حكاية «عزيزة» هي نواة الرواية ومركزها، منها تنبثق وتتناسل محكيات عديدة، تتضافر وتتقاطع لتنسج خيوط عالم روائي تسكنه ذوات باحثة عن خلاصها الفردي : سواء بتسليم إرادتها إلى أقدارها المرسومة سلفا، أو بالبحث عن مصائر جديدة تخطها بأيديها. إن بحث «عزيزة «عن الطفلين الجانيين اللذين تزعم أنهما تسببا في مقتل أخيها «علي» في الحارة المجاروة، وحضور تلك «الروح المعذبة» في البيت الذي هجره أهله، كان إيذانا ببداية التعرف على ما استبطنه اللاشعور وطمسه الكبت وأعماه وأغرقه في النسيان حتى بات الواقع المرفوض محجوبا. لقد ظلت «عزيزة» تتصنع شخصية سوية تتقنع وجه امرأة تتوافق والحدود الأخلاقية والاجتماعية التي رسمها المجتمع المحافظ للمرأة المتزنة. لكن مقتل أخيها أوانتحاره هز أركان شخصيتها الصلبة؛ التي لم تكن تتهاون في مقاومة الرغبة الدفينة وإنكار إغراءاتها الآثمة. فقد طفا المنسي بقوة حضوره في صور شتى وهواجس وأحلام؛ في لعبة التكثيف والإسقاط والإبدال التي لا نهاية لها. صارت تبحث عن الطفلين المزعومين لتكتشف شروخ ذاتها الفصامية، وقد انشطرت في المرآة إلى وجهين متناقضين : وجه الذات المستكين لقدره الاجتماعي، ووجه الرغبة الجامح والمتمرد «...وظنت عزيزة أن صفحة الماضي هاته قد طويت إلى الأبد (...) ارتبك سير حياتها منذ ذلك الحين وصارت ترى وجهها منشطرا في المرآة، لماذا يعود كل هذا الماضي دفعة واحد ؟ لماذا عليها أن تدخل هذا النفق الذي اعتقدت أنها أحكمت إغلاقه بالعمل والصلوات؟» (ص 117). صارت ترى ما أنكرته طيلة وجودها «بالصويرة» وقد تشخص في الصورة الوهمية لطفلين مشردين، صورة لعنة تطاردها لذنب اقترفته يوم سقطت حصون دفاعها أمام جموح الرغبة القاتلة، التي أثمرت ابن «العار» الذي تخلت عنه وخلفته وراءها في «وادزم». ولم تجد من سبيل للخلاص من هذا الذنب المستور الذي يجنح بها نحو الجنون سوى الجهر به لأختيها وصديقتيها والبحث عن ابنها الذي «ظل يسكن أحلامها وتراه كل يوم يتجسد أمامها» (ص 193). لكن «الحرام أنتج الكارثة» ( ص193)، والطفل الذي كانت تأمل رؤيته صار عضوا فاعلا في جماعة دينية متشددة؛ ينتظر تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد ليرجمها في الواقع كما رجمها هو وجماعته في الخيال. لقد هد موقف ابنها الرافض لها كل الأوهام التي كانت تعتصم بها، فأضحى إله الرحمة والخلاص الذي كانت تتوسل فيه الدعم والعون على مصابها لحظة انهزامها أمام عنف الرغبة، مجرد كائن قاس ورهيب، ولم يعد الملك الحامي رمز القوة والجمال الذي كانت تتنافس في حبه أشهر الفنانات سوى كائن نزق تتلاعب به الأهواء والشهوات، لا يستطيع أن يتزن بالحكمة ويكثم غضبه وحقده يوم عصى الشعب طاعته. «أزالت خرقة الحجاب من على رأسها لتحمل قدرها بين يديها كما حمله أجدادها العبيد من قبلها وتعيش العزلة والوحدة أثناء تيهها المستمر بحثا عن وطن تأمن فيه وتأمن إليه وتأتمنه على عقلها وجسدها» (ص 194). في حواشي حكاية «عزيزة» النواة، تتوالد محكيات شخصيات عديدة، تنتظم على شكل استرجاع أو تذكر أو من خلال حوار ذاتي مستبطن، أو عبر سرد متسلسل للأحداث أو وصف مشهدي لوقائع معاينة ترسم مصائر شخصيات قلقة على وجوها المرتهن بسلطة القدر وعنف الرغبة. وإن كانت حكاية «عائشة» تمثل المحكي النقيض للحكاية النواة، لما تبرزه من تعارضات على صعيد القيم والتصورات فإنها تظل مشدودة إلى نفس المسار الحكائي الذي يجعل منها مجرد حكاية تندرج ضمن نفس الدائرة المحكومة باستسلام الشخصيات لقدر رسم معالمه مجتمع ذكوري قائم على ترسيخ حدود التمييز داخل النوع واللون والعرق والدين، وهو بمثابة استيلاب لا يسمح للشخصيات إلا أن تعيش غريبة عن وطنها وهي تسكن فيه، وغريبة عن جسدها وذاتها تقيم فيه، لذلك تصلى الشخصيات نار الجسد التي تتأبى على الاحتواء ونار الوطن التي لا تخمد مع زوال الانتماء. فإذا كان عنوان الرواية يوحي بالجمع بين الجسد والوطن، فإن اختزال الجسد بعد تفكيكه وهدمه، في «الخصر» يشي بمفارقة صادمة تضع علاقة الجسد بنفسه موضع استفهام، وتجعل ارتباطه بالوطن موضع تشكيك، فحينما يجتزأ عضو من جسد المرأة الملغى ليصبح باعث إغراء وفتنة، فإن الكائن برمته يجرد من هويته الإنسانية ليغدو موضوع رغبة جنسية في مجتمع ذكوري لا يرى في المرأة سوى شيء/ سلعة يتم تبادله بين الذكور في نظام الاقتصاد الرمزي القائم على الزواج المكرس لاستمرار النسل والحفاظ على نظام القرابة العائلية. وهذا يتنافى مع المواطنة التي هي عماد الانتماء إلى الوطن، والتي يكون للمواطن فيها حق في امتلاك جسده والتصرف فيه بحرية وفق أهوائه ورغباته. فإلغاء الجسد بفصل أعضائه وكتم أهوائه يدمجه في منظومة «الأمة» التي ترى في الكائن وسيلة وليس غاية، ممكنا في تحققه وليس كائنا في اكتماله، منفعلا بما يصدر عن غيره وليس فاعلا من تلقاء ذاته. فحين تصيح «عائشة» محتجة» : «فأين سأرحل بهذا الخصر في هذا الوطن ؟ الخصر خصري واستمتعت به كما أريد والوطن وطني وأريد أن أعيش فيه، فأين أذهب بحيرتي بين الخصر والوطن ؟» (ص 74) فهي تعلن عن التصادم بين الرغبة في امتلاك الجسد بالانتماء إلى الوطن والخوف من افتقاده بالانتماء إلى الأمة، وكأنما الوطن لا يغدو المسكن الأصلي للإنسان إلا إذا سكن الإنسان الجسد وامتلك مفاتيح أبوابه، وكما أن سلب الجسد من صاحبه إقرار لسلطة الجماعة الحامية للأمة، وهدم للفرد المواطن الذي لن تكتمل هوية المواطنة لديه إلا إذا تقاطع الانتماء للجسد مع الانتماء للوطن، لذلك لا تتحرك شخصيات الرواية إلا ضمن منطق السلب والاسترداد ؛ والفقد والاكتساب، والاغتراب والانتماء الذي يسيج فضاءها ويقنن حركتها بحيث لا تجد الشخصيات من مفر إلا بالانخراط في دوائر هذا المنطق الصارم. في اقتصاد الرغبة وتدبيرها : يتأطر الفعل الحكائي في فضاء «الصويرة» المفارق بتناقضاته، بما يبديه مجتمعه وما يتستر عليه، بالنفور من الآخر الأجنبي والرغبة في الاندماج معه، بإخلاصه المتفاني لأساطير خلاصه، وخوفه من تأثيم ذاته جراء انتهاك أقدس معتقداته. وأهل «الصويرة» يعيشون كفافا دائما، مسلمين أقدارهم لإله قاس ورحيم، واهب ومهيب «والمدينة كلها احتفاء بالأرواح ولا أحد يعرف أين تختبئ لكنها حاضرة مع المجتمع وتسهر على أمورهم، ولهاته الأرواح تتوجه صلواتهم وأدعيتهم في الصحة والزواج وتسهيل السبيل إلى الرزق» (ص 15)، كما يشعرون بتطير رهيب من عدوى لعنة لصيقة أو موروثة، لا يتجنبون أذاها إلا بممارسة طقوس التطهير المصاحبة بالرقصات والأضحيات والصلوات والرقيات والأدعية، لذلك تزداد شخصيات الرواية تمسحا بأصنامها كلما اشتد خوفها وقلت حيلتها في درء مخاطر رغباتها المحظورة. فقد كانت «عزيزة» «تسلم في كل مرة جزءا من إرادتها للطاغية إن كان أبوها أو الملك لتسلم من الخوف الذي تولده المعارضة» (ص 96). والذي يجعلها تتنازل طوعا أو كرها عن رغبتها التي هي عماد إرادتها، باعتبارها كما يقول سبينوزا «عين ماهية الإنسان من حيث تصورها مدفوعة بموجب انفعال من انفعالاتها على فعل شيء» وباعتبارها كذلك أساس الاقتدار الذي بواسطته يستطيع الإنسان إثبات وجوده والحفاظ على استمراره، لأن التجرد من الرغبة انسحاب من الوجود وتنازل للموت كي ينشر أشباحه على كل الوجوه المفعمة بالحياة، بينما الإقرار بالرغبة اختبار متجدد للذات أمام رهانات الحياة، واكتشاف دائم لوجوه الذات المتقلبة، وخلق مستمر لإمكانيات العيش، لذلك لا يمكن الحديث عن الرغبة دون الإشارة إلى تلك القوة الدافعة للإنتاج والخلق المتواصلين، إلى ذلك السيل الجارف للحرية الذي لا يتعثر أمام أي حاجز، فنحن كما يقول نيتشه «في الأخير نحب رغبتنا لا موضوع هذه الرغبة» والتي تجعل منا أفرادا كاملي القرار والسيادة وليس كثلا جماعية متراصة، وأحرارا مستقلين وليس قطيعا منقادين وراء راع متسلط وحكيم، «والتجرأ على القيام بكل شيء، دون الحاجة لأي شيء». فقد كانت عائشة التي خبرت الرغبة وتذوقت لذاتها وآلامها تعرف قيمة الحرية والثمن الباهض الذي يجب دفعه لنيلها «كانت تعرف أن جسدها مدرب على الحرية لأنها انتزعتها من يد الجميع، قاومت لحياة كاملة تفكير القطيع ونالت الحياة التي من أجلها شقت واجتهدت» (ص65). وإن كانت شخصيات الرواية يلهبها سياط الرغبة، فإنها لم تكن لتتجاسر على المغامرة بتحقيقها خوفا ورهبة من سياط العائلة والمجتمع. وحدها «عائشة» كانت لها القدرة على اقتحام عالم الرغبة المحرم والمجهول، فيه اكتشفت بواطن الجسد وامتحنت قدراته : صلابته وهشاشته، وتجرأت بامتلاك نوع من الاقتدار على ملاحقة فتنة الرغبة وتمنعها، إذ تقول «...تعودت أن لا أجد لذتي إلا في الصعب، حتى الحب لا يحقق لي متعة إلا بمقدار ما يرتبط بصعوبة ما». (ص 66). وعلى الرغم من أن الرغبة لا يدوم لها حال ولا يستقر لها قرار، فهي مدفوعة دائما للتجدد، ناكرة الرتابة والتجمد، فقد كانت «عائشة» تسبح في نفس النهر الذي يغير مجراه كلما أسنت مياهه «لكني أخاف الملل، أخاف تلك الحياة اليومية الرتيبة التي تقتل العواطف والرغبات» (ص 49)، لذلك لم تكن تتمسك بحب قضى أو عاطفة تهشمت بالحنين لعشق زائل. كان جسدها بلا ذاكرة ولا تعلق، توقظ الرغبة فقط لذاته وتفنيها «ليس لخصري ذاكرة فهو ينضح بمن يمسكه اللحظة فقط» (ص 71). ولم تكن تبالي بنظرة الآخرين إليها، ولا بنيل الاعتراف من الآخرين بنبل سلوكها، لأنها لم تكن لتعيش هذا الخصاص للآخرين لولا الشعور بالعجز من مواصلة الاعتداد بالذات، لأن كل اقتدار ازدراء ولا مبالاة تجاه الآخر،وكل خصاص مقت للذات وحاجة للآخر. يقول نيتشه «هناك في الازدراء من الإهمال واللامبالاة، من عدم الاكتراث والجزع ومن الفرحة الحميمية والشخصية ما يحول دون تحول الشخص موضوع الازدراء إلى صورة ساخرة، إلى مسخ» . ولهذا كانت عائشة لا تريد لرغبتها أن تكون نقصا يطمح للاكتمال، بل هي ما يفيض عن الحاجة ويتجاوز حدود القياس، لذلك لم تكن تنظر لعلاقتها بالآخر الرجل كتلبية لمصلحة وتحقيق لمنفعة «أريد أن أختاره بعيدا عن الحاجة، أنا لا أحتاجه في حياتي، بل أريده معي». (ص 76). فإذا كانت » Lou audreas salomé « تحصر رغبة المرأة في ثلاث، أن تكون عاشقة ومعشوقة، وأن تكون أما، وأن تصبح السيدة العذراء، فقد كانت «عائشة» و»سميرة وعزيزة» تردن أن تكن راغبات ومرغوب فيهن، وأن تلعبن لعبة السحر والإغراء وأن تجذبن النظر إلى مفاتنهن وأن تتراقص أجسادهن بالأهواء لتسقطن طرائدهن الرجال في شراك الحب، وتجردن فحولة الرجال من عنفها وسطوتها، وتفتحن عيونهم على معرفة حقيقة الحياة وعلى دفء الحب ووداعته كما فعلت «شامات» «بأنكيدو» في «ملحمة جلجامش» التي أخرجته من عالم التوحش نحو عالم المدينة بالإغراء والحب، كانت»سميرة» تتلاعب بخصرها تاركة الحرية لجسدها كي يتحدث لغة الفتنة، وكانت «عزيزة» تسحر بسماع وشوشات الغزل وراء أذنيها، تقول رجاء بن سلامة بهذا الصدد : «أليست الفتنة أمرا لا مفر منه في العلاقات البشرية، وإن سدت كل الأبواب والمنافذ وأسدلت كل الحجب؟ بل أليست الفتنة أمرا ضروريا وحياتيا لكي يكون الشوق ويكون الحب» ، ذلك أن الحب لشدة شغفه وقسوته يضفي على العاشقين صفة التماهي ويبدد الفوارق النوعية والاجتماعية بحيث تتلاشى الكينونتان في بعضهما البعض محدثة رجة الاكتمال التي لا يعبر عنها إلا ذلك الإعجاز المشخص في الذات الإلهية، يقول بييربورديو :»في هذا النوع من الهدنة الإعجازية حيث تبدو الهيمنة مهيمن عليها، أو بالأحرى ملغاة، والعنف الرجولي مخفف (لقد أثبت مئات المرات أن النساء يضفين الحضارة بأن يجردن العلاقات الاجتماعية من فضاضته وغلضتها). إذ بالحب كما يقول سارتر يشعر الكائن أن وجوده مبرر من خلال الاعتراف المتبادل بين العاشقين الذي يبعد التناوب بين الأنانية والغيرية. هكذا نرى الشخصيات الذكورية في الرواية تتنصل من الزواج بمعشوقاتها خشية التنازل عن سلطتها الذكورية، متبعة في ذلك أسلافها الذين كانوا يحرمون زواج المعشوقين، لأن في ذلك الزواج خراب لصرح الهيمنة القائم على مبدأ سيادة الفحولة الذي يتنافى مع عدالة الحب. فكان على «عزيزة» أن تحرم من الزواج من «العربي» لأنها أحبته وأحبها، وكان على سميرة كذلك أن لا تقع في حب خطيبها قبل عقد القران لأن الحب مفسدة للزواج، بل يفرض على الزوج أن يبرهن على فحولته الذكورية بافتضاض بكارة عروسه بالعنف كما فعل أب سميرة بأمها ليلة زفافهما. وليس الحب إلا طريقا يهدي نحو قطف ثمرة الإنجاب والولادة، ف «لا يكتمل دور المرأة إلا من خلال الولد، أو أن يكون طريق المرأة يقود كذلك دائما نحو الولد، قبل أن تكون أما أو ما بعد الأمومة»، وليس «من سبيل لكسب حب امرأة سوى إثارة إحساسها بالأمومة والأنوثة». فلم يكن أمام «إلهام» إلا انتظار الزواج لتحقيق رغبة الأمومة «لن أنتظر الثلاثين، أريد أطفالا يا عالم» (ص53)، واستعاضت «عزيزة» عن فقدانها لابنها من علاقة غير شرعية «بالعربي» بأطفال الروض وبأخيها «علي» الذين ينادونها ب «ماما يزة»، وشعرت «عائشة» بالمهانة والذل وهي تجهض ابنها الأول إرضاء لزوجها «نسيت أنني أقمت في جسدي عرسا للموت حين وافقته على إجهاض طفلي الأول» (ص72). لكن هاته الرغبات تتبدد في مجتمع «الصويرة» الذكوري الذي يحرص فيه الآباء والإخوة والأمهات على مراقبة رغبات البنات عند اكتمال نضج جسدهن الجنسي وحجب أي صورة للرغبة و كتم صوتها، بحيث لا تغدو الرغبة طوع يدي صاحبتها وملك ذاتها، بل تصبح رغبة يمليها الآخر ويتصرف فيها باعتبارها متاعا عائليا يجب الدود عنه لنيل شرف النسب بطهارة الجسد من آثار الرغبة الهالكة، تقول رجاء بن سلامة: «لم يتم الفصل بين جسد المرأة وجسد الأسرة أو القبيلة أو الأمة، فظلت المرأة «حارسة الهوية» و « الشرف الجماعي»، فلا تتصرف «عزيزة» ورفيقاتها باستثناء عائشة إلا وفق ما يمليه الآخر / الرجل ويرغب فيه، لأنه مالك الرغبة وسيدها، فهن منذورات لتلبية رغبته لا تلبية رغبتهن، إشباعه وإفقارهن «لم أعد أعرف ما يريد منا الرجال ؟ « (ص 50)، «هل يريدون نساء تشتعل فيهن الرغبة أم نساء خانعات يتصنعن اللذة» (ص50)، لذلك لا يكتسبن قيمتهن كنساء إلا في تنازلهن عن رغبتهن و إخماد لهيبها في مضاجعهن، فكان مصير «عائشة» الطلاق حين طالبت زوجها باقتسام لذة الفراش « تصنعت في البداية لذة صارخة وبعدها تعبت من التصنع والصراخ الغبي، ففاتحته في أمر قذفه السريع فجاءني التطليق السريع (ص 49)، وليس لها من دور إلا الخدمة والطاعة والخضوع، أي دور العبد المملوك لسيده، الذي يقول عنه نيتشه «لم تكن له أبدا أية قيمة إلا تلك التي منحت له، ولأنه لم يتعود البتة على طرح قيم ما بنفسه، لم ينسب إليه سوى القيمة التي أقرها له سادته»، فكان على «عزيزة» ورفيقتيها أن يطوعن جسدهن العفوي والتلقائي على الامتثال للجسد المثالي الذي يأمر المجتمع بتقمصه ومحاكاته، فكن يضعن على رؤوسهن حجاجا ويحنينها ويغضضن من أبصارهن وهن مستقيمات في سيرهن، فكنت «عزيزة» «تتجنب المغالاة في كل شيء وتحرص خصوصا على كلام الناس ولا تعرض نفسها للفرجة فتمشي محنية الظهر» (ص 11) و «لم تكن تفتح على جسدها باب الشهوة لا من بعيد ولا من قريب، فلا تنظر لرجل ولا تصافح رجلا ولا تفكر في رجل هكذا سلمت من ألسنة الناس في مدينة لا ترحم» (ص 19). لذلك لا يسمع لهن حديث ولا يظهر منهن ميل نحو المرح والمتعة أو التظاهر بالجمال والفتنة عند اقتحامهن المجال العام المخصص للذكور وحدهم، بل عليهن أن يرسمن الصورة المثالية للمرأة المتزنة المنذورة للآخر وليس للذات، «إنهن موجودات بواسطة، ومن أجل نظرة الآخرين، أي بمثابة موضوعات مضايفة» ، وهكذا يظلن في مرمى نظر الآخرين على الدوام، الذين يراقبون مدى تقيدهن بالجسد المثالي وإبعاد كل اختبار للجسد الفعلي وترويض كل جموح والسيطرة عليه، إذ لا يعتبرن أنفسهن إلا مجرد أدوات ووسائل، ليس لذواتهن غاية سوى إسعاد الآخر وخدمته كما يقول نيتشه «كم من العبد ما يزال في المرأة، مثلا ! إن العبد هو ما يسعى إلى إيهامنا بامتلاك رأي حسن عنه، والعبد هو أيضا من يركع بالتالي لهاته الآراء، كأنه لم يكن هو الذي أنتجها»، فهن مجرد جسد بيولوجي دنس مقابل جسد الرجل التقوي الفاضل، تتحكم فيه دورة الحياة واستمرارها حاملا بذرة الرجل وذريته واسمه «فالزوجة الحرة مملوكة يجب أن تحصن وتحجب بلغة القدامى، ويجب أن تمنع وتراقب بلغتنا اليوم، لأنها تنجب النسل وتساهم في إحاطة زوجها بهالة العرض والشرف» ، لهذا كان يحرم على العازبات والمتزوجات مصاحبة العوانس والمطلقات لأن هؤلاء الأخيرات بمثابة عدوى يتطير منها المجتمع، يخشى بمرافقتهن إفساد بذور التوالد التي لا تنضج إلا بتبكير الزواج ودوامه. فالأمهات يحرصن على تعليم بناتهن الحشمة والوقار وسيلة إغراء لشد طوق تعلق الرجال بهن وحصر مدة ترددهن على المجال العام في وقت معلوم ومحدد لعرض مفاتنهن قبل حجبهن عن الأنظار، والإصرار على تسمين خصورهن لتقديمهن قرابين تفتض بكارتها في طقس الزواج : «يتقدم القربان يحرسه قلب الأم التي حرست كل شيء في ابنتها، حرست التأوهات واشتعال النار في الجسد. سمنت الخصر الكشيح وراقبت نمو النهدين لتقدم كل هذا مصونا من يد الإنس والجان إلى العريس وأسرته» (ص 189). ورغم اعتداد «عائشة» بنفسها وشغفها بذاتها لا تخشى ولوج المجال العام، بدخولها عالم السياسة والعمل والحب المحتكر من قبل الذكور، لكنها سرعان ما انهارت أمام ضربات الهيمنة الذكورية التي ترى في الأنثى مجرد تابع ملحق بجسد الذكورة الممتد في المكان والزمان، فعادت صاغرة بعدما كانت جسورة تستطعم الدفء وسط الجموع الخانعة لقدرها:» لكنني عدت فيما بعد أجدني أعيش حياة عادية جدا. أستجدي عطف واهتمام الآخرين : أبحث عن الناس أندس ضمن همومهم الصغيرة (...) أخسر مقابل ذلك أجمل شيء كسبته خلال حياتي المضطربة : حريتي ووحدتي التي عشتها من قبل». (ص66). وتستعين الذكورة بالفكر الديني لأسطرة هيمنتها وتأبيدها، وجعل كل ما هو اعتباطي ومصطنع، والذي تم تكريسه بالقوة، يبدو بديهيا ومشروعا وغير قابل للنقاش، مما يحذو بالذكورة المحتكرة للعنف أن تبرر امتلاكها للسلطة وتفرض تصنيفها للأشياء والكائنات، معتبرة الجسد الأنثوي خارج السلطة حسب فوكو لا يمتلك السيادة على نفسه مما يستدعي مراقبته وعقابه «فما لا يمنعه الإخوة والأخوال والأعمال بالسوط، يحرمه الله بكلامه الذي يخيف من عاقبة الشهوات» (ص 40)، ومن ثمة تعمل هاته الهيمنة المبررة دينيا على قلب كل القيم الممجدة للحياة والحرية، و»نفي لحق الآخر في أن يكون له حق»، وذلك بقلب الرغبة إلى لعنة والحب إلى إثم وفتنة الجسد إلى عورة، واعتبار كل طاقة إيجابية غواية شيطانية، والدفع بالشخص إلى شعور متأصل بالذنب لا يخلص منه إلا بالقسوة الشديدة على الجسد، والشعور بوخز الضمير الذي لا يتبدد إلا بإخضاع النفس إلى طاعة الأوامر وتجنب النواهي، يقول نيتشه «لقد استحوذ الإنسان صاحب الشعور بالذنب على الفرضية الدينية ليدفع بتعذيبه إلى درجة مرعبة من القسوة والشدة، وقد اتخذ من فكرة كونه مدينا للرب أداة لتعذيب نفسه» ، فلا تشعر «عزيزة» بالارتياح إلا بالإكثار من الصلوات وتأنيب الذات طالبة الاستغفار والرحمة من إله ظل يحرس دائما سلوكها : يعاقب خذلانها ويبارك إخلاصها، لتضيف عقابها لذاتها إلى عقاب الآخرين لها «وكأنه حين يغيب عقاب الآخرين تميل النفس إلى عقاب ذاتها» (ص192). إن هذا القلب والتحول للرغبة في الشيء إلى الزهد فيه وعقاب النفس على الطمع فيه هو الذي يحرم لمس الجسد واختياره والجهل بمكامن لذاته وآلامه لأنه جسد مقدس لا تنتهك حرماته إلا من خلال طقوس الزواج، لذلك يظل مخبأ منزويا مفقودا ومنفصلا عن صاحبه كما هي أجساد أرباب الكنيسة. وقد آل هذا التحريم إلى عصاب شديد يفتك بأحشاء الشخصيات التي تصاب بالرهاب المفزع كلما اقتربت من تخوم المحظور فالسيد «أومنا» يصاب بنوبات الصرع كلما اشتدت رغبته في الاقتران من امرأة بيضاء البشرة، وأم «عزيزة» يصيبها الخبل كلما فكرت في بياض «خدجو»، يقول نيتشه : «من عواقب التمرن على التوبة والخلاص نجد أشد أنواع أدواء الصرع التي عرفها التاريخ إيلاما وأكثر رعبا، منها الرقص الزنجي ورقصة القديس يوحنا في القرون الوسطى. كما نجد آثارا جانبية من جهة أخرى، مثل الشلل والاكتئاب التي تدوم مدة طويلة، يصير بعدها شعب أو مدينة(...) عكس ما كانت عليه من قبل إلى الأبد». وهذا العصاب الظاهر في الخوف والرهاب هو الذي يدفع بالشخصيات إلى الإقرار بدونيتها وإثمها وتقديس المستبد القامع لرغباتها والتقرب منه لنيل حبه ورضاه لأن الخوف هو صانع الآلهة والأباطرة المقدسة، فقد كان نور الإله الممتدة يده نحو «عزيزة» وخطب الملك الرنانة يبعثان في نفسها الطمأنينة ويهدئان من روع الخطيئة الآثمة. بل يمكن أن ينفجر هذا العصاب إلى فصام لا شفاء منه إلا بفتح أبواب الجسد أمام الرغبات الثاوية وإعادة قلب ثان للقيم يسمح فيه للشخصيات أن تتصرف بحرية في أجسادها باعتبارها أفرادا وليس جسدا رمزيا للأمة، وباعتبار الحياة تلقائية واكتشافا عفويا وليست تصميما غيبيا محدد الأهداف، نسعى لبلوغها بالانضواء تحت قيم التمييز وحدود الإباحة والتحريم، لذلك نرى أن الهيمنة الذكورية المتلفعة بالغطاء الديني لا تسمح بهدم الفوارق والحدود، وتقنن كل الممارسات الإنسانية وتضبطها في سلوك معين، مرغمة كل شيء على الاندماج ضمن سياق ثقافي معين إبعادا لكل التباس وتناقض واختلاف. ف «علي» أخ «عزيزة» الذي تم تأنيثه مخافة أن يلحقه الأذى الذي أفنى إخوته الذكور من قبله، والذي أطال شعره وأدار خصره وصاحب السياح الأجانب، قد أحاطت به الشكوك وطاردته التهديدات واللعنات حتى ألقى بنفسه في البحر للخلاص من عذاب جسده الذي لم يطاوعه في التقنع بمظهر الفحولة البادي في اللحية الطويلة والعضلات المفتولة، وأرغم «طوبي» الكندي الجنسية على دخول دين يجهله وتغيير اسمه كي يسمح له الزواج ب «عائشة»، بل ترمي هذه الهيمنة إلى نعت كل ما هو مختلف عنها بأشنع الصفات حين تسم «أمازيع الأطلس المتوسط» بالفسق، والسود بالقذارة والدناءة. إن خشية الهيمنة الذكورية من إطلاقية الرغبة حد الإسراف هو الذي دفعها لحصر هوية الكائن في حدود جسده الاجتماعي وتسييج جسده الطبيعي بالمحرمات والنواهي لإخضاعه للمواضعات التي سنتها، والتي تسمح للهيمنة الذكورية باحتكار سلطة القوة والعنف ما دامت الرغبة هي عنف مطلق لا يمكن تهذيبه إلا بالحب والمساواة والقبول بكل ما هو استثنائي وهامشي وشاذ، فإفساح المجال لتدفق الرغبة إغناء للحياة بإبداع صيرورة متجددة لأشكال عيش دائمة التغير والاختلاف وإبعاد للتكرار والمحاكاة وبتر للجمود الذي يريد تأبيد الموت والانمحاء، «وبذلك فالإنسان له مستقبل طالما أنه كائن راغب. فالمستقبل ليس من نسيج الزمان وإنما من عمل الرغبة «. لعنة الترحال حرية وخلاص إن الهيمنة الذكورية التي لا تريد أن ترى في الأشياء إلا لونها الواحد بطمس قزحية الألوان المتعددة التي يحفل بها الوجود الإنساني، سرعان ما ينكشف لونها الباهت ويختفي أمام أطياف الظهيرة، يوم تشرق شمس الحقيقة على جبل الثلج المتسامي في عليائه وتبرز تعرج والتواء تضاريسه. فإذا كانت هاته الهيمنة تقنن سلوك المجتمع وتضبط إيقاعه على سلم قوانينها الصارمة، وتحارب كل التواء يشد عن القاعدة، فهي لا تظهر ذلك في العلن إلا لتخفي شكها المستطير من تهافت تلك القوانين وضعفها، فأهل الصويرة لا يتسامحون مع أي تصرف بدا منحرفا وانتهك الحدود المرسومة، لكنهم يغفرون لأنفسهم ولغيرهم كل محرم استلذ به في السر ك «عائشة» التي كانت تختال في ثوب الوقار «تستلذ بجسدها وحيدة، على اعتبار أنه ذنب مغفور لأنه مستور» (ص 19). وكان لاستقرار الأجانب بالمدينة وإسهامهم في تنمية وإنعاش اقتصادها أثر في تغيير سلوك أفرادها، فكان أهل «الصويرة» الذين يتظاهرون بمحافظتهم على التقاليد يدفنون رؤوسهم في الرمل حين يرون أبناءهم وبناتهم يغرقون في لذة لا حد لها مع الأجنبي «الحقيقة أن الصويرة كلها تتعرى منذ زمن وتوري مؤخرتها للجميع» (ص 36)، وإن كانوا دائمي الحذر والتحرز من الأجنبي، فإن هذا الأخير الذي استوطن أرضهم وأقام شرائعه محاذاة شرائعهم، أفقد بوصلة توجههم نحو أي مصير يجنحون «... نصف سكان المدينة دائخين ما بين تحرر لا حدود له وتدين متطرف لم يألفه أحد هنا» (ص 39)، لذلك تظل العلاقة حيال الأجنبي موضع التباس، بين النفور والإبعاد، والقبول والاندماج. لقد كان الأجنبي والغريب حين يحلان بأرض يطعمان ويوفى إكرامهما لدرء شرهما، ويعجل برحيلهما خوفا من إفساد بذور البركة التي ظل أهل البلاد يحرصون على نقائها خشية اختلاطها وتشوه ثمارها، يقول «مافيزولي» : «فعندما يخترق التائه الحواجز فإنه يدعونا، لربما عن غير وعي إلى صنف من «الاختلاط» يكون القانون بمقتضاه آتيا من الآخر والوجود الذاتي متوقفا على الآخر». وتصف الرواية النبد المقيت للسود بواحات تافيلالت وإجبارهم على التيه بحثا عن ملاذ آمن. كان السيد «أومنا» أب «عزيزة» لا يجد له موطئ قدم في أرض حتى يهجرها، حاملا أسرته الصغيرة نحو الأقاصي البعيدة، لأنه الأسود الذي كان مملوكا وصار حرا لا أرض له يسكنها ولا عشيرة تأويه وتحمي عرضه، فهو ذلك الطريد الذي تهاب الجماعة شره، تلفظه خارج حدودها ليعيش التشرد والضنك والتوحش، يقول نيتشه «هكذا يعيده غضب (...) الجماعة إلى حالة التوحش ويخرجه من نطاق القانون ويحرمه من حمايته له، وبذلك يمكن أن يتعرض لكل أشكال العدوان». ولم يجد السيد «أومنا» ضالته إلا وسط «كناوة القبليين» الذين استقر بهم المقام ب «الصويرة». وكان لابنه «علي» نفس المصير، فكان ذلك المنبوذ الذي انفضت من حوله الجموع لما أبداه من تخنث، فكانت قبلته الانضمام إلى السياح الأجانب الذي يندمج وسطهم كل من فارق الجماعة، وبذلك لا ينظر إلى الأجنبي إلا باعتباره سبب البلاء الذي يجب التخلص منه بطرده خارج الجماعة أو التضحية به إبعادا للشرور، وهنا لا ينبغي أن نعتبر الأجنبي فقط ذلك الذي اختلف لونه وعرقه ودينه وجنسه عن باقي أفراد الجماعة،بل يمكن أن يكون أحد أعضائها الذي فارق العادة وانحرف عن سلوك العامة، فغذا بفعل النبذ والإقصاء أجنبيا غريبا لا يشرك في إدارة شؤون الجماعة. ونظرا لالتباس صورة الأجنبي في مخيال الجماعة، فسرعان ما تنقلب صورته الآثمة إلى صورة المخلص الذي ينقذ الجماعة من هلاكها، شبيها في ذلك بفارمكوس (Pharmakos) أفلاطون الذي يجمع بين السم والترياق : يمكن أن يكون مهلكا كما يمكن أن يكون شافيا، فهو داء ودواء في نفس الوقت، يقول نيتشه «إن ما يغذي وما يقوي نوعا أعلى من الناس حتما سما بالنسبة لنوع آخر مخالف ووضيع»، فأوديب الطريد الذي نشر وباء الطاعون المعدي لسفاحه، هو الذي سارعت «طيبة» لاستعادته ضمانا لسلام المدينة المهددة بدمار الحرب، كذلك «الكناوي» ذلك الأسود الغريب المثير للأرواح الشيطانية الذي يقبل عليه كل المرضى بالصرع والمس الجنوني ليعيد لهم سواءهم المفقود، والأجنبي الذي ينعت بكل سلوك مشين، والذي يقبل عليه أبناء الصويرة وبناتها للتحرر من طاغوت الهيمنة الذكورية. ف « علي «الذي اكتشف تسامح الأجنبي وحبه للسلام، تخلى عن النظر إلى أخته نظرة ذكورية قاسية تراقب حركاتها وتحصى أنفاسها. ورأت بنات الصويرة في الأجنبي حرية لا حدود لها، يفك أجسادها المحكمة الإغلاق بالمحرمات الاجتماعية والدينية ويعيد إليها خفتها التي ثقلت بتسمين الخصر، كما يفتح مسام الرغبة أمام متعة اللذة التي تبعث في الجسد الفاتر روح الاكتمال المنشود. لقد كانت «عائشة» تنال نصيبها من لذة الجماع مع «طوبي» الكندي بعد زواجين فاشلين، وكانت «سميرة» كغيرها من بنات الصويرة ترغب في الزواج من أجنبي لتتذوق اللذة المحرمة على النساء وتنتشي بجسدها المتدفق بالرغبة : «سميرة من جهتها وعلى غرار فئة كبيرة من فتيات الصويرة كانت تحلم أن تتزوج من أجنبي وترحل عن هاته المدينة (...) بقيت تحلم بالشاب الأجنبي (...) يفعل بها العجب في جسدها المتوهج» (ص 37)، بل صار بعضهن يأملن بالرحيل نحو المجهول المخيف كما رغبت في ذلك إلهام وسميرة والتضحية بالجسد في مرحاب الرغبة على البقاء في حضن الأسرة الخانق. لهذا فالعلاقة بالأجنبي سواء باستقدامه أو بالرحيل نحوه يعيد للذات ترتيب مسافة بعدها عن الآخر ليس باعتباره ذاتا أخرى مفارقة لذات الأنا، ولكن باعتباره عين ذات الأنا ومرآتها التي ترى فيها صورة اكتمالها التي تحررها من الفصام، وتشرعها على تعددها واختلافها، ليس كخصاص نحن في حاجة لملء ثغراته بل كحضور آخر لذوات نتقنع وجوهها، يقول نيتشه : «... إن جسدنا ليس سوى صرح جمعي لنفوس عديدة». فالطريد والملعون والمتشرد أو التائه هم الذين يكتشفون تعدد أوجه الوجود والذات لأنهم ينتمون للأرض التي خلقت منها أجسادهم ولا ينتمون إلى بلد أو وطن يسجن هويتهم في اللون والعرق والدين والجنس. يقول «مافيزولي» بخصوص التيه «فعلاوة على قدرته التأسيسية لكل مجموعة اجتماعية، فإنه يترجم جيدا التعدد الكامن في الشخصية الإنسانية، والازدواجية الطابعة للوجود. كما أن التيه يتخذ أشكالا من التعبير عن نفسه عبر ثورات عنيفة أو كتومة ضد النظام القائم والمستقر، ويسمح لنا بفهم حالات التمرد المسجلة في أوساط الشبيبة». لهذا فضلت «عائشة» الهجرة على البقاء في «وطن يخاف رغباته، يخاف انعكاس صورته في الماء» (ص36)، يخاف اكتشاف المجهول الثاوي في أعماق الذات الذي يروم كشف وجهه في واضحة النهار، واللقاء به ومصالحته. إن السيد «أومنا» الذي لم يمل التطواف بحثا عن شفاء من صرع مستديم، لم يعثر على ذاته المسلوبة بالكبت والحرمان بالزواج من سيدة بيضاء البشرة إلا بإحياء الليلة الكناوية بزاوية سيدي بلال، والتي هي بدورها استدماج لذلك المنفي والمحرم من طقوس وثنية سحرية في صميم الدين الإسلامي القائم على الوحدانية المجردة اللاغية لكل تجسيد إلهي متعدد. فحضور الجنية «لالة ميرة» في رقصات الجسد المسلوب حضور لذلك المنبوذ والخفي الذي تتكتم عليه الذات وسط الجموع المتفانية في ولائها لمحرماتها ونواهيها. لذلك فالجماعة المقننة بالهيمنة الذكورية والتي تجرد الكائن من هويته الأرضية لتسبغ عليه هوية السماء تحرم عليه أن يعيش فرادته وتعدده وأن يحدد قيمته بعيدا عن استحسانها لدى الجماعة. فإذا كانت العزلة والطرد والضرب في التيه والترحال لعنة وعقابا لكل عاص لإجماع الجماعة، فإن الذي استمرأ طعم الابتعاد عن الجموع يدرك بحس الاكتشاف المتواصل لاقتدار الذات، أن جذور المرء تجف إن استظل بشجرة الأنساب والأعراق والأصول. إن العزلة التي هي رديفة التيه والترحال حركة دؤوبة نحو ممكن لا يتحقق، واكتشاف لأرض مجهولة تسكن الذات، لذلك فشرط الوجود الإنساني مقرون بهذا المنفى الوجودي الذي يدفع بالإنسان خارج كل يقين ميتافيزيقي، يرمي لتعقب أهداف في المستقبل أو العودة الممكنة إلى وضعية أصلية، فحين تقول «عائشة» : «إننا نراوغ أقدارنا» (ص56). أو تنتهي الرواية بالإقرار أن الوجود «رحلة عود أبدي إلى أقدار ذاهبة في الرحيل» (ص 195) فهي تعلن عن المصير المجهول للإنسان الذي يجهل مبتدأ المنشأ ومنتهى المآل، ويتحرر بالتالي من كل وهم يربطه بالجموع المنساقة وراء غايات بعيدة المنال، ومن ثمة اختارت «عزيزة» أن ترمي بنفسها في الحشد الهائل من البشر بمدينة «البيضاء» وتتيه في بحث عن وجه جديد لذاتها، غير متعلقة بذاكرة مثقلة بالتأثيم والذنب، مسترجعة براءة الطفولة الخالية من كل تأنيب وحذر، مشرعة أبواب جسدها أمام مغامرات لا تنتهي وأخطاء لا تلتمس الأعذار واختبار نزوات لا تفنى، يقول نيتشه مفصحا عن طبيعة هذا الكائن الأرضي : «عليه أن لا يتملص من واجب اختياراته، رغم أنها ربما أخطر لعبة يمكن أن نلعبها، وأننا في نهاية المطاف نحن من يجري هذه الاختبارات على أنفسنا ونظل حكامها الوحيدين». فكل اعتداد بالذات، تخفف من الواجب تجاه الآخر وبحث محموم عن تجربة وجود جديدة تسمح ب «تجاوز الإنسان المستمر لذاته» والسير في شعاب ودروب ومتاهات لا نهاية لها، بحيث لا يبرح الزمان حاضره السرمدي، فلا ماض يعود ولا مستقبل يأتي، والأرض أرحام تدفع وقبور تبلع، ولا أرض أخرى تنتظر مجيئنا من العدم لأننا من العدم قدمنا وإليه نعود كما هي مدينة الصويرة «عروس خارجة من البحر وعائدة إليه» (ص 8).