كل اللحظات الكبرى في تاريخ البشرية خلقتها ثورات، لكنْ لم تتمخض عن كل الثورات لحظاتٌ كبرى.. وأغلب الثورات بدأت بشرارة أوقدها أناس بعضهم لا يعرفون معنى الثورة.. لكنْ لم تكنْ كل الثورات عفوية، إذ منها ما كان حصيلة تأطير وتخطيط ويستند إلى نظرية.. إنها ثورات أفراد ضد جماعات وثورات جماعات ضد مجتمعات وثورات مجتمعات ضد أقليات، مستضعَفين ضد طغاة... حدث هذا منذ غابر الأزمان وما يزال يتكرر اليوم في أزمنة وأمكنة غير متشابهة وتكاد تكون متناقضة، منها ما كان فاتحة تاريخ جديد، حيث ما بعدها قطيعةٌ مع ما قبلها، ومنها ما كان وظل خارج منطق التاريخ، مر كوقع الزر على الرمل لم يترك صدى، ومنها ما كان دمويا وعنيفا وقاسيا، ومنها أيضا ما كان سلسا وسلميا وهادئا، فمن «ثورة العبيد» على الإمبراطورية الرومانية، بزعامة سبارتاكيس، في القرن الأول قبل الميلاد، و«ثورة الزنوج» على خلفاء بني العباس، مرورا ب«ثورات الأحرار» في عصر الأنوار، وصولا إلى «الثورات الرقمية»، المعاصرة، التي «يكتبها» الشباب العربي اليوم، تتعدد أساليب الثورة والمنطق واحد: الرغبة في إرساء واقع جديد، الرغبة في التحرر والانعتاق... لم تكن أحداث انتفاضة ماي 1968 في فرنسا مجرد مرحلة تاريخية عابرة علا فيها صوت الشباب الثوار ضد القيود التي تكبلهم فحطموها، بل كانت محطة مهمة وثورة غيّرت وجه البلد تماما وما تزال آثارها وتداعياتها ممتدة إلى اليوم، والدليل ما صرح به الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في بداية عهده عندما قال إن من أهدافه القضاء على ميراث حركة ماي 1968، لأنه -ككل اليمين في فرنسا- يعتبر أن تلك الحركة شكلت تهديدا للسلطة وشوهت المعايير السلوكية لدى المواطنين ودفعتهم إلى الاستخفاف بقيمة العمل في الوقت الذي يرى خصومهم أنها النقطة التي سمحت بالتأسيس لفرنسا جديدة عنوانها الحرية والعدالة الاجتماعية. تفجرت أحداث ماي 1968 كنتيجة لتراكمات فرضتها ظروف محلية ودولية مهمة على المستويين السياسي والاقتصادي منذ بداية الستينيات، فعلى المستوى السياسي، كانت حالة من الحنق الشعبي تسود البلاد، بسبب تقييد الحريات من قِبَل نظام الجنرال ديغول والتضييق على المفكرين وأهل الأدب والسياسة بحجة الأمن وحماية الجمهورية ومبادئها، وكان الشرخ كبيرا في النظرة إلى الجندية ووضع المستعمرات الفرنسية في الخارج، خاصة الأوضاع في الجزائر وما شهدته من مجازر قبل منحها استقلالها عام 1962 وعودة مليوني فرنسي كانوا يعيشون فيها. فلم تتمكن الدولة ولا أجهزتها من إسكات المفكرين أو الصحافة رغم الضغوط وعمليات المنع التي واجهت الكثير من المؤلفات والمسرحيات. وحرص المفكرون على إصدار بيانات ونداءات أشهرها البيان 121 المناهض للمشاركة في الحروب، والذي يُحرّض على عصيان الدولة وعدم الذهاب إلى الجندية، وقد صاغ هذا البيان موريس بلانشو ووقعه أعلام كثر، كان من بينهم جان بول سارتر. كان الحزب الشيوعي الفرنسي، كما في أغلب الدول في تلك الحقبة، تحت سيطرة «الستالينية» في زمن كانت الشيوعية تشهد انقسامات عديدة، ومن أبرز العوامل المؤثرة فيها الخلاف الصيني السوفيتي المستمر وخلاف الستالينيين والتروتسكيين المتجذر، وتحولت مؤسساته، خاصة تلك التابعة للحزب الشيوعي، إلى مؤسسات تقليدية «تُهادن» السلطة وتطالب بالحد الأدنى من انقلاب ضمني على مبادئ الثورة الماركسية اللينينية التي تؤكد على حتمية المواجهة، البروليتاريا ضد البورجوازية. وانطلاقا من هذا الواقع، كانت المؤسسات النقابية والاتحادات التابعة للشيوعيين تسير على النهج نفسه. وعلى المستوى الاقتصادي، شكل عام 1968 نقطة تحول في مسار الاقتصاد الفرنسي، الذي انتقل من مرحلة النمو إلى مرحلة ركود بدأت تلقي بظلالها على العمال وعلى مستوى المعيشة وعلى معدلات البطالة. لكن المفاجأة كانت أن التمرد لم ينطلق في صفوف العمال بل من قِبَل الطلاب، وبدأ على أساس المطالبة بالحريات، وخاصة شعاري «منع الممنوع» و «لا تعطني حريتي سأتولى الأمر بنفسي»! ثم رفع الشعارات الاقتصادية لاحقا. يعتبر عام 1968 فهذا العام منعطفا في تاريخ الغرب والعالم، ففيه تم اغتيال مارتن لوثر كنغ وروبيرت كندي، وفيه حصل تمرد تشيكوسلوفاكيا على الهيمنة السوفييتية ووقع ربيع براغ، وفيه ظهرت حركات تحرر المرأة في الغرب وبداية نهاية الاتحاد السوفييتي، وفيه ظهر ياسر عرفات على مسرح التاريخ بصفته قائدا للحركة الوطنية الفلسطينية وفيه اهتز النظام الديغولي وكاد أن يسقط بعد الثورة العمالية والطلابية الشهيرة. نقول ذلك ونحن نعلم أن ثورة ماي 1968 غيّرت حياة المجتمع الفرنسي في العمق من جميع النواحي النفسية، الثقافية، الجنسية، التحررية، السياسية والفلسفية. والواقع أن رياح الثورة كانت تهب منذ فترة على عواصم الغرب وجامعات من روما، إلى برلين، إلى لندن، إلى مدريد... ولكن هذه الثورة بلغت ذروتها في باريس حتى اضطرت الجنرال ديغول إلى الرحيل عن فرنسا مؤقتا، بعد أن عجز عن إيقاف التمرد. ثم يردف المؤلف قائلا: «وكانت ثورة ماي 1968، في الأصل، ثورة ضد المجتمع وتقاليده العتيقة الموروثة عن القرن ال19، كانت ثورة ضد الهيبة الأبوية داخل العائلة، وضد هيبة أرباب العمل في الصانع، أو الأساتذة في المدارس.. إلخ. والواقع أن الأنظمة التربوية في كل البلدان المتطورة كانت تبدو عاجزة عن مواجهة مَطالب كل هذا العدد الهائل من الطلبة الذين يتدفقون على المدارس والجامعات، وبرامج السوربون نفسها تتغير منذ نصف قرن. ثم انتقل الطلبة من نقد الجامعة ومناهجها وبرامجها إلى نقد المجتمع كله. وبما أن السلطة كانت عاجزة عن إصلاح المجتمع، فإنه لم يعد أمام الطلاب إلا الثورة عليها من أجل تغييرها، وبالطبع فقد كانوا يحلمون بوصول اليسار إلى السلطة، وخاصة اليسار المتطرف على طريقة ماوتسي تونغ أو هوشي مني أو تشي غيفارا أو جماعة تروتسكي.. إلخ. وقد عبّر كل ذلك عن نزعة طفولية لدى الشبيبة الفرنسية، وهي نزعة مراهقة من الناحية السياسية ولكنها مليئة بالبراءة وحب الحرية، وطرحوا عندئذ شعار رامبو الشهير «ينبغي تغيير الحياة. هذه الحياة الرتيبة، التقليدية لم تعد تناسبنا. نريد شيئا آخر غيرها». يقول هنري ويبر، أستاذ العلوم السياسية، عن ماي 1968 ما يلي: الشيء الذي كان يجذب الطلاب إلى الماركسية، آنذاك، هو البعد التبشيري أو التغييري الذي تتمتع به، كانوا يعتقدون أن المجتمع فاسد كليا وغير قابل للإصلاح، وبالتالي فلا بد من تدميره من أجل تشكيل مجتمع آخر جديد. وتدمير المجتمع لا يمكن أن يتم إلا عن طريق الثورة العارمة، ولذلك انخرطوا في ثورة ماي 1968، التي كانوا يعتقدون أنها سوف «تكنس» كل الأنظمة اليمينية في أوربا، وكان الحقد على اليمين الفرنسي الحاكم كبيرا، وكان ديغول قد شاخ وقارب الثمانين، وبالتالي فقد ملّوا منه رغم عظمته التاريخية. واعتقد زعماء الحركة الطلابية أن النقابات العمالية هي التي ستقوم بالثورة طبقا لنبوءة وتوقعات كارل ماركس، فهي أداة التغيير حسب المنظور الماركسي. وبالطبع، فإن الولاياتالمتحدة كانت هدف كل الاعتراضات والاحتجاجات. أليست هي رأس الحربة الرأسمالية في العالم؟ ألا تقوم بحرب امبريالية بشعة في فيتنام؟ إنها عدو الشعوب وينبغي أن تدفع الثمن. وعلى هذا النحو، وصلت حركة التمرد إلى بيركلي وإلى بعض الجامعات الأمريكية الأخرى، بل وحتى الطلاب في طوكيو تحركوا. في كل إنحاء العالم كانت تندلع الشرارة الثورية. ولكنْ بعد أن قام الطلاب في «السوربون» بعدة أعمال استفزازية اصطدموا برجال البوليس وسقط العديد من الجرحى من كلا الطرفين، وعندئذ، قرر البوليس اعتقال قادة التمرد الطلابي، وكان عددهم بالعشرات. ساهم المثقفون الكبار في دعم الحركة الطلابية والعمالية، فنزل جان بول سارتر إلى الشارع وراح يوزع المنشورات لصالح الطلاب وضد النظام، فاعتقلته الشرطة لفترة قصيرة ثم أخلت سبيلَه بعد أن قال لهم ديغول: «من يستطيع أن يعتقل فولتير؟ اتركوه حرا»... والواقع أن سجن سارتر كان غلطة كبيرة لأنه كان أشهر من نار على علم ولأن ذلك يسيء إلى سمعة النظام الديغولي. ثم نزل ميشيل فوكو إلى الشارع أيضا، وكذلك جيل ديلوز وإيف مونتان وعشرات الفنانين والكتاب الآخرين. وتصاعد الحقد بين طرفي فرنسا: الطرف اليميني أو حتى اليميني المتطرف، ثم الطرف اليساري، الحاقد على حكم اليمين، وكادت تنشب معركة بالسلاسل بين طلاب اليسار وطلاب اليمين في الحي اللاتيني وسُجِّلت أعمال عنف رهيبة وسُفِكت دماء كثيرة بل وقطعت أشجار باريس في شوارعها الجميلة. ولكن بعد ثمانية أسابيع من الاضطرابات العنيفة والفوضى، راحت فرنسا تلتقط أنفاسها، وعاد الجنرال ديغول إلى البلاد، بعد أن هرب لعدة أيام. وفي أثناء ذلك، تحمَّل المسئولية رئيس وزرائه، جورج بومبيدو، بكل قوة ورباطة جأش. وانتهت ثورة ماي 1968 كما تنتهي كل الثورات، وخلّفت وراءها الخيبة والحسرة، لأنها لم تستطع أن تسقط النظام الحاكم اليميني، حسب رأيها، ولكنها استطاعت أن توصل الجمهورية الخامسة وزعيمها إلى حافة الهاوية. حيّرت ثورة ماي 1968 كل المراقبين، ففرنسا كانت بلدا ديمقراطيا، والنقابات العمالية كانت حرة في العمل وتنظيم المظاهرات الاحتجاجية في الشوارع، والمعارضة اليسارية كانت تهاجم سياسة الحكومة كما تشاء وتشتهي في البرلمان، ولكن قوى اليسار لم تكن تفكر إطلاقا في اتباع طريق أخرى غير الطريق الشرعية للتعبير عن نقمتها وغضبها على الحكم. فلماذا، إذن، اندلعت مظاهرات الشغب والتخريب والفوضى الخارجة عن القانون؟ لماذا انتقل هيجان الطلاب في بيركلي الى طوكيو، إلى روما وإلى مدريد؟.. ولماذا لم يتحول إلى ثورة عارمة على النظام إلا في فرنسا؟ ما يزال المؤرخون حتى الآن يتساءلون عن سر ثورة ماي 1968 في فرنسا.