لعل ما يميز رواية «العشاء السفلي» لمحمد الشركي هو سمة التكثيف المتمظهر على مجموعة من المستويات، تختزلها بنية الرواية بمختلف مقوماتها وتشكلاتها الدلالية والجمالية والإيحائية عبر منظومة شخوص وأمكنة وأحداث. فالغلاف الزمني الذي استغرقته كتابة الرواية لا يتعدى ثمانية أشهر حسب ما هو مدون في آخر المنجز الروائي (فاس: غشت 85 مارس 86). والتكثيف الذي حضر باقتضاب واقتصاد في ثنايا الرواية لم يسلم منه زمن إنجازها الذي يعتبر جزءا من بنية نص يروم تأثيث فضائه بعناصر، رغم تعددها ووفرتها، لا تسقط في مغبة الحشو الزائد، والإطناب العقيم بل تؤسس لفورة زخم مشرع على عوالم تطبعها الغرابة والطرافة بما تعج به من أماكن وشخوص وأحداث تستمد ثقلها الإبداعي من مرجعيات تاريخية وحضارية غنية بحمولاتها الرمزية والأسطورية المستحضرة لأسماء من قبيل: ابن عربي، ابن الخطيب…وإيزيس، أوزيريس، جلجامش، إيروس…وأمكنة مثل : ضريح سيدي أحمد التيجاني، مقبرة ابن عربي، ضريح ابن الخطيب، غرناطة، فاس، باب المحروق، قصبة النوار، تودرة، غابة الأمازون، قبائل الكونغو، غابة الأمازون، أمريكا اللاتينية… وللمكان حضوره المحوري داخل نسيج الرواية الذي تجسده مدينة فاس من خلال أمكنة غنية بزخمها التاريخي، ومناراتها الحضارية كمقبرة ابن عربي، وضريح ابن الخطيب، وباب المحروق… ففاس بإرثها الثقافي، وطقوسها الحياتية المكتظة بعبق العراقة، الضاربة في عمق القدم والعتاقة شدت إليها الكاتب في إقامة استثنائية لتدوين فصول منجزه الروائي داخل غلاف زمني لا يتجاوز الثمانية شهور. أحداث اتسمت بطابع كثافة تقلصت معها جغرافيا الأمكنة والشخوص، وتقاربت، بل تداخلت عبر خيوط( رفيعة من حكي غني يصدر عن رؤية إبداعية مشبعة بفكر ثقافي وتاريخي مستمد من مرجعيات أسطورية ورمزية لأزمنة تتميز بأصالتها وعراقتها المعرفية. بحيث ردمت الهوة بين القارات ( إفريقيا، أمريكا، آسيا: الصين) وما تزخر به من إرث باذخ وخالد سواء على مستوى رمزية المكان( أعالي الطوغو، قبائل تاراهوما، أهرام الأزتيك، الهرم العالي…) أو على مستوى الشخصيات. فإلى جانب ميزار ومغران اللذين تجمعهما روابط تتأرجح بين التواصل « أنا حاضنتك» والانفلات « لكن وجهك بدا متعذرا على الإمساك» ، تحضر أسماء ذات ثقل حضاري وتاريخي ومعرفي من قبيل ابن عربي، وابن الخطيب، وأخناتون، وعشتار، وجلجامش، ويوبا… ورموز أسطورية ذات قيمة تراثية غنية بحمولاتها الفكرية، وأبعادها الكونية مثل : تموز، إيزيس، ديونيزيس … فضلا عن شخوص ينحدرون من واقع محلي في بعض تجلياته ومسلكياته التي تعكس وقائع يومي حافل بطقوس شائعة ومعروفة مثل الشيخ ذي اللحية الخضراء وهو يدخن السبسي ويرتشف الشاي « كان في المقهى شيخ ذو لحية خضراء وقد تربع بين أصيص البابونج وحوض النعناع، ممسكا بسبسيه المحشو بيد وبالأخرى كأس شاي» ، والشخص الأعمى ، والوسيم ذو العمامة الخضراء بحيث يجترح معهم حوارات لا تخلو من نزعة وجودية وفكرية:» لا شيء يحدث عبثا، وما دمت قد وصلت إلى هنا فلكي ترى وتسمع بنفسك .»(الشيخ ذو الحية الخضراء). « أنت من هذه البلاد؟. نعم أجبته. وماذا علمك الموت؟ أن هذه البلاد سؤال رهيب، سؤال متعدد وشامل.»(يوبا الروماني). « عندئذ يمكنني أن أموت حقا، دون أن تشوش علي مثل هذه الأفعال العقيمة « (الوسيم ذو العمامة الخضراء). وأيضا مع لسان الدين ابن الخطيب. «رشف لسان الدين من شايه وهم بالقيام، فسألته: ما الأندلس؟ عودة أبدية قال. ما السلطة؟ رقصة مقبرية. ما المرأة؟ جزيرة ليلية.» كما أن متن الرواية يكرس طابع الاختزال والتكثيف على مستوى الفصول الثلاثة (وجه ميزار، عرصة ميزار، عشاء ميزار)، وأيضا على مستوى الأشخاص.فميزارومغران هما الممسكان بدفة الحكي، وإن كانت ميزار أكثر حضورا لأنها المستضيفة فإنها تشرك ضيفها كطرف وازن ومحوري في جلسة منفلتة من إهاب الزمن، ونير سطوته، ورتابة امتداداته: « أنا فرحانة لأنك تذكرت ميزار. دمي سهران برؤيتك يا مغران.» وما تلبث أن تدعوه لمقاسمتها شرابا مميزا أحضرته لهذه المناسبة الاستثنائية: « لابد أن تبدأ معي بشراب الصحراء هذا… لقد قطعت أغداق البلح وحلبت الناقة المتوحشة وبحثت عن القرفة البرية سبع ليال… شربتني القدح بالتدريج حتى الثمالة.» ولا يقتصر وجوده على حفاوة الاستقبال» أنا فرحانة لأنك تذكرت ميزار… ثم قدمت لي القدح…» بل على إرساء لبنات تواصل حميمي، وتوق وجداني « اقتربت مني، أخذتني بين ذراعيك بقوة… هززتني بقوة… أحطتك بذراعي واحتضنتك…» يرقى إلى حد الاتحاد في أبعاده الروحية، ومقاماته الصوفية « لم أحس بهذه الرعدة من قبل… ولا بهذا الفناء الكبير…» كما أن لغة الرواية لا تخلو من مسحة شعرية تتجاور فيها الصور بالإيقاع في أبعاد جمالية، ودلالات قيمية وكونية» هل أنت عائدة إلي عبر ليل اللغة الكبير…في السفر عثرت على وجهي العميق، وأطللت على جسدي الآخر…تلقفي سقطتي في حوضك. تلقفيني…أمامي، كانت طوبوغرافيا الموت جارفة…» وتبقى « العشاء السفلي « لمحمد الشركي رواية تمتلك اختلافها وتميزها بفضل ما تعج به من مكونات جمالية، ومقومات دلالية وإيحائية مستلهمة من مرجعيات فكرية وحضارية وتاريخية وعقدية… وصياغتها بشكل، موسوم بالدقة والحذق، في قالب سردي (رواية قصيرة) متجانس ومتكامل. وقد حاولت هذه القراءة المتواضعة إثارة بعض جوانب ومظاهر غناها الإبداعي بحمولاته المعرفية المتعددة والمتنوعة في انتظار مقاربات قادمة قمينة باستجلاء ما تضمره خباياها، وما تزخر به مكنوناتها من جوانب أخرى أكثر عمقا وغنى.