لا أحد من القراء يستطيع تحرير نفسه من الكتاب الذي يقرأه. إنه المرآة العاكسة للصور و المشاهد، خصوصا إذا كانت الكتابة سردا. هناك تلازم بينهما. كأن الواحد لا يمكن النظر إليه إلا حين يكون آخره مقابلا له. إن رواية ذاكرة المرايا للكاتب و المترجم لحسن أحمامة تمرين كتابي ليس لأن هذا العمل هو باكورته الروائية و إنما في التمرينات التي تمرن عليها في مكتبه ليحرسها بغلافين اثنين: واحد أمامي يحمل العنوان، و اسم صاحبه، و الأخير يحرس الكلمات من التدفق إلى ما لا ندري و بينهما يقيم التمرين على أكثر من جهة في هندسة للفضاء الزماني و المكاني، و لغته السردية، و تمكنه من متابعة الخيط من ألفه إلى يائه. ربما أن الكاتب لم تسعفه تمريناته لقول الرواية، أو ربما قام بترويض شخوصه القريبة منه في المكان و البعيدة في التخييل. و بينهما يكون العنوان جامعا للكتاب. يبدو أن الكاتب كان موفقا في اختيار عنوان روايته، فإذا حاولنا قراءته من زاوية التحليل النفسي، سيظهر لنا أن المرايا بيان للآخر السارد عمر الحناوي. إضافة إلى أن الذاكرة موضوعة مستحبة في السيكولوجيا. سيظهر لنا توافق العنوان مع الحكي الروائي ظاهرا منذ الصفحات الأولى حيث يكون البطل/السارد يعيش الرتابة في مدينة كبرى تلتهم الأجساد و الأرواح. مثلما تصنف الكائنات الآدمية و تغلق عليها الاسمنت. لذا يحاول تكسير تلك الرتابة من خلال المرآة الأولى تبث الإشارات و العلامات للإشهار حتى أضحت «متجرا مصغرا للتغذية العامة»(ص.5). سيدخل إلى الحمام لغسل رتابته، سيكون الماء هنا مرآة أخرى تلقي السارد في مساحة من الحيوية و النشاط. و كأنها مرآة تروم إعادة الجسد ليقظته المتوترة. يعود السارد إلى مكانه و يعيد النظر إلى التلفاز، مرآة أخرى يتقاذفها التذكر و النسيان. سيتحرر السارد من الشريط ليبحث في الأوراق و الصور البعيدة كما لو كانت ذاكرة مراياه. لنتوقف عند الظرف الذي وجده في تلك العلبة من لونه الباهت يظهر قدمه، و الذي يتوقف على إيقاظ الذاكرة. بينما اسم المرسل و المرسل إليه مرآة يريد كل واحد منهما رؤية آخره. من علبة الأسماء سيتذكر هذا الكاتب الشاب الذي لا يعرفه إلا عبر الكتابة حتى أضحى صباحه هو صباح آخره يبحث عنه من خلال الرسائل «تملكتني رسائله و كأنني أقرأ نفسي فيها، أو كأنما صوت آخر في داخلي يملي على هذا الشخص كتابة هذه النصوص»(ص.8). يتغيا الكاتب اللعب بالمرآة. و هي لعبة وصل و فصل بين شخصيتين(عمر و رشيد). في تبادل الأدوار في طول و عرض الرواية- سنحاول التفصيل في هذه اللعبة فيما بعد- سنتحصل على هذا في البعد التخييلي للمرآة ينكشف صوت رشيد في حكي سيرته، و هي سيرة لا تختلف عن سيرة المعطوبين في الراهن المغربي. حيث تبدأ حكايته من ضجيج العسكر و دخان الرصاص و الحافلات المحروقة. إنها انتفاضة البيضاء في مارس 1965 ضد قرار وزارة التعليم حتى و إن كان السارد لا يذكرها. إلا أنها تتبدى في إشارات متعددة أهمها التعبير الخاص الذي بدا في هذه الحقبة بعد الإصلاح التعليمي السيء الذكر. يبدأ زمن رشيد بانتفاضة البيضاء حين كان صغيرا. يدخلنا إلى ذاكرة الاسم الذي يحمله ليرسم لنا حدوده الخاصة و العامة في علاقته بالأسرة، و زملائه في المدرسة، و تمرده على المؤسسة المدرسية، و الأسرية. و هذا ظاهر منذ سنه السادس حيث يسرد لنا شغبه العنيف مع الطبيعة و القرية، أو مع الكمنجة التي يحدث بها ضجيجا في البيت. أو على مستوى ضبطه يدخن إلى حدود طرده من المدرسة و حضوره اللافت في سماع الأفكار من أصدقائه في المقهى، و اكتشافه الجسد الأنثوي، و غير ذلك من محكيات متشققة في مرآة آخره «لم أكن أعرف أن الأماكن الأكثر سرية هي الأماكن المكشوفة»(ص.34). ثمة علاقة بين السري و الظاهر. إذ سيكون هذا الذي تم حجبه هو الذي ينكشف بوضوح مثل ما تعريه المرآة قبالة الواقف أمامها. إنها لعبة سيكولوجية يلهو بها السارد منجذبا تارة نحو الحجب، و تارة أخرى نحو تعريته. كما رمزية البياض التي كانت موضوعة نقاش بين أصدقائه في المقهى حيث ينزع الرمز نحو الدلالة و المعنى. لهذا الجدل الصاعد النازل حكاياه و الذي تم بمقتضاه خلخلة هذا الذي تحجبه الذاكرة. ينتقل السارد (رشيد) لرتق خواءات زمنه مع أصدقائه، سيجد في حكاية الساعاتي كتابة الرسائل من عاشق ولهان لفتاة أتته صدفة لسعته بعينيها، حتى لم يعد يقوى على طردها من خياله، هو لا يعرفها. فقط يعرف مقر سكناها. يقف قبالتها و عيناه على النوافذ ينتظر طويلا عساها تفتح إحداها ليشير إليها بالتحية. و لأنه لا يعرف الكتابة جيدا لخروجه المبكر من المدرسة. سيكون فلم رشيد وسيطا بين العاشق و المعشوقة. هنا تكشف المرآة الحيل التي تؤطرها ليكون الكاتب رشيد مرآة تعكس نظرة العشق بينما نظرة المعشوقة محجوبة في المرآة ينتظر بيانها. ثمة كتاب لم يعلن عن اسمه رجوع الشيخ إلى صباه عامر بالحكايا الأيروتيكية. يسرد منها السارد حكاية واحدة. إنها حكاية ملك عاجز جنسيا. و هو أمر لا يستقيم مع سلطانه رغم أنه جرب جميع الأدوية و أنواع السحر دون أن يفك عجزه إلى حدود أن استدله مستشاره الخاص بتجريب العلاج بالحكايا. و ستكون النتيجة مرضية. في المقابل سيجد رشيد تبانه مبللا في صبيحة اليوم الموالي للحكاية. إنه تناص مع ما تقوله الحكاية. فهي إن لم تعالج العليل، فإنها تنسج متعة الفانتازم في الحلم. في الصفحات 54، 55، 56 مشهد مرسوم ببلاغة فائقة يسجل فيها السارد كيفية ارتباط المراهقين فيما بينهم( الرسائل، المتابعة، حفظ الشعر، الحديقة... و غيرها) من العلامات الدالة على تجربة جيل معطوب. مشاهد تتكرر بين الشخصية الرئيسية، و صديقه المنتحر عشقا، و ليلى زميلته في الفصل الدراسي. و هي علاقة تفيد الانتحار المادي و الرمزي. فصديقه انتحر نتيجة سيطرة معشوقته جميلة. لم يستطع الفكاك من عينيها اللامعتين حتى و إن طردته من ظلالها بطريقة بذيئة. بينما علاقة رشيد بليلى تم ترتيبها من داخل المؤسسة التعليمية الخاصة، و الحديقة، و القبل المسروقة في السينما. و هي الأماكن التي سلكها جيل من المعطوبين، الخوافين من السلطات الخفية و الظاهرة. إلا أن هذه العلاقة تم وأدها من قبل الأب( أبو ليلى). إنها تجربة جماعية عاشها جيلنا بحرقة و خوف، بل أجزم إذا قلت إنها السبب الرئيس في القراءة و الكتابة عند الأغلبية. فهي لسعة كهربائية تمس المسامات و الجهاز العصبي. كما أن جمرتها تتقد في المجهول فينا. لا غرابة إذن من كون عمر و رشيد أنموذجين لجيل بكامله. جيل معطوب ينتظر الذي يأتي و لا يأتي. إن قيمته المائزة تتحدد في تمرده ضد كل شيء قائم. حيث تتبدى لهما الكتابة الأدبية جسرا لبيان الحلم و إشعال الرغبة، و خلخلة الرقابة، و التوجه نحو الحلم كرافعة لنسيج التحرر. هذه العلاقة لا تشكل في نظرنا علاقة المرسل و المرسل إليه، بل هما شخص واحد. كل واحد يلهث نحو قرينه. بمعنى أن عمر هو رشيد رغم اختلاف الاسم و الموقع بينهما. الكتابة السردية عند كاتبنا تقيم الوصل بينهما إلى حدود التطابق، مثلما تتغيا الفصل و التناقض كما لعبته المرايا تماما. أو بالأحرى فعمر حين ينظر في المرآة، يجد قرينه، و العكس صحيح تماما. إلا أن المسألة- في هذا التقابل- هو علبة الرسائل و ليس تقابلا عينيا. ههنا نقبض على البؤرة الرئيسية في الرواية بما أنها بيان للتوتر الجواني المقهور ، تحاول المرآة كشف المستور بين شاب يزهو باسمه المنشور في الصحيفة و آخره الذي يبحث عنه في ركام الرسائل. و اللافت للنظر في هذا العمل الروائي ابتعاده عن التجربة السياسية التي وشمت جيلا بأكمله. و هي مسألة هامة في هذا العمل. ذلك أن الكثير من الكتاب الذين تحدثوا عن هذا الجيل ربطوه بمعاناة القهر السياسي. إذا اعتبرنا الأمر كذلك. فهل هذا يعني أن ذاكرة المرايا انفلات من التجربة الروائية المغربية، خصوصا فيما يتعلق بنبش الذاكرة؟ أم أن المسألة تؤول أبعد من ذلك؟ أي البحث عن هذا المنفلت في مرايا الذاكرة. أو بتعبير أصح مع ذلك الذي يظهر و يختفي على سطوحها. لا نريد هنا مقارنة هذا العمل الروائي بأعمال أخرى كان موضوعها الرئيس هو النبش في ذاكرة المعطوبين من جيلنا. و لا نريد إحالة العطب على أبعاده النفسية، و الاجتماعية، و السياسية، و التاريخية. و إنما نود تكسير هذه الأعطاب كي تنكشف لنا المرايا بوضوح. إلا أن هذه الأخيرة في لعبتها الإيروتيكية و الرومانسية تبرز لنا شقوق الكتابة و طياتها و ثناياها التي تخفي التمرد و التوتر و الصداع. و هي بالجملة لعبة حكائية تحن لواقعيتها و تسبح في تطريز أحلامها. كما أنها تقيم قلب شخوصها. و هذا بائن في الشخصيتين الرئيسيتين: عمر و رشيد. إذ يصعب على قارئها التمييز بينهما. كما لو كانا شخصية واحدة. إنه قلب لكاتبها. لنتأمل الفقرة الأخيرة من الرواية:» الشيء الذي يحقق لي المتعة هو الحكي الذي أظل من خلاله حيا، و لو أنني شخصية من ورق. و ما دامت الأوراق موجودة، فأنا موجود رغم أنني فضلت عدم الظهور طوال كل هذه الرواية، قمة العبث هو البحث عني بين ثناياها. فأن ننصت إلى الرواية خير من أن نرى الراوي أو نعرف هويته»(ص122). هل هذا القول هو إعلان عن الكاتب صكوك البراءة من قرائه أو هو موقف تجرأ الكاتب قوله، كي لا يتحرج من القراء المتلصصين عليه. كيفما يكون الأمر بالنسبة للكاتب و السارد معا، تظل الراوية مطروحة في الطرقات منفتحة على تعدد النظارات التي يقرأ بها كل قارئ. حتى و إن كان هذا الإعلان متأخرا في الرواية. فهو لا يعني غير البداية كاستهلال تعودنا قراءته في الأعمال الروائية لحجم موقف المتلقي. عادة ما نقرأ ذلك في الصفحة الأولى من الرواية. في إشارة رمزية تعلن «قف»، أو «تحذير». و كأن الكاتب يتهرب من المتابعة القضائية الممكنة أو البحث عن التطابق بين شخوص الرواية و الواقع. إن جدلية التخييلي و الواقعي مسألة نصية تروم العجن و الخلط مثلما تعطي للنص بريقه النفاذ، و لا تضع كاتبه خارج نصه سواء بتهميشه، أو موته، و إبعاده من الرواية. لكن مع كل هذه التبريرات نجد الكاتب حاضرا في هذا العمل. ليس لأن الكتابة مرآة صاحبها، و إنما في هذا الحكي الذي يطرد الموت من بياض الورق، و يعلن الحياة لجيل من المقهورين، المعطوبين، و الحالمين. جيل يحمل الجثث و الحلم. مثلما يبحث عن إمكانية تحرره من خلال تمرده على المؤسسة التي تفرض عليه ضوابطها. ثمة شواهد كثيرة في هذا النص تبين هذه المفارقات بين الرغبة في التحرر و الخوف من المؤسسة. قد نجد ذلك بوضوح حين التقاء رشيد بليلى و ممارسة الحب المسروق من الزمن المغربي، و حذره من الأثر الذي تركه الجسد الآخر في البيت. توتر ينزع نحو هوية متصدعة. لا تري الوجه إلا لتخفيه. و لا ترى المأساة إلا حين تحويلها إلى ملهاة. إن رواية ذاكرة المرايا تضع قارئها أمام مرآته الخاصة ليرى آخره فيها، كما لو كانت النظرة لا تستقيم إلا من خلالها. لهذا تقدم لنا إعادة النظر في تلك المرايا لا لتنقيتها من الأصداء و الغبار، و إنما لتكسيرها بوعي حتى نرى شتاتنا فيها. فهل نستطيع ذلك؟ ربما حتى و إن كانت الرواية تبرز جزئية بسيطة لذوات تلهث نحو مجهولنا. رواية تمضي في صمت كما الوجه و المرآة تماما. لنعد للصمت حكايته، و للذاكرة مراياها. ذلك هو المهم و السؤال معا. °لحسن أحمامة، ذاكرة المرايا، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، 2014