات مع المغرب لتحديد حدوده الشرقية، لكن مع الأسف لما استقلت الجزائر تنكر بن بلة رئيس الجمهورية وبعده بومدين لالتزام فرحات عباس واعتبروا أن المناطق التي تم فيها الاستفتاء لتقرير المصير هي مناطق جزائرية وأنها تحررت على يد الثورة الجزائرية، بل حاولوا الهجوم على مناطق لم يكن متنازع عليها. وقع الهجوم على حسي بيضة وتندوف. لكن القوات المسلحة الملكية المغربية صدتهم بل أوقعت هزيمة كبرى بهم تعرف بحرب الرمال. ولم يوقف زحف القوات المسلحة الملكية إلى تندوف إلا الرئيس الفرنسي الذي ضغط على الملك الحسن الثاني لمنع أي تقدم نحو تندوف، ولو استمر زحف القوات المسلحة الملكية لاسترجع المغرب المدينة سنة 1962. (*) عرض قدم يوم الذكرى 71 لتقديم عريضة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944 والذي أقامته جمعية رباط الفتح.