يستبعد ميشيل فوكو طرح الفلاسفة لمسألة الحقيقة. عندما يطرح الفيلسوف مسألة الحقيقة، فهو يتساءل: ماهي الأشياء الحقيقية وما هي الخاطئة؟ السؤال الذي يعني فوكو هو بالضبط السؤال عما يعنيه السؤال عما هي الحقيقة؟ إنه يتساءل: لماذا ينتظم كل شيء في الثقافة الغربية، أو على الأقل لماذا ينتظم معظم الأشياء في تلك الثقافة داخل الفصل بين الخطأ والصواب؟ لم يطرق فوكو موضوع الحقيقة بأدوات المنطق، كما تم فيما قبل، ولا بأدوات السيكولوجيا وتحليل الشعور، وإنما بأدوات التاريخ، ليتساءل ما هو المسار الذي انتهجته مسألة الحقيقة في المجتمعات الغربية؟ ينطلق هذا التناول لمسألة الحقيقة من التسليم بأن لكل مجتمع نظاما معينا للحقيقة، وسياسة وتدبيرا واقتصادا لها؛ أي أساليب منظمة من أجل إنتاج الحقيقة، وأنظمة تتحكم في توليد الخطابات ونشرها وتداولها، وأنماطا معينة من الخطابات تُقبل على أنها خطابات الحقيقة، وسلطات معينة تسمح بإصدار الفتاوى وغربلة تلك الخطابات، وآليات ومنابر تُمكن من تعيين مجال الصدق ومجال اللاصدق والفصل بينهما. لا يتعلق الأمر فحسب بتحديد وظائف المعرفة، وما قد يتمخض عن الخطابات من نتائج، وإنما بالتسليم بأننا لا نعمل ولا نفكر إلا في أنظمة معينة للحقيقة؛ أي بوضع الحقيقة ذاتها كفاعل، أو فاعل الفواعل؛ أي جعل أنظمتها بمثابة القبلي التاريخي الذي يحدد شروط الإمكان، إمكان القول، أو على الأصح إمكان القول كفعل. يتعلق الأمر إذن، بتجاوز الإشكالية المنطقية ?المنهجية وربما حتى الإيديولوجية بهدف طرح سياسي لمسألة المعرفة واقتصاد الحقيقة. إنه، على حد تعبير فوكو نفسه، اقتناع بأن مسألة الحقيقة "لا تكمن في التمييز، داخل خطاب معين، بين ما يمت إلى العلم والحقيقة، وما قد يتعلق بشيء آخر. المشكل هو أن نتبين، تاريخياً، كيف تتولد مفعولات الحقيقة داخل خطابات ليست هي في ذاتها لا حقيقية ولا خاطئة". كان لا بد أن يلتقي صاحب "أركيولوجيا المعرفة" هنا بآليات السلطة، إذ سرعان ما تبين أن الفصل بين ما للحقيقة وما للخطأ، مرتبط في جزء كبير منه بالكيفية التي تتم بها ممارسة السلطة؛ فكان عليه أن ينظر بشكل ملموس في الآليات التي انتهجتها المجتمعات الغربية لممارسة السلطة. وانطلاقا من ذلك، تساءل كيف وفي أيّ مكان وموقع عملت مسألة الحقيقة، وكيف كانت السلطة مولدة لمعرفة؟ لا ينظر فوكو إلى السلطة كقوة تسند المعرفة وتدعمها؛ فالعلاقة بين السلطة والمعرفة ليست علاقة معلول بعلة. إنها ليست علاقة "تخارج"، بل إن القوة تدخل في نسيج المعرفة، ولا تشكل مجرد سند لها. هنا تستمد الأركيولوجيا من الجينيالوجيا مرجعيتها. عندما بيّن نيتشه أن إرادة المعرفة هي إرادة قوة، وأن المعرفة قوة وتسلط، فإنه جعل المعرفة، بما هي كذلك، استحواذا وفعلا، بل وفعلا عنيفا. هاهنا تدخل القوة في نسيج المعرفة ولا تشكل تطبيقا لها. وليس الصراع بين التأويلات مجرد مظهر من مظاهر النضال الطبقي متولد عن التوظيف الإيديولوجي للمعارف على نحو ما يذهب تأويل معين للمادية التاريخية. إن الصراع هنا يتم "داخل" كل نص، بل داخل كل مفهوم. لبلوغ هذه النتيجة، كان ينبغي زحزحة مفهوم السلطة عن مكانه، وعدم الاقتصار على البحث عنه عند نقطة مركزية هي التي تشكل البؤرة الوحيدة للسيادة، وإنما رصده عند القاعدة المتحركة لعلائق القوى التي لا تنفك تولد، بفعل اختلافاتها، حالات للسلطة، إلا أنها حالات جهوية لا مركز لها. هذا ما يجعل السلطة تتموقع في أيّ مكان. فعلائق السلطة لا تتمتع بأيّ نوع من التعالي، وهي محايثة للمجال الذي تعمل فيه. إنها، على حد قول فوكو نفسه، "الاسم الذي نطلقه على وضعية استرتيجية معقدة في مجتمع معين". يبعدنا هذا الطرح لمسألة الحقيقة، وهذا التحديد لمفهوم السلطة عن إشكالية سوسيولوجيا المعرفة التي حاولت، بكيفيات متنوعة، ربط المعرفة بأطرها الاجتماعية. يدخل في هذا السياق حتى أصحاب التحليل الإيديولوجي الذين لم يذهبوا إلى حد وضع التسلط والصراع في نسيج المعرفة، ولم يحاولوا الكشف عن اقتصادها السياسي، فاقتصروا على تحديد دورها الاجتماعي ووظائفها الإيديولوجية، فأهملوا البحث عن مفعولات الحقيقة واكتفوا بتعيين مواقعها، وتحديد قواعد بلوغها، وصور صياغتها اللفظية.