مفتي القدس يشيد بدعم المغرب تحت قيادة جلالة الملك لدعم صمود الشعب الفلسطيني    "إسرائيليون" حضروا مؤتمر الأممية الاشتراكية في الرباط.. هل حلت بالمغرب عائلات أسرى الحرب أيضا؟        إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسافة الاختفاء في رواية « أرانب المسافات الطويلة» للميلودي شغموم
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 25 - 12 - 2015

يراكم الميلودي شغموم تخييله الروائي عبر تجديد أفقه الجمالي و القبض على الحكايا المتسللة من واقعنا الاجتماعي و السياسي. و هو بذلك يبقى وفيا لمغايرته الابداعية. ثمة ثوابت يظل الكاتب وفيا إليها في مجموع كتاباته سواء على مستوى التقسيم الفضائي الذي ينجز به عمله، أو على مستوى النهل من ذاكرته المرجعية المشتتة بين الخرافي، و الأسطوري، و الصوفي، و لغته الإيحائية التي تقتصد الوصف و لا تنساب نحو جنون الإبداع. كل هذه العوامل جعلت منجزه الروائي موضوعا للقراءة. حتى و إن كان اختفاؤها في مكاتب قرائها. بمعنى آخر تحظى أعماله الأخيرة بمتابعة إعلامية منصفة. و هذا أمر أضحى في زماننا الثقافي المغربي عاديا. لا يهمه المابعد، لكونه ببساطة لا يلهث نحوها، و لا يكتب لإثارة الضجة و اصطناع الحدث. مثلما لا يهمه ما سيكون. بالجملة، فالميلودي شغموم يصنع عالمه التخييلي و سط الرقعة التي يتحرك داخلها. و هي رقعة تستظل بالظل. و لا تبحث عن النور إلا حين يكون ظلام العاصفة قد أرخى خيوطه على الجميع.
لا نريد مشاكسة هذا الظل الذي يموسق الهامش و المجهول بقدر ما نرغب مساءلة روايته الأخيرة الموسومة ب أرانب المسافات الطويلة. لنبدأ بهذا العنوان، لنتساءل عن دلالته، أو بالأحرى عما يربطه بالنص. ليس-في الأمر- بحثا عن التطابق، و لا عن الوصل. و إنما فيما يجمع الشتات و يفصل الأجزاء. صحيح أن العنوان مكسو باعتباطية، كما الاسم الشخصي الذي يحمله كل واحد منا. إلا أننا قد نجد خيوطا مرئية و لا مرئية تقوم بتلحيم الفصل بين الرواية و عنوانها مثلا. أما إذا بحثنا عن المعنى، فإننا سنتحصل على العداء المقنع بين كوكبة العدائين يقدم خدمة لعداء يريد الفوز، أو تحطيم رقمه العالمي بما يسمى في التداول الإعلامي و الرياضي. إنه كذلك في الراوية. كما في سباق المسافات الطويلة تماما، فالأرنب لا يظهر إلا حين خروجه من السباق في الدورة الأخيرة. تكشفه الرواية في الأخير لتضع الجميع أرانب كقاعدة تحافظ عليها السلطة، و تقيم عليها القانون. نحن الأرانب بمعنى من المعاني. و لأنها كذلك فنحن نختفي في السباق، كيفما كان الفضاء الذي نعدو فيه. ما دامت السلطة تنبني على القوي و الضعيف، على الرئيس و المرؤوس، على الحاكم و المحكومين. بهذا المعنى تكون بؤرة الرواية علاجا لها. لا لتضميد الجراح و إسكات الألم، و إنما في الطريقة التي تنكشف فيها في اللاشعور في الحلم و ما تختزنه السلطة فيه.
العنوان إذن طية تحتاج الكي. و هذا لا يتم إلا حين وضع الطيات الرئيسية التي تحجب المعنى و تعلنه. ثمة قضايا وجب الوقوف عليها لمتابعة هذه الأرانب في سباقاتها الطويلة. و أول شيء يفترض علينا ذلك هو تحديد مكان و زمان هذه السباقات. و ثانيا القبض على الثيمة الرئيسية في الرواية و هي الاختفاء، الحجب، الستر. موضوعتان متلازمتان تنزعان نحو الاختفاء في حكايا متقطعة. و التي تنبني على تحقيق بوليسي، و صحفي في تواز مذهل. الرواية بتعدد سرادها تحقق في اختفاء العميد ناصر الفكاك لتتسع إلى حكايا أخرى ترتبط بهذه الشخصية و تبتعد منها. هل نعتبرها رواية بوليسية؟ لا أظن ذلك في رد عوالمها و شخوصها بالمهنة التي يمتهنونها. ربما أن الرواية البوليسية لها مقتضيات-في الكتابة- أخرى. و ربما أن صاحب هذه الرواية لا يندفع نحو هذا الفضول البوليسي، و إنما يرغب مشاكسته، و الولوج إلى عالمه المغلق الذي يخيفنا. و هذه هي القيمة المائزة لها. إن الكاتب يحاول خلخلة هذا النظام الآلي السلطوي من داخله انطلاقا من تخييل مبهر.- الاختفاء إذن- موضوعة محورية و المختفي يلزم البحث عن إظهاره، مثل اليوم الذي تبتدئ به الرواية 31 دجنبر 2002، إنه اليوم الأخير من السنة التي تحجب عقارب الساعة حاضرها و مستقبلها. و بالأحرى هو اليوم الذي يخفي سنة بكاملها. لكن ما دلالة هذا الزمن المعلن عنه في البدء؟ هل هو زمن الرواية؟ أم لاشعورها الغابر في اللازمن؟ بين هذا التاريخ و تواريخ أخرى يكون البحث الذي يختفي بينهما. اختفاء الضابط، اختفاء الدولة البورغواطية (تامسنا)، اختفاء اسم العبيدي، اختفاء أناس في دهاليز السجون و مستشفيات الأمراض العقلية، و اختفاء الأحداث 1965، 1981، و اختفاء الحكواتي الأعمى... إلخ. و اختفاء المختفي كذلك في تلك السباقات الزمنية الطويلة. و هذا كله يفيد خفاء الحقيقة و بيان نقيضها كما الأرانب في تلك السباقات- أو هو على الأكثر- سراب مضلل. كلما اعتبرنا إعلان الحقيقة، كلما فتحت ظلالا وهمية. السارد/السراد عليها لإنهاء هذا الملف المزعج. إلا أن يفتح عوالم أخرى تسكن الأرشيف، و تسبح على شاشة الحاسوب لتظل في البعد الأخير من افتراضات قرائها. لماذا لا نصل إلى الحقيقة؟ إذا افترضنا أن الحقيقة تفترض نقيضها. فهذا يشير إلى تعددها. أو بمعنى آخر، نحن أمام حقائق متعددة. كل شخصية في الرواية تبني حقيقة المختفي من زاوية نظرها. في هذا التعدد يطبخ الكاتب حكاياه حتى لا يقول الحقيقة. أما إذا قالها-بطريقته- فقد وأد قراءه. أو على الأقل بحث القراء عنه لتصفيته نهائيا. هكذا تتأرجح الحقيقة نحو سرابها. و تتشكل هندسيا من خلال التحقيق الذي كلف به بوعزة الضاوي من طرف رئيسه عادل المقدم.
لنعد إلى الرواية مقدمين أسباب التحقيق في هذه الحادثة في اختفاء الضابط ناصر الفكاك. يقدم السارد بورتريها خاصا لناصر الفكاك الذي تورط في ممارسة الجنس على ابنتيه. و تمت محاكمته بناء على جرم زنا المحارم. قد شكلت هذه الحادثة تأويلات متعددة و حكايا مختلفة. و قد أدى الفضول البحث عن هذا الجرم في كل ما يقتصر به من قريب أو بعيد، في أصله و فصله، و هي كلها عوامل لإسكات الاحتجاج الذي يسكن المغاربة في الخفاء. و هذا دال على ما يقترفه البوليس/ المخزن من أفعل قهرية على المواطنين. كما أن هذه الحادثة استقطبت اهتماما إعلاميا تم بمقتضاه التنقيب على الشخصية في ماضيها و حاضرها. ستكون هذه الحادثة المروعة منطلقا سرديا و سيضيف التحقيق البوليسي نكهته الجديدة. الضابط المحقق أمام هول الجرم- الذي ارتكبه رئيسه السابق-سينطلق في بحثه على اختفائه من تاريخه الشخصي، أي جمع المعلومات من المدينة التي ولد و تربى فيها. و في الدار البيضاء التي درس فيها مع معارفه و أصدقائه. و هو بذلك يرغب في أن تكون هذه الفرضية الخيط الوحيد الموصل للحقيقة. سيدخل الزمان و المكان كبعدين حملهما الضابط في تحقيقه. ينتقل بنا إلى مدينة ابن أحمد واصفا إياها و صفا دقيقا انمحت عوالمها بعد ذلك. و لم يبق منها سوى ضريحين يحملان قداستهما المتباينة: ضريح مولاي محمد الفكاك، و ربي يحيى لخضر. و بينهما تختفي الأسماء و الأنهار، و البساتين، و الآثار، و الحكايا... لنتوقف عند انمحاء الاسم كما يسرده الضابط في تحقيقه. و كأن الاسم يحجب المعنى. إلا أن الضابط ينقب على دلالة الاسم، و مرجعها الجغرافي و التاريخي. و الأهم من ذلك هو دلالة الاختفاء المصاحبة لسراد هذه الرواية. اسم العبيدي. و هو الاسم الأصل الذي تشير إلى نواحي بني ملال. ليتم نسيان هذا الاسم و تبديله بآخر الحامل لقداسة منطقة تامسنا في الشاوية: «فقد تم تداول هذا الاسم، (ناصر الفكاك)، في عائلتهم أبا عن جد كخيط رفيع للحفاظ على أصل، جرى نسيانه بالتدريج حتى اختفى تماما مع ناصر الفكاك، و لم يعد أحد يذكر ذلك الأصل رغم استمرار الاسم، أي ناصر، الذي منه، إضافة إلى العبيدي، كانت تتشكل حلقاته»(ص.13). بين الأصل و النسخة مساحة النسيان المختفية بينهما. فالأصل انمحى و تلاشى، و دفن في الأرشيف و الذاكرة. حتى و إن كانت نسخته الأخيرة تحيل على قداسة المكان، و دلالة و رمزية الاسم الذي يحرر زواره من الخطايا و المشاكل. هذا المختفي في العلني/الظاهر، و المدفون في الخرافة هو الذي يحيل عليه المرجع المكاني الذي سيلجأ إليه أب ناصر الفكاك و هو نسخة أخرى من ابنه الحامل لنفس الاسم. إن لجوءه إلى قداسة المكان هو هروبه من الأصل( نواحي بني ملال) حيث سيتحرر من اسمه الأول، العبيدي، ليتزوج من امرأة تحرس عماء أمها و شجرة التين المقابلة لبيتها. سينجب ولدا و ثلاث بنات سيختفين من الأرض من جراء أوبئة ذلك الزمان. هنا يؤثث السارد طفولة المختفي. خصوصا مع الحكواتي الأعمى الذي لا ينفك يسرد تاريخ المنطقة من حيث هي موقع الدولة البورغواطية مفتخرا بذاكرة المكان و مزهوا بآثارها المختفية. إلا أنه هو الآخر سيختفي عن الأنظار لتختفي حكاياه التي بنت ذاكرة الطفل.
ثمة ربط شفاف بين الدولة البورغواطية المسكوت عنها في التاريخ المغربي، و حجب الحكاية حين اختفاء الحكواتي الأعمى. تدفعنا هذه العلاقة لمسألة الاسم و الأثر في تدفق الحكاية و انمحائها. و رغم ذلك فالحكاية لا تموت. إنها تتجدد من خلال سرادها الجدد. أي من خلال الأرواح التي تسكن أمكنتها. إنها تتسلل نحو بناء رمزية الأشياء، كرمزية شجرة التين مثلا. و هي الشجرة المتجذرة تحت الأرض. فجذورها ممتدة كما ظلها. إنها الشجرة المقدسة حسب الشخصية الرئيسية في الرواية. فقداستها تعود إلى قلب الصورة المقدسة في الأديان السماوية. كأن هذه الشجرة هي موقع الخطيئة و ليس شجرة التفاح الذي يذكرها القرآن. هذا التحويل الذي يقيمه المختفي أمام الطبيب المعالج هو ما يحيل على زوبعة الحواس و الحكاية معا. لقد أضحى تحفة مسلية حسب طبيبه المعالج إذ يقول لزوجته أستاذة السيميائيات:»مريض تحفة، يعتقد أن التين هو الذي يحدد مصائرنا و أن التفاحة التي أكل آدم لم تكن تفاحة، بل تينة، بينما البصل دواء لمسالك المصير، تحفة و الله هذا الرجل !»(ص.70). هكذا يكون ناصر الفكاك مخلصا للحكواتي الأعمى و كان ما علق في ذاكرته هو التين و البصل في رمزيتهما المعتددة و التي تظهر بوضوح في الصفحة 19 و 20. كلمتان سحريتان شغلتا بال أستاذة السيميائيات إلى حد اختفائها الهنائي.
تتبدى لنا غواية الكاتب في أسطرة الحكاية. و كأنه يحفر في بواطنها لإعادة حكيها، و القلب الذي يحدثه في ثمارها هناك و هناك. مثلما تبرز دلالة الاختفاء التي تربط بين الحكواتي الأعمى الذي يخفي النظر في الببصيرة. و ناصر الفكاك الذي يرميه الحادث المفتعل في مستشفى الأمراض العقلية، و زوجة الطبيب التي تختفي عن الأنظار. تنتمي هذه الشجرة إلى قداسة المكان. المسألة إذن اختفاء لهذا المحجوب الذي يختفي وراء العقل و النظر. إذا كان الحكواتي الأعمى يحتجب في ذاكرة المكان، فإن ناصر الفكاك سيتم حجبه في مستشفى الأمراض العقلية لكونه مختلا و مجنونا. هذه الأخيرة العابرة إشاريا بالخفاء و التستر. كما الجنين و الجني تماما. إنه (أي المجنون) قد هرب صوابه، و اختفى عقله، و لم يعد يميز بين الأصل و النسخة، بين شجرة التين و التفاح. و في صيغة بين بين يجول بنا الضابط المحقق في عوالمه المفترضة و الواقعية للوصول إلى الحقيقة. في هذا الدوران الذي انطلق من طفولة المتهم إلى وضعه المهني بالدار البيضاء، مرورا بحكايا أصدقائه و زملائه في الدراسة و علاقته بالطقوس اليهودية في الحجرات. حيث يكون الاختفاء ملح الحكاية و موضوعتها الرئيسية. يظهر لنا ذلك في تلصصه ( أي ناصر الفكاك. الطفل) على الحفل المقدس قبالة الضريح اليهودي. يتفرج من بعيد على الشمعة و الوقود المطروحتين للمزايدة، ليستنتج اختفاءهما من المشهد. يسائل سيدة يهودية على خفائهما دون أن يصل إلى جواب ص. 24. ستكون هذه الأخيرة سبب دخوله إلى المدرسة. ثمة مسألة أخرى تؤثث فضاء الرواية في صيغة المؤنث. نساء يصاحبن الشخصية الرئيسية منذ البداية إلى حدود اختفائه النهائي كميمة، مسعودة، صافية، راضية، فضيلة، بالإضافة إلى بناته. إذا كانت المرأتان الأوليتان تحضنان ناصر الفكاك منذ ولادته، فإن حضنهما عامر بالمفارقات( دينية، الغيرة...)، بينما المرأة الثالثة التي سيتزوجها بعد أن انخطف حين رؤيتها لأول مرة. هي القادمة من الأطلس لنسيان تجربة زواجها الفاشل. لترتبط بالعميد الممتاز، و تحريره من سهراته مع الأصدقاء و العاهرات. و إجباره على ترك التدخين و السكر، و إنجابها المتتالي ضدا على رغبته. يقدم لنا السارد صورة كاريكاتورية حول وضعية الضابط في بيته و هي إشارة إلى قلب القوة التي يحتلها في الإدارة و حواشيها، إلى ضعف مذل في البيت. بهذا المعنى تأخذ صافية السلطة القهرية من زوجها-لتمارسها عليه- رفقة أبنائها. ستنتج عن هذه العلاقة انهيار الأسرة من خلال فشل الأبناء في الدراسة باستثناء ابنته الآكلة للورق، و التي ستصبح أستاذة جامعية في كندا. هذه الأخيرة ستكشف حقيقة أبيها و تعلن ظهوره و اختفاءه في أمريكا. بينما تحتل شخصية راضية المكتب المقابل للعميد الممتاز. و هي الأخرى تحتجب وراء خوفها المدمر من زوجها السابق و صديقه المجرم. أما فضيلة فهي المرأة الأخرى للعميد الممتاز التي تحبه و تختفي عنه سواء في علاقات مع الآخرين، أو في زواجها الأول و الثاني اللذين لم يدوما وقتا طويلا لتعود إليه. إنهن المختفيات في مذكراته التي تركها في مستشفى الأمراض العقلية. ألهذا يترك المختفي الأثر؟ قد يكون هذا الأخير هو بوصلة المحقق لإتمام تحقيقه و الذي سيتم بمقتضاه توريط بناته للاعتراف. ستعترف إحداهن بالمكيدة التي دبرت لأبيها من داخل السجن. كان أخوها سجينا بتهمة المتاجرة في المخدرات. و في نفس الوقت يتواجد معه أحد أباطرة المخدرات، و الذي تم القبض عليه من طرف ناصر الفكاك المعروف بشرفه المهني. في هذا التقابل القيمي بين الكومسير من جهة، و أسرته، و تاجر المخدرات الكبير الذي سينتج لنا الحدث. و كأن الرواية تروم تخصيب هذه المفارقات القيمية. لا لتعلن الأخلاق لكشفها في الراهن المغربي، حيث أضحى الشرف مقدمة الاختفاء في السجن أو مستشفى الأمراض العقلية. إنه إعلان الرواية في الصورة المطروحة في الأنترنيت التي يظهر فيها ثلاث رجال لم ينصفهم المؤقت المغربي في العقد الأول من الألفية الثالثة.
لا عجب إذن أن تكون المفارقات بنية دالة على الشيء و نقيضه. ليس لذكر سبيل التناقض و مجراه، و إنما لخلخلة هذا النظام القيمي كنظام سلطة يطحن كل من خرج من القاعدة كالصحفي الذي جوبه سبا و اتهاما بالارتشاء، و البرلماني الذي اختفى عن الأنظار لأنه اتهم زورا، و العسكري الذي فضح فساد الجهاز الذي ينتمي إليه، و القاضي الذي لم يخضع للأوامر العليا، و العميد الممتاز الذي لم يذعن لرغبات زوجته و أولاده بالارتشاء كما زملائه. إنها مفارقات تؤدي بالسارد إلى تقديم الاستقالة. و تدفع الصحفي إلى التنقيب على الحلم في الإنترنيت ، و البحث عن تلك العلاقة السرية بين الجنرال السيء الذكر، و ناصر الفكاك. هل هذا يعني نهاية القيم النبيلة في المجتمع؟ و هل ما زالت شجرة التين تدل على القيم التي تثمرها. تلك هي الأسئلة التي حصرتنا و نحن نقرأ الرواية. لكن الراوية تقول المعنى و تخفيه، بل لا تعلنه إلا لتضعه سؤالا/ أسئلة تبحث عن جواب ممكن. القارئ سيجيب عنه لا محالة. إلا أنه مع ذلك يبقى مؤجلا في المؤقت المغربي. صحيح أن الميلودي شغموم اقتضى التحقيق البوليسي المغلف بالخوف و أشياء أخرى. و هو بذلك يفتح عوالما تخييلية ممكنة في الزمن المغربي الذي يختفي في اللازمن. لقد حاولنا التقليل من المكر و الوقوف على موضوعة الاختفاء في سباقات المسافات الطويلة أو القصيرة سيان. أما الآن فبإمكان القارئ العودة إلى دوخله للبحث عن المختفي فيه. و على من اختفوا في ظروف غامضة أو واضحة. حين كان العدو طريقة للوصول إلى قيمة ما الثورة، السلطة، الجاه، المصلحة، ألخ. لأترك القارئ يبحث عن ذلك، كي أدخل في الرواية لا أقول أني انتهيت من قراءة الرواية، لكنني قد بدأتها الآن و هنا.
سطات، 19/09/2015


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.