“الكُتّاب بحكم مهنتهم لا يدعون الماضي يمر بسلام، إنهم ينكأون الجراح التي غطتها الندبات سريعا، وينتشلون من القبو الموصد الجثث المطمورة، ويدخلون إلى الغرف الممنوعة، ويلتهمون الأبقار المقدسة … أما أعظم جرائمهم فهي أنهم، بكتبهم، يرفضون التحالف من المنتصرين…” غونتر غراس عاش المغرب، مع مطلع ستينيات القرن الماضي، على إيقاع عدد من الاصطدامات السياسية والتوترات الاجتماعية، التي عبرت عن سخط وتذمر شريحة واسعة من المواطنين، جراء واقع اتسم بالتردي والهشاشة والإهمال،بعد أن اصطدمت أحلام غالبية المغاربة بحقيقة عدد من الشعارات والوعود الكاذبة التي قدمت لهم غداة الاستقلال. فكان أن شحنت النفوس،وعبرت عن تمردها على بعض القرارات المخزنية الجائرة، ليعيش المغرب في الفترة ما بين 1965 و1981، على إيقاع ما أصبح يعرف في الأدبيات الحقوقية والسياسية ب “سنوات الجمر والرصاص ” سيئة الذكر. ومما لا شك فيه أن هذه الأحداث كان لها وقع واضح في تشكيل عقلية ووعي المغاربة الجماعي، كما بدا تأثيرها جليا في تفكير وفي مواقف وآراء كثير من المثقفين، فعبروا عن ذلك من خلال كتاباتهم، مصورين مخلفات هذه الأحداث، وما تبعها من خروقات ونهب وتحويل لخيرات البلاد إلى جهات وأفراد نافذين، الأمر الذي ظل يشكل العنوان الأبرز لسلسلة من التنابزات السياسية، بين طرفي هذا الصراع الأساسيين؛ أي مكونات اليسار الوطني الديمقراطي من جهة، وجهاز المخزن ومن انبرى للدفاع عنه من أحزاب إدارية وأعيان جدد في الجهة المقابلة. بعض هذه الأجواء المتوترة والمستمرة حتى اليوم، هو ما تحاول رواية “العين القديمة”(منشورات المتوسط إيطاليا، الطبعة 1، 2019)للشاعر والروائي المغربي محمد الأشعري، الخوض فيها، من خلال واقع شخوصها المضطرب وحيواتهم المتقلبة ومصائرهم المتفرقة، داخل مجتمع متحول، مما يجعل هذا العمل كباقي أعمال الأشعري السابقة لا تخرج عن التزام الكاتب بتصوير مخلفات القهر والاستبداد والخسارات والتنكيل التي عانى منها المواطن المغربي عامة والمثقف خاصة، منذ مطلع الاستقلال إلى اليوم. محكي الرواية: ترصد الرواية حياة” مسعود “، الرجل الستيني، الذي تكبد خسارات مجيدة في حياته.فقد ماتت أمه بمجرد مجيئه إلى الحياة، لتتولى أخته الكبرى تربيته إلى أن توفيت هي الأخرى، وهو لا يزال في سن السادسة من عمره،الأمر الذي اضطره إلى مغادرة قريته الصغيرة بشتوكة آيت باها جنوب المغرب، صوب مدينة الدارالبيضاء للعيش مع عمته. عاش مسعود طفولة قاسية، تجمع بين اليتم والتحرش الجنسي المستمر من طرف فقيه القرية قريب والدته.على أن ذلك لم يمنعه من إتمام دراسته إلى حين تخرجه من كلية الحقوق، ليتوجه، بعدها، إلى فرنسا لاستكمال دراساته العليا. وفي باريس عاش أحداث ثورة مايو 1968 الطلابية، غير أنه فضل أن يمشي بجانب الانتفاضة لا الدخول فيها؛أن يكون ثوريا صامتا ويساريا باردا، لا يهتم بالأشخاص بقدر ما يهتم بالأشياء، ولا يبذل مجهودا للاحتفاظ بعلاقة أو مصلحة. يعشق النبيذ الجيد، ويعشق هيلين أيضا. في هذه الأجواء الباريسية، تعرف على زوجته ” هيلين “،التي غمرته بحبها وعطفها فشعر معها بمشاعر الأمومة المفقودة، فأنجبا أطفالا، كانت ” مُنى ” أحبهم إلى قلبه.فقد ولدت في الدارالبيضاء، مدينة طفولته القاسية؛ المدينة التي تهب كل شيء ولا شيء، مدينة الذئاب الشرسة. لذلك كانت منى قريبة جدا منه، تعرف كل تفاصيل حياته اليومية، كما كانت مهووسة بالنبش في الماضي؛ ماضي والدها وخاصة طفولته البعيدة. وقد زاد هوسها بالماضي بعدما تناهى إلى علمها قصة محاولة تبديلها مع مولود آخر ساعة ولادتها داخل المصحة، وهو السر الذي أومأت لها به والدتها قبل سفرها إلى الفيتنام،حيث أسلمت الروح. كانت وفاة هيلين خسارة أخرى بالنسبة لمسعود؛ فاجعة كسرت قلبه وجعلته تائها مضطربا،تنتابه نوبات انهيار عصبي.فكان يتردد على طبيب نفساني عله يعالج أعطابه بلمسة جراح فنان. ومع تقدمه في العمر، أخذت السعادة تتسلل من حياته وجسده ليدب في عروقه الخوف والندم والاستياء، وتضاربت لديه الرغبات، كما تملكته رغبة جامحة في القتل، قتل غريم غامض وغير محدد، وهو يتحرك بين الأشياء ببطء شارد الذهن، فتبدو الأشياء من حوله كقطار سريع يخترق العالم. في خضم كل هذه الأحداث والتحولات الكبرى، لم يكن مسعود وحده،بل كان صديقه “الآخر”، الذي لا يفارقه، تقاسم معه تفاصيل حياته، في الدارالبيضاء، وفي فرنسا، وروما…،وكان -هو الآخر – نسخته الكاربونية – ينوء تحت ندم ثقيل يجثم على صدره. فقد تعرض هو كذلك لانتكاسات وخسارات مربكة زعزعت كيانه، بعدما تخلى عن ” مليكة ” وحَمْلِها، وعدم وضوح مشاعره تجاه ” ماريا ” الخادمة الفلبينية التي وقعت في حبه، وبحثه الدائم عن حبه العسير: البارميطة مدام ” فتحية “، ليجدد معها ذلك الحب الجارف الذي فر منه لأسباب غامضة. هذه الانقلابات التي عاشها ” الآخر ” زاد من حدتها خلافه الطويل مع شقيقه الأصغر،المحامي الذي قضى خمس سنوات سجنا بعد تحريره لعقود مزورة، قبل أن ينتهي به الأمر مقتولا بثلاث رصاصات في الرأس، نتيجة لعب مجنون مع “أسماك قرش” السياسة والمصالح والمال. أما منى،فإن اكتشافها، بعد بحث شاق،لحقيقة ذلك التبادل للمواليد داخل المصحة، جعلها وجها لوجه أمام الشاب ” أسامة “، صاحب الجسد الهُلامي الضخم، الذي تلبس بذكريات وأوهام مسعود قبل أن ينشب بينهما صراع مميت جرت أطواره بين الحلم واليقظة! أسماء من ورق: جرت العادة أن يختار الكاتب أسماء شخصياته الروائية بعناية فائقة، وهذا الاختيار لا يكون اعتباطيا أو عفو الخاطر، بل يكون منسجما مع خلفيات وأبعاد السرد الموضوعية، كما يكون منسجما أيضا مع ملامح الشخصيات ومواقفها وبنياتها النفسية والذهنية والاجتماعية، إذ تصبح الشخصية دالا يحمل مدلولات تتحدد انطلاقا من نسق عام(“سميولوجية الشخصيات الروائية”، فيليب هامون، ترجمة سعيد بنكراد، دار الحوار للنشر والتوزيع، ط 8،2013 ص:7). وعلى هذا الأساس تكون الأسماء معبرة ولها إيحاءات معينة، تمنح الشخص وجوده، بما يجعلها تترسخ في ذهن القارئ، إلى درجة أن هناك من القراء من يعجب ببعضها فيجعلها تنتقل من عالم متخيل إلى آخر حقيقي. فلماذا سعى محمد الأشعري إلى جعل شخصيات روايته تحمل أسماء مختلفة،فيما اكتفى بالتأشير على اسم صديق مسعود ب ” الآخر ” عوض التفضل عليه باسم خاص؟ ولم ترك هذه المهمة لمسعود؟ تحمل الأسماء الورقية دلالات كثيفة، فهي تعكس(أو ينبغي لها أن تعكس) في أحايين كثيرة طبيعة الشخصية الروائية؛ أي جوانبها الأخلاقية والعاطفية والحسية الوجدانية، كما قد تكون مؤشرا يكشف عن براءتها أو لؤمها، جمالها أو قبحا، هدوئها أو صخبها… وقد يعمد الكاتب إلى اختيار أسماء تنضح بمعان وصفات لا تتمتع بها الشخصيات في نوع من الباروديا الساخرة. فمسعود مثلا، اسم يحيل على السعيد والمحظوظ، أي من وُفق دون عناء، فهو الميمون. غير أن دلالات هذا الاسم لا تنطبق مع شخصية مسعود كما قدمتها الرواية، ولعل ذلك ماراهن عليه الكاتب، من خلال نحته لملامح هذه الشخصية الشقية المأسورة في ماض معتم تلبس بها، فتلبست به. أما اسم هيلين، وله جذور يونانية، فهو يرمز إلى الضوء الساطع والمشرق الذي امتد إلى حياة مسعود ليضيء عتماتها القديمة، وبانطفائه تتردى حالته النفسية. ومن بين مدلولاته أيضا، عش العصافير. ألم يكن مسعود عاشقا للعصافير في طفولته؟ كم صاحب الفقيه لرؤية منبع العين الذي تخرج منه العصافير قبل أن تتحول إلى قطرات ماء؟!!لقد كانت هيلين ضوء مسعود وحبه وسكناه وعشه. في حين كانت ابنته مُنى،أمنيته، وأمنية هيلين التي تحققت. لقد كانت أحب أبنائه إليه، آتية من صخب أحداث هزت النفوس في مطلع الثمانينات بالدارالبيضاء، صراخ ومجازر واختفاءات وقلق عام. أما “الآخر”، فلم يعطه الكاتب اسما، بل لقبه صديقه مسعود، وهو الذي قضى بصحبته ثلاثين سنة. لقد كان مسعود يضحك من النزوع الدائم لصديقه للخروج من وجوده إلى وجود آخر، وهو الذي ابتكر له اسمه الحركي الذي لم يعد يعرف إلا به، “لاخور”.(صص: 47 – 48) لقد كانت للآخر، إذن، رغبة في الخروج من وجوده، والتطلع إلى وجود مختلف. وهي رغبة تتولد من عدم الرضا عن وضع أو واقع غير سوي.فقد عاش المعاناة والضيق وعدم الارتياح والرغبة في الخروج من الذات إلى ذات أخرى جديدة؛ ذات يجد فيها ما يتطلع إليه، لكنه كان يتمنى في قرارة نفسه لو كان هو مسعودا، ومسعود أيضا كان يتمنى نفس الشيء، “فقد كانا يتقاسمان شعورا سريا، لم يجهرا به حتى في اللحظات الأكثر صفاء، عندما يمنحهما فجر الشاطئ إحساسا بأنهما شكل مائي لا يتجزأ من هذا النثار البارد الذي يمنحه المحيط للذئاب العائدة من تسكع الليل. كلاهما كان يتمنى في قرارة نفسه لو كان الآخر”.(ص: 50) الآخر أو لعبة مرايا النقيض: لا شك في أن معرفة الشيء تكون، عادة، من داخله ومن خلال تحديد ماهيته، غير أن هذه المعرفة يمكنها أن تتحقق من الخارج؛أي من المختلف والنقيض. فكل شيء في هذا الكون يحمل في عمقه نقيضا وضدا.الكلمات، مثلا، يمكننا شرحها بمرادفاتها، كما يمكننا فعل ذلك بأضدادها.من خلال هذه المقابلة يظهر أن كلا منها يتضمن نسقا لسانيا يحمل معان متباينة ومتضادة. والإنسان، في العمق، يحتاج إلى آخر تتحدد كينونته من خلاله؛ الأنا في مقابل الآخر، وهي من المقولات الفلسفية التي أثارت جدلا واسعا في الفكر الأوروبي، مع كوجيتو ديكارت مرورا بالجدل الهيجيلي وصولا إلى معنى الآخر في مشروع سارتر الوجودي. فبقدر حاجتنا إلى الضد والنقيض والآخر، بقدر ما يصبح ذلك الآخر خصما ومنافسا مربكا، قد ندخل معه في صراع، يمتد أويقصر، يتولد عنه النفي والاستبعاد والإقصاء. ألم يذهب سارتر إلى اعتبار ” الآخر جحيما “؟ لنربط ذلك بشخوص” العين القديمة “. فمن خلال الجو العام للرواية،يتبين أن مسعود يقع في مقابل صديقه ” الآخر “، لقد كان بمثابة مرآة، غير أنها مرآة لا تشبه المرايا العاكسة للحقائق أو الأشياء الماثلة أمامها، بل لما يؤشر على نقيضها أوضدها. الآخر الذي قضى مع مسعود عقودا من الزمن، وكانت حاجته إليه كبيرة جدا. ففي حوار بينه وبين منى،التي كانت تملي عليه باختصار وجود “الآخر” من حياته، لكونه لا يكف عن جلد نفسه وجلد العالم، ولا يحب شيئا، يرد عليها “إنه يريحني، ينتشلني من نفسي، وله آراء صغيرة في أشياء الحياة اليومية كلها، من السمك، إلى شبكات التواصل الاجتماعي.. نلتقي كل يوم في شقتينا أو في مطعم من مطاعم المدينة، نرتاد الأسواق ونذهب إلى حمامنا الأسبوعي…”(ص:160). لقد تقاسم مسعود مع الآخر تفاصيل الحياة، وتبادلا معا كل المشاعر، كل واحد يجد نفسه في الآخر، وكل منهما يتلبس بالآخر حتى التماهي والحلول، “كلانا يحتفظ بمفتاح الآخر، إذا لم يعرف أحدنا كيف يخرج من نفسه، أخرجه الآخر، وعاد به إلى حياتنا المختصرة، حياتنا التي تبدو مختصرة جدا ومملة جدا”.(ص:161) غير أنهما يختلفان، مع ذلك، حول كثير من الأشياء، بل يمثلان وجهين متناقضين لعملة واحدة. لطالما انتقد ” الآخر ” بطء مسعود “البطء سيقتلك ذات يوم، تذكر ما أقوله لك”(ص:33)،كما كان ينبهه إلى تعاسته ويراقبه باستمرار. لقد أصبح الآخر جحيما، “الجحيم هو الآخرون “(ص: 168). إذا كانت الشخصية المركزية أو الرئيسة في أي حكي هي الأكثر ظهورا وتأثيرا في سيرورة الأحداث،فإننا، في ” العين القديمة ” لا نكاد نتحدث عن شخصية مسعود المركزية إلا وتطالعنا شخصية “الآخر” بنفس الكثافة وقوة التأثير والحضور، من خلال مواقفه وسلوكاته وتفاعله وعلاقاته بالآخرين. لقد كان الآخر حاضرا حيثما تواجد مسعود، أو بالأحرى، كان مسعود حاضرا حيثما ظهر ” الآخر “، حتى نكاد نحسم، بغير قليل من التأويل، بأن هذا ” الآخر ” لا يعدو أن يكون سوى الجانب المضطرب والمتردد في شخصية مسعود المتشظية. و ” ربما قاما بغارات خاطفة على الماضي. لمجرد الرغبة في التحرر من غموض قديم “. (ص: 40) ثم، ” سنوات وهما يغرقان معا، ويطفوان معا، وربما ذات يوم ستنتهي قصتهما على نحو مأساوي، إذا قدر لأحدهما في لحظة يأس وقنوط أن يقتل الآخر ” (ص: 41). هذا الإمعان في جعل الشخصيتين تتلبسان بعضها ببعض، بما يؤشر على ذلك النوع من التناسخ الذي يفضي إلى النقيض، لا يتوانى الكاتب في التأكيد عليه، وهو يحاول أن يرتقي بالاضطراب الداخلي الذي تعيشه شخصية مسعود إلى مستوى الاعتراف بانفصامها، في ظل واقع متأزم ومتقلب. ويظهر ذلك واضحا من خلال الحديث الذي دار بين مسعود ومنى، حين كانت تسأله عن انقطاع علاقته بأصدقائه المرحين بحيث لم يعد يعرف سوى الآخر، ليجيبها: “إنه ليس شخصا بل مرآة”. هذه الإشارة الخاطفة تضعنا أمام حقيقة مفترضة، كوننا لسنا أمام شخصيتين منفصلتين، أي مسعود والآخر، بقدر ما أن الأمر يتعلق بكتلة بشرية مفردة، بل حالة نفسية واحدة مضطربة ومترددة، وغير قادرة على تحديد وجهتها / خلاصها، داخل واقع متحول لا تزال تتحكم فيه ذكريات الماضي الشخصي القاسية، وتفاعلاته المجتمعية الجماعية المتجددة. ما يرجح كفة هذا الاستنتاج، كون الرواية تقدم شخصية مسعود باعتبارها تعيش انفصاما داخليا، أي تحيا في ازدواجية. فمن كثرة ما عاش مأسورا في رغباته، دأب مسعود على عد نفسه شخصا آخر، أو على الأصح شخصين، شخص مادي يعرفه الناس بالاسم والملامح والسيرة الذابلة، وشخص افتراضي لا يعرفه سواه، يعيش منذ عقود صداقاته وغرامياته وتأملاته وعداواته، إنجازاته وخساراته، جدالاته المثمرة والعقيمة، وحيدا وجها لوجه مع نفسه. من هنا يمكننا تأكيد وحدة الشخصية، ووحدة الندم، ووحدة الرغبات، الرغبة في القتل التي كانت تراود مسعود / الآخر. يقول الآخر مخاطبا مسعود في إحدى حواراتهما “أنا منذ سنوات لا أنام حتى أقتل في خيالي شعبا بأكمله”(ص: 48). لقد قضى مسعود والآخر ردحا من الزمن في العبث واللاطموح، يدخلان في “نقاش مضن وبلا أفق”، ويتكلمان عن الفضائح والأوهام بطريقة عابثة،”سنوات وهما يغرقان معا ويطفوان معا، وربما ذات يوم ستنتهي قصتهما على نحو مأساوي، إذا قدر لأحدهما في لحظة يأس وقنوط أن يقتل الآخر”(ص: 41). هذه الرغبة الجارفة في التخلص بالقتل من شيء ما، تبقى هي الخيط الناظم الذي يشكل تعلة محكي الرواية، حيث يحضر، من حيث تسلسل الأحداث، في بدايتها قبل أن يظهر مجددا عند نهايتها في شكل بنائي استرجاعي دائري. على أن هذا المستهدف بالقتل، يبقى، على امتداد تسلسل الحكي، هدفا غير واضح المعالم ولا محدد الشكل، حتى وإن كانت الرواية تحاول تصويره في شكل إنسان يمثله أسامة، إلا أن هذا الغريم المفترض / المنفلت يبقى – على الرغم من ذلك – كائنا هلاميا. ومما يؤكد هذا الأمر كون الكاتب وهو يقدم وصفا ل” أسامة ” يقوم بذلك وهو يخصه بصفات لها من الرمزية الدالة وفيها من الاستعارة التصويرية ما ينسحب على أحداث ووقائع وذكريات مُرة وقاسية ومزعجة، أكثر مما قد ينطبق على إنسان يشبه البشر. ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر وصف الكاتب لأسامة باعتباره ” خارج المقاسات الإنسانية كلها ” (ص: 241)، أو ” كتلة ضخمة تكاد تسد مساحة الدرج ” (ص: 210)، وأيضا ” فلتة من فلتات الطبيعة ” (ص: 211)، و” آلة ضخمة خرجت للتو من مصانع فورد! ” (ص: 212)، ثم بكونه ” الرضيع الذي لا يكبر ” (ص: 220)… وكلها صفات قد تنفي عليه صفة الإنسانية. وحتى عندما يحدث فعل القتل، حسب محكي الرواية، ويستعمل مسعود، وهو بين يدي الشرطة، لفظة ” القتيل ” للحديث عن ضحيته العملاق، يرد عليه مفتش الشرطة بنبرته العالية: ومن تحدث عن قتيل؟ ! العملاق كان كتلة ضخمة في مكتب الشرطة، ثم جمع نفسه واختفى.. ولا أحد وضع شكوى له أو عليه (ص: 123). وإذن، ربما ذهبت بنا حماسة التأويل إلى اعتبار المقصود بهذا القتل الرمزي – الذي تصوره الرواية وهو يحدث بين النوم واليقظة – هو ذلك الماضي القاسي الذي خبره مسعود طفلا وشابا ثم كهلا، قبل أن يجد نفسه رهينة لكل أحداثه، وهو يعيش آخر أيامه متقاعدا في مدينة غول مثل الدارالبيضاء. حيث كان الخلاص في أن اتخذ لنفسه ” آخرا ” يتبادل معه أدوار الفعل والندم والنصح والتوبيخ، بما يعنيه كل ذلك من عدم مراوحة نفس الشعور بالخيبة والشعور بالانكسار وتجرع مرارة تكرار الواقع لأحداثه واستنساخه للوقائع التي تعود كل مرة إلى الواجهة. هي، إذن، صور لأحداث ووقائع يعيد الكاتب إثارتها بغير قليل من الإمعان في التذكير بفظاعاتها وتناسخها، بكل ما يعنيه ذلك من اتساع لرقعة الإحباط والإحساس بالخسارة وضياع البوصلة، في واقع لم يتوقف عن إنتاج مضاعفاته في وقتنا الحاضر.