كل اللحظات الكبرى في تاريخ البشرية خلقتها ثورات، لكنْ لم تتمخض عن كل الثورات لحظاتٌ كبرى.. وأغلب الثورات بدأت بشرارة أوقدها أناس بعضهم لا يعرفون معنى الثورة.. لكنْ لم تكنْ كل الثورات عفوية، إذ منها ما كان حصيلة تأطير وتخطيط ويستند إلى نظرية.. إنها ثورات أفراد ضد جماعات وثورات جماعات ضد مجتمعات وثورات مجتمعات ضد أقليات، مستضعَفين ضد طغاة... حدث هذا منذ غابر الأزمان وما يزال يتكرر اليوم في أزمنة وأمكنة غير متشابهة وتكاد تكون متناقضة، منها ما كان فاتحة تاريخ جديد، حيث ما بعدها قطيعةٌ مع ما قبلها، ومنها ما كان وظل خارج منطق التاريخ، مر كوقع الزر على الرمل لم يترك صدى، ومنها ما كان دمويا وعنيفا وقاسيا، ومنها أيضا ما كان سلسا وسلميا وهادئا، فمن «ثورة العبيد» على الإمبراطورية الرومانية، بزعامة سبارتاكيس، في القرن الأول قبل الميلاد، و«ثورة الزنوج» على خلفاء بني العباس، مرورا ب«ثورات الأحرار» في عصر الأنوار، وصولا إلى «الثورات الرقمية»، المعاصرة، التي «يكتبها» الشباب العربي اليوم، تتعدد أساليب الثورة والمنطق واحد: الرغبة في إرساء واقع جديد، الرغبة في التحرر والانعتاق... ارتأينا أن نختم سلسلة «الثورات العالمية» بالحديث عن المغرب، والمغرب الذي يسكننا ليس هو المغرب الذي نسكنه، المغرب الذي نسكنه هو «الأجمل في العالم»، كما تقول دعاية وزارة السياحة، لكن المغرب الذي يسكننا هو فكرة، فكرة أجمل وأقوى، لأنها تستطيع أن توحد في الأيام الصعبة إرادتين: إرادة ملك لشعب وشعب لملك. إرادتان تستطيعان أن تشكلا قمرا واحدا ينير سماء أرض الأولياء، لتخلق ثورات مسترسلة، ثورة لتحرير الأرض، وبعدها، ثورة لتحرير الشعب، الذي جعل هذه الأرض تستحق الحياة... كان المغرب، دوما، محط أطماع أجنبية عبر التاريخ، حتى قبل توقيع معاهدة الحماية في 1912، التي استمرت بعدها مواجهة الاستعمار، رغم تباين الإمكانيات بين الجانبين. وقد بدأت المرحلة الأولى من الثورة المغربية المسلحة من 1912 إلى 1934، تلتها فترة المقاومة السياسية، التي تَركّز عملها على المطالبة بالإصلاحات في ما بين الحربين، ثم المطالبة بالاستقلال انطلاقا من سنة 1944، لكن رفض فرنسا المطالب المغربية ونفي محمد الخامس في 1953 دفعا المغاربة إلى مرحلة ثانية من الثورة المسلحة السرية، حتى تم تحقيق الاستقلال في 1956 . تميزت المرحلة الأولى من المقاومة المسلحة بالمقاومة في الجنوب والأطلس المتوسط والريف، بعد توقيع مولاي عبد الحفيظ على معاهدة الحماية في 30 مارس 1912، استمرت المواجهة الشعبية للاستعمار. ولتهدئة الأوضاع. عزلت فرنسا السلطان في 13 غشت وسارعت إلى تعيين أخيه مولاي يوسف في اليوم التالي، قبل وصول أحمد الهيبة إلى مراكش (وصلها في 18 غشت). وقامت فرنسا، في نفس السنة، بتحديد مناطق النفوذ مع إسبانيا. واستعمل المستعمرون الإسبان والفرنسيون أحدث الوسائل العسكرية لاحتلال المغرب. وجنّدوا أبناء المستعمرات، إضافة إلى الاعتماد على القياد الكبار المرتبطين بالاستعمار، للتوغل في البلاد. ورغم ذلك، واجه المستعمر مقاومة شديدة في الجنوب وفي الأطلس المتوسط وفي الريف. أما عمل الحركة الوطنية في المغرب في ما بين الحربين على التنظيم السياسي والمطالبة بالإصلاحات فقاد فيه الحركةَ الوطنية شباب ينتمون، في معظمهم، إلى العائلات المتوسطة في المدن، تلقوا ثقافتهم إما على يد رواد السلفية في المغرب أو في المدارس العصرية، التي أحدثتها الإقامة العامة، وكذلك بفي الخارج. واستفاد هؤلاء الشباب من تجربة المقاومة المسلحة وتبنوا فكرة القومية العربية، التي دعا إليها شكيب أرسلان. وشكل المغاربة المضطهَدون من طرف الاستعمار القاعدة التي ارتكزت عليها الحركة الوطنية. وأمام الوعي الثقافي والتأزم الاقتصادي، أصدرت سلطات الحماية «الظهير البربري» في 16 ماي 1930، فقامت انتفاضة شعبية تطالب بإلغائه، فكان ذلك الحدث بداية للتنظيم السياسي وللعمل الوطني. وتأسست الجرائد، مثل «المغرب الكبير» في باريس سنة 1932، وجريدة «عمل الشعب» في فاس (1933)، اللتين صدرتا بالفرنسية، لأن سلطات الحماية منعت إصدار الجرائد بالعربية. وبدأ الاحتفال بعيد العرش في 18 نونبر 1933، لتوطيد الاتصال بين السلطان والحركة الوطنية. في سنة 1934، كون قادة الحركة الوطنية أول تنظيم سياسي باسم «كتلة العمل الوطني» وطالبوا إدارة الحماية بتطبيق الإصلاحات التي نصّت عليها معاهدة الحماية وقدموا برنامجا تحت اسم «مطالب الشعب المغربي»، ينص على إحداث حكومة مغربية تساعدها أجهزة منتخَبة وعلى أن تقوم الحماية بدور المساعد والمراقب فقط. وبعد رفض هذه المطالب، قدّمت الكتلة مطالب أخرى تحت اس « المطالب المستعجَلة للشعب المغربي». واحتد الصراع بين قادة الحركة الوطنية والإقامة العامة، التي اعتقلت عددا منهم ومنعت الأحزاب والجرائد. وفي 1937، انقسمت كتلة العمل الوطني وتأسست الحركة القومية، برئاسة محمد بن الحسن الوزاني، والحركة الوطنية لتحقيق الإصلاحات، بزعامة علال الفاسي، والتي سميت، في ما بعد «الحزب الوطني». وفي منطقة النفوذ الإسباني، أسس عبد الخالق الطريس حزب الإصلاح الوطني وأسس المكي الناصري حزب الوحدة المغربية. واقتصرت برامج هذه التنظيمات السياسية في ما بين الحربين على المطالبة بالإصلاحات والمعارضة السياسية للاستعمار. استفادت الحركة الوطنية من الظروف الدولية الجديدة، كهزيمة فرنسا أمام النازية ونزول قوات الحلفاء في المغرب في 1942 ومؤتمر الدارالبيضاء (مؤتمر أنفا) سنة 1943 بين محمد الخامس وروزفلت وتشرشيل. وتكرّست المطالبة بالاستقلال في تقديم «وثيقة المطالبة بالاستقلال» في 11 يناير 1944 من طرف قادة الحركة الوطنية إلى الإقامة العامة. وقد أثار هذا الحدث الحماس الوطني، فقامت سلطات الحماية باضطهاد السكان وباعتقال بعض زعماء الأحزاب الوطنية، التي اتخذت أسماء جديدة، مثل الحزب الوطني، الذي أصبح يحمل اسم «حزب الاستقلال» منذ 1944، وحزب «الشورى والاستقلال»، الذي أسسه في 1946 أعضاء الحركة القومية، و«الحزب الشيوعي»، الذي نادى بالكفاح المسلح وحق تقرير المصير. كما ناضل العمال المغاربة في إطار «الاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب» وقاموا بعدة إضرابات، أشهرها إضراب عمال الفوسفاط في مناجم خريبكة سنة 1948. أسس محمد بن عبد الكريم الخطابي «لجنة تحرير المغرب العربي في مصر بتنسيق مع قادة الحركات الوطنية في المغرب العربي. وتجلى نضال السلطان محمد الخامس، الذي يمثل القيادة العليا للحركة الوطنية في مطالبته الحكومة الفرنسية بوضع حد لنظام الحماية، خلال رحلته إلى فرنسا سنة 1945 وفي رحلته إلى طنجة سنة 1947، حيث شدد، في خطابه، على وحدة المغرب الترابية تحت سلطة ملكه الشرعية وعلى أن مستقبل المغرب مرتبط بالإسلام وبالجامعة العربية، التي تأسست في 1945. وفي سنة 1950، قدم السلطان مذكرة إلى فرنسا، تهدف إلى تجاوز مشكلة الإصلاحات لتحقيق الاستقلال. بعد فشل الإقامة العامة في فك الارتباط الحاصل بين السلطان والتنظيمات السياسية، استغلت في سنة 1952 فرصة قيام مظاهرات في المدن المغربية، احتجاجا على اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، لتقوم باعتقال الزعماء السياسيين وبمنع الأحزاب والصحف. أطلقت النار على المتظاهرين، حيث قتل في الدارالبيضاء وحدها حوالي 16 ألف مغربي. وعملت فرنسا، بمساعدة القياد الكبار وزعماء الطرق الدينية (الكلاوي وعبد الحي الكتاني) على عزل السلطان محمد بن يوسف وتعيين أحد أفراد أسرته محمد بن عرفة. وفي 20 غشت 1953، ليلة عيد الأضحى، تم نفي محمد الخامس وأسرته إلى جزيرة «كورسيكا» ثم إلى جزيرة «مدغشقر». لكن المغاربة لم يعترفوا بالسلطان الجديد. وبدأت المرحلة الثانية من المقامة المسلحة السرية وتشكلت النواة الأولى لجيش التحرير. وقد استهدف المقاومون بن عرفة بالاغتيال (مرتين). كما حاولوا اغتيال الباشا الكلاوي، إضافة إلى تخريب المنشآت الاستعمارية. وحصل المغرب على تأييد الجامعة العربية وحركة دول عدم الانحياز لرفع قضيته إلى الأممالمتحدة، مما دفع السلطات الفرنسية إلى التفاوض مع السلطان وقادة الحركة الوطنية في مدينة إيكس ليبان... انتهت المفاوضات بعودة السلطان محمد الخامس إلى المغرب في 1955 وتوقيع اتفاقية الاستقلال في 2 مارس 1956 مع فرنسا، ثم اتفاقية في أبريل مع إسبانيا. وفي أكتوبر، انتهى الوضع الدولي في مدينة طنجة. ولتحقيق الوحدة الترابية، استرجع المغرب إقليم طرفاية سنة 1958 ومنطقة سيدي إفني سنة 1969 وإقليمي الساقية الحمراء ووادي الذهب في 1975، عقب تنظيم المسيرة الخضراء. وبقيت سبتة ومليلية والجزر الجعفرية في يد الإسبان. هكذا مر نصف قرن على الثورة الأولى. والمغرب، اليوم، وبتكاثف الإرادتين معا، ينجز ثورة ثانية في عمر نظامنا السياسي الجديد، فما تحقق على جميع المستويات ضخم ولا ينكره إلا تجار اليأس، المنتفعون بيأس الغوغاء والجياع، لكن ما ينتظرنا أكبر من أن نحققه بالوتيرة الحالية، خصوصا أمام التفاوت المسجَّل اليوم على نحو واضح، إن لم نقل صارخ بين وتيرة الإصلاحات التي يدشنها الملك كل حين، والوتيرة التي تستجيب بها طبقتنا السياسية، ذات النفَس السياسي الموسمي.. أملنا أكبر في الآتي أن تتلو كل هذه الأوراش الكبرى المفتوحة اقتصاديا واجتماعيا وتربويا، خطوات شجاعة في اتجاه تعزيز ديمقراطية نظامنا السياسي، بعيدا عن كل أشكال الانتهاك التي يخلفها هواة التأويل ومحترفوه من القضاة والساسة، فحيث يعم الالتباس، تنتعش تجارة هؤلاء ويبدؤون رقصهم المجنون على أعتاب المقدسات.. مقدساتنا جميعا.