إن قارئ رواية « الحكاية الأخيرة» للكاتب عبد الحفيظ مديوني يصاب بتصدع مقروئيته. أول هذه التصدعات هو الاعتقاد في أن الكاتب له تجربة سردية طويلة، وثانيا أن هذا الكاتب ينتمي جغرافيا إلى الهامش المغربي، وثالثا أن كاتبها تجاوز الستين من عمره. ثلاثة مبررات تفيد صداع قارئ هذه الرواية، وفي ذكر الصداع يحلو لنا التوقف عند العتبة الأولى لهذا العمل، لا نقصد العنوان الواضح،وإنما نتوخى النظر إلى الاستهلال الذي تقدمه الرواية. يفيد هذا الأخير جملة، أو بالأحرى يافطة يحلو للكتاب تقديمها أو تأخيرها مخافة من كل شر محتمل. إنه يقر بأن شخوص الرواية لا علاقة لها بالواقع المعيش، فهي إذن متخيلة، وأي تطابق لأحداث الرواية وشخوصها مع الواقع، فهي محض الصدفة، فالصدفة مسكن الكتابة، أو هي إيقاعها الوجودي الخاص. فكتابة الرواية هي الصدفة عينها، لكن لماذا هذا التحذير الواضح في البداية؟ هل هو خوف من قارئ يسقط الطائرة في الواقع كما يقول المثل المغربي؟ أم هو لفت الانتباه للبعد التخييلي والإبداعي في الرواية؟ كيفما كان الجواب في نظرنا فهو يشير إلى سلطة مقنعة تضع علامة قف على مدخل الرواية، سلطة الثقافة العربية في تجلياتها المتعددة. إلا أن قراءة الرواية ستضع تلك العلامة خارج النص. مادامت أسماء الشخوص والأمكنة متخيلة، ولأن الأمر كذلك فتلك العلامة لا تغدو أن تكون تحذيرا من وهم يتسلل لكاتبها. لنبتعد قليلا عن هذا التحذير. ولنتأمل عنوان الرواية. لا لمساءلته، وربطه بلوحة الغلاف. بل في علاقته بالنص ككل. لا حاجة لنا بذكر اعتباطية العنوان، ولكن حين تكون كلمة – الأخيرة – مستفزة. ومنشأ استفزازها يروم حكايا الحكواتي السبع. إن تحديد العدد سبعة يدل على قداسته، مثلما يندفع نحو لا نهائيته، يظهر هذا في آخر الرواية. ثمة إشارات دالة على تلك الكلمة. أولها أن المكان الذي تؤثت به معالمها انمحى، وأن الحكواتي الذي تنتظره البلدة مرة في السنة هيأ طقوس حكايته الأخيرة وتلاهى قبالة الفراغ بمعنى أن حكايته السابعة لم يكتب لها الحياة، لغياب متلقيها . فهذا الأخير هو الذي يعطي للحكاية شساعتها، وتناسلها، وحياتها، وما إلى ذلك. بهذا الشكل نقول إن الكاتب توفق باختياره هذا العنوان. إلا أنه دعا متلقيه إلى إتمام حكاياه. ما دام الحكم يرتق الفواصل والعوالم. هكذا نستطيع متابعة الرواية من خلال نوافذ متعددة. وهي المداخل التي تضعنا على تخوم المعنى، لكن كيف نستطيع متابعة شخصيتين متلاصقتين، ومتداخلتين، ومختلفتين، الكاتب والراوية، فالوقوف على هاتين الشخصيتين يثير أسئلة متعددة أهمها هي: فالكاتب بدون صديقه الراوية لا يساوي شيئا. وكأن هذا الأخير هو الأصل، والأول هو النسخة. صحيح أن الفضاء الروائي الذي ينسجه الكاتب بعيد وقريب من الراوية. يتمثل البعد في زيارة الثاني للأول حين الكتابة، مثلما يكون القرب منه شهادة على صدقية الرواية، وبين القرب والبعد معركة تأويلية. يكون فيها الراوية المؤول الأول لخطوات السارد. إنها مساحة محددة في المقهى. أي حين زيارة الراوية للسارد حين يكون هذا الأخير يكتب روايته. يستمع الراوية ما كتبه صاحبه، معلقا تارة، ومحتجا تارة أخرى إلى حدود توطنه في ذاكرة السارد. فالراوية لم يعد مزعجا للكاتب. بل أضحى قرينه. كما لو كان الراوية وثيقة تاريخية يلتجئ إليها الكاتب حين بدايته فصلا من فصول روايته الممكنة. هل الكاتب هو الراوية؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يصر الكاتب على حضوره في الرواية؟-قد نقول بقليل من المكر- أن الكاتب وجد في هذه اللعبة طريقا لهندسة فضائه الروائي. بين السارد والراوية حوار مثمر. خصوصا إذا اعتبرنا أن السارد يبحث عنه لاستفساره حول أمور عاشتها بلدة عفراء. مادام انتماء الراوية لها. أو هو مالك أسرارها، والعارف بتفاصيل شؤون أهلها. نتلمس ذلك في الصفحات 94-95-96 « مد يده إلى محفظته ليسل منها خرقة قماش بالية مطوية، مددها على الطاولة برفق، كانت ممسوحة الألوان، ممزقة الأطراف، يكاد القدم يبدد أشلاءها، كان يغطي مساحتها لون أصفر حائل، تتوسطه دائرة مكسوة بالأخضر الحائل ( ...) إنها راية عفراء (...) مد يده من جديد إلى المحفظة، وأخرج منها بعض القطع الفضية والنحاسية المستديرة على شكل نقود، كانت ضاربة في القدم هي الأخرى، فقال: تأمل هذه القطع جيدا. نظرت إليها، وذهني مازال مشدودا إلى تلك الراية المنشورة على الطاولة، و إلى ما خلفته عندي من ذهول واستغراب، قبل أن يثير انتباهي ما تحمل هذه القطع من رموز» يدل هذا الاستشهاد أن راوية هو منبع الحكاية وساردها. ليس لأنه قرينا للكاتب. بل في امتلاكه الحقيقة. حقيقة عفراء. نستشف من هذا الحوار الخصب بينهما أن الكاتب لا يستطيع الكتابة إلا بحضور راوية. قد تكون استراحة الكاتب بعد بداية أو نهاية فصل من فصول الراوية. إن الإستراحة تعيدنا إلى مسألة التلقي. ذلك أن هذا الأخير في غيابه يكون حاضرا، مستفزا حين الكاتبة، وهو أمر يفيد الأسئلة حول الشخصية الرئيسة، وعلاقتها بالكاتب والراوية معا. لا عجب إذن أن يفوض الكاتب أمره لراوية. إنه يعطيه القلم كي يكتب ما تبقى من الرواية. فالكاتب يفضح أسرارها منذ الصفحة الأولى، والطقوس المصاحبة لها، المقهى، السجائر، البحث عن الكلمة الأولى التي تحرر قلمه من سلطة واضحة، إضافة إلى الفرضية التي يعرضها. تتمثل هذه الأخيرة في شخصية راوية الذي كان محجوبا عند كتاب آخرين يتم تظهيره والتحاور معه في لعبة مدهشة. إلا أن هذا التواطؤ سينكشف بوضوح. كما لو كان الكاتب يكشف أوراقه للقراء « ما أعظم أن يتواصل الإنسان مع عوالم من صنعه، ويحتك بشخصيات من خلقه، ويتنقل في أكثر من زمان، ويظفر بأكثر من حياة، ويطرق بما تأتى له في ذلك كله بابا من أبواب الخلود، وفي غمرة هذه الخواطر وما انعكست به على نفسي من مشاعر السكينة والاطمئنان، أمسكت قلمي من جديد ورحت أنهي الحكاية» ص 196-197. لا يهمنا من صراحة هذا القول بيان لعبة الكتابة، بقدرما نرغب فتح الطيات التي يتركها. والأحجبة التي يحجب بها الكاتب لعبته السحرية. قد نحيل هنا على شخصية رئيسة في الرواية، وهي شخصية الحكواتي التي تظهر و تختفي على طول النص. فهذه الشخصية مثلا تبدأ وتنتهي بها الرواية، وهذا يحيل على نسيج سحري قريب من العوالم الأسطورية. لا يتعلق الأمر بتظهير الحواكتي قبالة العموم عبر إزالة قناعه ( حوار بين عماد وشاهد). بل في ذلك الحلم الذي حكاه الكاتب في المبتدإ والمنتهى، الصحراء والتيه. والتشيخ علامات تتكرر في الحلين. وكأن منبت الحكايا هو الصحراء والتيه سبيل لبلوغ المعنى والشيخ هو الحكواتي، وهو راوية. ثلاث شخوص يتبادلون الحكي حول بلدة عفراء وتاريخها وما إلى ذلك. كل واحد يحكي هذه البلدة. وكأن السارد هو هو، يلعب بثلاثة أقنعة تظهر وتختفي على طول وعرض النص في لعبة سحرية فائقة. لكون هؤلاء الثلاث يكشفون عن أنفسهم في الحكاية الأخيرة، فالكاتب يوقع هذه الحكاية باسمه. بينما راوية يكشف عن نفسه كشاهد على الأحداث في بلدة عفراء. بينما الحكواتي يظهر إسمه في الأخيرة « خيم الصمت في القاعة، لقد أدرك كل من فيها أن الحكواتي الذي ظل يزور عفراء ربيع كل سنة، لم يكن سوى ذلك الشاب الذي جازف بحياته من أجل فيصل، وكان وراء انتقال هذا الأخير إلى عفراء، وكان، بالتالي، الفارس الخفي الذي تسبب في قيام عفراء ذاتها» ص 181. إن سحرية العمل للكاتب عبد الحفيظ مديوني تتأسس على جغرافيا الحلم. هذا الأخير الذي يشكل بنية لا شعورية في الرواية، ذلك أن فضاء الرواية يكمن في بلدة تسمى عفراء، وهي بلدة تتغيى توطين الحلم في جغرافيتها. ليس من حيث هي كيان يجمع المتمردين من بلدان أخرى، ويعطي للحالمين الهاربين من ميسان مكانا آمنا. بل في دلالاتها الأسطورية، والدالة على رمزيات الراية والقطع النقدية، فهذه البلدة تشكل نقيض البلدة المجاورة ميسان، فإذا كانت الثانية بعد موت أميرها أشرف رمزا للفساد، والقمع.. فإن الأولى تشير إلى قيم التسامح،والعدل، والكرامة، هذا ما يعلنه أميرها فيصل الهارب من قهر المغير في خطاباته السياسية لعموم البلدة. لا تتوخى هذه المقارنة تحصيل الأفضلية، بقدر ما تضع المفارقات بنية دالة في الرواية، فهذه المفارقات هي التي أعطت للرواية ملحها. كما تم تخصيبها بأشكال كتابية تتحول من السحري إلى الواقعي، من سحرية الرواية اللاتينية إلى واقعية نجيب محفوظ. بين هذا و ذاك ينحت الكاتب عالمه السردي لتجريب أساليب متعددة في الكتابة بلغة دقيقة تحتفي بالإشارة تاركة العبارة في الإستهلال، فأسماء الشخوص، والأمكنة، وزمن الرواية لا ترتبط بالواقع. إلا في حدود زمن الكتابة. المقهى هو المكان المفضل للكاتب. في حين تظل أسماء الأمكنة والشخوص دليلا على أسطوريتها. لا نود قياس تلك الأسماء بالواقع، ولا بالتاريخ. بل في البعد التخييلي لهما . بهذا المعنى أثثت تلك الأسماء الرواية، ووسمتها بسحرية فائقة. لا نريد الوقوف على كل شخصية من شخوص الرواية، بقدرما يدفعنا التحليل إلى ضبط تلك المفارقات، إنها تشبه المرايا بين حكاية وأخرى، بين الوجه والقناع، بين الحجب والتعري، بين الأصل والنسخة وغيرها كثير، وفي صيغة بين- بين نحيل على ثلاث شخصيات أعطت للرواية حياة أخرى مثل شخصية، شاهد، عابرة، ....، فكل واحدة يقدمها لنا السارد بتصوير خاص. إلا أنه سرعان ما يعطي نقيضها في النهاية. إن شخصية شاهد ملتبسة وواضحة في نفس الآن، فهو الذي يتقنع بسرد الحكايا، وهو نفسه ابن التاجر أبو الفضل، وهو العسكري المقرب من أمير ميسان المغير، وهو المتواطئ مع فيصل ضد ميسان، وهو عاشق ابنة هذا الأخير عابرة، وهو الهارب من حبها والباحث عن الحكايا في الأصقاع الأخرى، والحكواتي الذي سيتم كشفه فيما بعد. إنه يقوم بهذه الأدوار في تركيبتها المختلفة، وهي بالجملة تنبني على جدلية الوجه والقناع. إنها شخصية مركبة تسير في خطوط متعددة، وتفتح نوافذ التأويل، يتضح ذلك فيما قلناه عن الحكواتي في تخفيه وتجليه، في حين تتخذه شخصية عابرة في موتها بين عشقها الجنوني لشاهد، وبين موتها المفاجئ. هذا الموت الكاشف لتلك الجدلية. أي في القول أنها انتحرت رغبة لستر حملها، والقول أن مرضها بالقلب كان سببا في موتها. الماء هو المرآة التي تكشف لنا عن هذا التقابل المدهش في الرواية. أما الطبيب سحنون المعروف بحبه للمال، والخبير بالطب والأدوية يضعه السارد بين الهدف المعلن من قدومه إلى عفراء، والوجه الآخر من شخصيته التي تنكشف بقتل الأمير فيصل... نحن إذن أمام بنية المفارقات التي تضيء الشخوص والأمكنة، مثلما تنفتح على شخوص أخرى كمقتل الأمير أشرف، وأبو الفضل فيصل ...إلخ، وهي شخوص تتفنن في التقنع. إلا أنها تنكشف في الأخير كنوع من عيار صدقية السارد. هذا الأخير الذي يذعن لملاحظات راوية محاولا استثمارها في كتابته. إنه – أي الكاتب- يضع على طاولته مجموعة من الاختيارات الصعبة. واختيار واحد منها مشروط بالجرأة والشجاعة. هذا ما ينبه إليه شخصية راوية منذ البدء. كما لو كان يريد تحرير الكاتب من توجساته، والتحليق به في عفراء كمكان أسطرته الوثيقة. « كيف ينجح الروائيون في كتاباتهم يا راوية؟ قال، وهو يبتسم: بالجرأة واختيار الوجهات الأنسب في بدايات أعمالهم» ص 31. اللافت للنظر في هذه الرواية هو بعدها السحري، والذي يهندس- صاحبها- عوالمه بالخرافي، والأسطوري، والجميل في الأمر أن هذه البلدة غير موجودة في بلازما الذاكرة، وهي لذلك تتسلل بين الغريب والعجيب لتقوم بعجنهما في حكايا مختلفة. في تناسل حكايا عفراء في بعمارتها، وجغرافيتها المطلة على الصحراء. هذه الأخيرة تضمن للخرافة حياتها، مثلما أن المسير فيها محفوف بالمخاطر. هنا تكون الصحراء ورقة بيضاء يجرب فيها الروائي اختياراته المتعددة. سيكون للحلم قيمته المائزة. بينما يحتل المتلقي الممكن. ما دامت- الحكاية الأخيرة- يحكيها الحكواتي قبالة الفراغ. هذا الذي سيولد قراءا محتملين. ثمة موضوعات لا أريد فتحها الآن. لأن عوالم الرواية مفتوحة على كل الاحتمالات الممكنة. قد يكون الحكواتي أحد ممكناتها. لنتأمل هذه الفقرة» أمضى الحكواتي سبعة أيام يأتي في كل عشية منها على فصل من فصول حكايته السادسة، وقد تفنن أيما تفنن في شد المسامع والأنفاس والقلوب والعقول إليه، بأساليب إلقاء وأداء لم يكشف عنها أبدا مثلما تهيأ له هذه المرة، فتراه تارة متمهلا، وتارة متسرعا، وتارة متوقفا، وتارة مسترسلا، فمنشرحا، فمنقبضا، فساكنا، فمضطربا،فموجزا،فمطنبا،فهامسا،فصائحا،فساخرا،فجادا،فساردا،فمنشدا،فقاعدا، فناهضا،فمقبلا،فمدبرا...حتى يخيل إليك أنه في حصص تنويم سحري» ص 23. أليس هذا التوصيف خاصا بالكاتب أمام اختياراته المتعددة؟ أليس الحكواتي هو الكاتب عينه؟ لنترك الجواب للقادم من القراء المحتملين. سطات في 07/01/2016 * عبد الحفيظ مديوني،الحكاية الأخيرة، مطبعة تريفة، بركان، 2015.