ذكرى استرجاع أقاليمنا الجنوبية    الرباط.. إطلاق العديد من مشاريع التسريع المدني للانتقال الطاقي    حكومة إسبانيا تعلن خطة مساعدات بعد فيضانات خلفت 219 قتيلا    لفتيت: وزارة الداخلية بصدد إطلاق مشروع "هام" يرسخ شفافية وصدقية حسابات الأحزاب    وقفة تستنكر زيارة صحفيين لإسرائيل        وزير الشباب والثقافة والتواصل يحل بمدينة العيون    عندما طلب مجلس الأمن وقف «المسيرة « وأجاب الحسن الثاني : لقد أصبحت مسيرة الشعب    وهبي للمحامين: هل تريدونني أن أنبطح أرضا على بطني؟ ادخلوا للأحزاب وشكلوا الأغلبية وقرروا مكاني    بنك المغرب يكشف حقيقة العثور على مبالغ مالية مزورة داخل إحدى وكالاته    "يوسي بن دافيد" من أصول مغربية يترأس مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط    الوداد يواجه طنجة قبل عصبة السيدات    "الأطفال وكتابة الأشعار.. مخاض تجربة" إصدار جديد للشاعرة مريم كرودي    18 قتيلا و2583 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال الأسبوع المنصرم    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعاً بريدياً تذكارياً بمناسبة الذكرى العاشرة لمتحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر        أخنوش: خصصنا في إطار مشروع قانون المالية 14 مليار درهم لدينامية قطاع التشغيل    الأحمر يغلق تداولات بورصة الدار البيضاء        قرض ب400 مليون أورو لزيادة القدرة الاستيعابية لميناء طنجة المتوسط    التجمع الوطني للأحرار يستعرض قضايا الصحراء المغربية ويشيد بزيارة الرئيس الفرنسي في اجتماع بالرباط    جدل في البرلمان بين منيب والتوفيق حول الدعوة ل"الجهاد" في فلسطين    أنفوجرافيك | أرقام رسمية.. معدل البطالة يرتفع إلى 13.6% بالربع الثالث من 2024    تحقيقات جديدة تهز كرة القدم التشيلية    بن صغير يكشف أسباب اختياره للمغرب    كَهنوت وعَلْموُوت    رئيس الحكومة يستعرض إنجازات المغرب في التجارة الخارجية    التساقطات ‬المطرية ‬أنعشت ‬الآمال ..‬ارتفاع ‬حقينة ‬السدود ‬ومؤشرات ‬على ‬موسم ‬فلاحي ‬جيد    "روائع الأطلس" يستكشف تقاليد المغرب في قطر    وزارة الاستثمار تعتزم اكتراء مقر جديد وفتح الباب ل30 منصب جديد    الاحتقان يخيم من جديد على قطاع الصحة.. وأطباء القطاع العام يلتحقون بالإضراب الوطني    مستشارو فيدرالية اليسار بالرباط ينبهون إلى التدبير الكارثي للنفايات الخضراء و الهامدة بالمدينة    "متفجرات مموهة" تثير استنفارًا أمنيا في بولندا    فن اللغا والسجية.. المهرجان الوطني للفيلم/ جوائز المهرجان/ عاشت السينما المغربية (فيديو)    الأرصاد الجوية تتوقع ارتفاع الحرارة خلال الأيام القادمة في المغرب    غير بعيد على الناظور.. حادث سير مروع يخلف عشرة جرحى    حقيقة انضمام نعية إلياس إلى الجزء الثالث من "بنات للا منانة    أولمبيك أسفي يوجه شكاية لمديرية التحكيم ضد كربوبي ويطالب بعدم تعيينها لمبارياته    القفطان المغربي يتألق خلال فعاليات الأسبوع العربي الأول في اليونسكو        آس الإسبانية تثني على أداء الدولي المغربي آدم أزنو مع بايرن ميوني    الانتخابات الأمريكية.. نحو 83 مليون شخص أدلوا بأصواتهم مبكرا    وزيرة التضامن الجديدة: برنامج عمل الوزارة لسنة 2025 يرتكز على تثمين المكتسبات وتسريع تنفيذ إجراءات البرنامج الحكومي    صاعقة برق تقتل لاعبا وتصيب آخرين أثناء مباراة كرة قدم في البيرو    دقيقة صمت خلال المباريات الأوروبية على ضحايا فيضانات فالنسيا    ترامب يعد الأمريكيين ب"قمم جديدة"    استنفار أمني واسع بعد العثور على 38 قذيفة في ورش بناء    تصفيات "كان" 2025.. تحكيم مغربي المباراة نيجيريا ورواندا بقيادة سمير الكزاز    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ميشال فوكو يلتقي مع قرائه المغاربة في عين الذئاب بالدار البيضاء

لا يشكل هذا العنوان استعارة أدبية، وإنما هو نابع مما يقوله هذا الفيلسوف، الاستثنائي، عن نفسه، أي بكونه قارئ وليس شيئا آخر. كأن القراءة هي العلامة الفارقة التي تؤسس فكره ذي المشارب المتعددة. فهو لا يمتح من الفلسفة ولا من العلوم الإنسانية؛ بل يتعداها إلى مجالات علمية أخرى. لهذا؛ استدعت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك الدار البيضاء، من خلال مختبر الفلسفة والشأن العام، ومجموعة البحث في تحليل الخطاب، هذا المفكر الفيلسوف للتحاور معه في راهننا المغربي. إنها ضيافة باذخة يلتقي فيها الجامعي والعلمي والبحثي لتداول المفاهيم التي أنتجها.
ضيافة تسائل الراهن المغربي والعالمي بعيون ميشال فوكو، بمعنى: هل مازال هذا الأخير يحيى في مجالنا الأكاديمي أم لا؟ وكيف نقيم علاقتنا به؟ إن هذه الأسئلة مرتبطة بشرطها التاريخي، ذلك أن باحثين ومفكرين استلهموا مفاهيمه، واشتغلوا عليها بوضوح كالفقيدين محمد عابد الجابري ومحمد أركون. لذا فدعوة ميشيل فوكو إلى الدار البيضاء ليس دعوة من أجل تبادل الكلام، وإنتاج مثيله، وإنما هي العملية التي تتولد فيها الأسئلة وتتموضع المفارقات، وتُنسَج العلائق بين السلطة والمعرفة والحقيقة. إنها موضوعاته المفضلة، ولأنها كذلك فإن أعطابنا المتعددة في راهننا المغربي والعربي هي ما تجعل المفاهيم الفوكوية جديرة بفلاحتها من جديد. ما دمنا أمام مفكر يستصلح الأرشيف والذاكرة، ويقلِّب الأراضي البعيدة والقريبة باحثا عن المفعولات التي تتمظهر وتختفي داخل تلك الأراضي .
إن أهم ما يمكن استخلاصه من الندوة التي أقامتها هاتان المجموعتان (مختبر الفلسفة والشأن العام ومجموعة البحث في تحليل الخطاب) اللتان يترأسهما ? على التوالي- عبد العالي معزوز، وعبد اللطيف محفوظ ، هو إعادة فتح الجسور بين باحثين وبين ميشال فوكو، ليس لأجل إعادة القراءة، وإنتاج المعنى، بل لأجل فلاحة مفاهيمه من جديد، أي إعادة النظر في قضايا الهامش كالجنس والسجن والمعرفة والجنون والسلطة... وهي كلها مجالات تنعش خيال الباحثين الجدد، وتطلب منهم مزيدا من الجهد، والصبر للنظر فيها.
لا تتعلق المسألة بإضافة المعنى بقدر ما تفيد تحيين مشاكل مطروقة في الجامعة المغربية، ولا تحاول تقديم دروس أكاديمية وإنما تحاول خلخلة هذا الذي يسمى الدرس الأكاديمي. إن هذه الندوة بهذا المعنى تكون داخل السياق الأكاديمي وخارجه، حتى وإن أشرفت عليها مجموعتا البحث في الفلسفة والأدب. بمعنى إذا كان فوكو فيلسوفا زئبقيا، متمردا على المواضعات التي تأسست في تاريخ الجامعة الفرنسية، وإذا كان بعيدا عن الألقاب، فإنه هو القارئ المبحر في الأرشيف والذاكرة، في العلامة والهامش... لذا ففكره يتحول من قارئ إلى آخر. وهذا هو ملح الندوة .
كان الموعد مع ميشل فوكو بمكتبة آل سعود بالدار البيضاء، وكانت التاسعة صباحا ساعة بداية الندوة التي استمرت إلى حدود السادسة والنصف من يوم الجمعة نفسه 31 أكتوبر2014. لقد قلنا إن مجموعة الفلسفة والأدب أقامتا ضيافة لميشل فوكو ، وحتى نكون دقيقين ومخلصين لأشغال الندوة، فإننا نقول إن الضيافة لم تكن باذخة بالمعنى الرسمي لها. فهي دعوة للباحثين والمثقفين والطلبة في حدود الإمكان، أي بالمتاح. بمعنى أن الندوة لن تقم أية جهة ? بما في ذلك الكلّية المنظِّمة ? بصرف درهم واحد عليها. وهذه مسألة تفترض منا مقالا آخر .
افتتح الندوة ذ. عبد العالي معزوز، باعتباره المسؤول المنظِّم، بكلمة أوضح فيها أهمية ميشال فوكو في راهننا المغربي، أي هل مازال ميشال فوكو يحيى في راهننا؟ أو بالأحرى هل نحتاج إليه في مساءلة أعطابنا وتحولاتنا في عالمنا العربي؟ وهل مازالت الأسئلة الفوكوية تشكل سحرا خاصا يجذب الباحثين والمفكرين لإعادة النظر في هذا الراهن؟ صحيح أن ميشل فوكو خلخل تاريخ الفكر الغربي بتحويل بوصلته نحو الهامش، والغريب والمسكوت عنه ...وهي بالجملة المفاهيم التي خصص لها عمره، كالسلطة وعلاقاتها المتعددة مع الجنون والذات والجنس والسجن ... إن استدعاء ? ميشل فوكو ? كما يقول عبد العالي معزوز ? ناتج عن هذا الاهتمام. إنه يقوم بمراجعة المعايير التي سكنت الفكر الأوروبي، وهذا هو عمق فلسفة الاختلاف.كما يقودنا (هذا المفكر) إلى إعادة النظر في البداهات التي تراكمت في تاريخ الفلسفة كالعقلانية، والجنسانية، والتفكير في المرجعيات كالجسد ، والنوع، وتجديد النظر في الدراسات مابعد الكولونيالية (Post colonialisme). إنها المجالات الخصبة التي يقدمها إلينا الدرس الفوكوي، لا لحفظها في ركن من أركان الجامعة، وإنما للاشتغال بها وعليها. فيفي تحليل الراهن المغربي والعربي، وهذا ما ترغب الندوة الوصول إليه، أو بالأحرى ما تتغياه مجموعة الباحثين في الفلسفة والشأن العام ومجموعة البحث في تحليل الخطاب.
بعد هذا التقديم البرقي، سلَّم ذ. عبد العالي معزوز الميكروفون إلى ذ. محمد الشيخ كرئيس للجلسة الأولى. مع هذا ذ. يحس المتتبع لأعمال الندوة بانتباه ملفوف بمتعة خاصة. متعة كامنة في جلب المستمع إلى ما هو قادم أو على الأقل إلى ما قاله المتدخل. محمد الشيخ إذن أعطى للجلسة الأولى طراوة خاصة قريبة من طراوة البحر الذي يلتف حوله ضيوف ميشل فوكو.
ذ. عبد اللطيف محفوظ: فوكو واستراتيجية تأويل الأدلة الايقونية:
استهل الباحث مداخلته بكونه خارج الفلسفة، وفي نفس الوقت داخلها. فهو إن كان ينتمي إلى مجال الأدب، فإن ميشيل فوكو أهداه نصا جميلا من كتاب «الكلمات والأشياء» »Les mots et les choses  «  حول مادة تصويرية قدمها لمتتبعي الندوة. إن موضوعة هذه المداخلة تتمحور حول لوحة فيلاسكيز Velasquez الوصيفات. وقد مهد لها بأطروحة أحد أهم السيميولوجيين وهو ش. س. بيرس (Peirce) والمتمحورة حو أربعة مفاهيم رئيسة: الدال والدليل ، والمؤوِّل (Interprétant)، والمؤشر. شارحا بذلك كل مفهوم على حدة عبر تقديم أمثلة تشخيصية لذلك، كما قدم قراءة للعلائق التي تربط كل مفهوم بالآخر. إن هذا التقديم شكل عتبة أولية للتحاور مع قِراءَة ميشل فوكو لهذه اللوحة التصويرية. وهي قراءة جلبت على صاحبها ردود فعل مضادة من طرف أكاديمي الفنون الجميلة.
إنها قراءة خارج المجال الذي تعوَّدت عليه المؤسسة الأكاديمية، ذلك لأن قراءة فوكو هي عبارة عن دليل فردي يطور دليلا نوعيا، وهي لا تؤشر على سياقات، ولأنه يهدم الدليل باعتباره مؤشرا ليهرب من التاريخ، أي من كل ما هو نسقي، فيحلل النوعيات، ليصل إلى المؤوِّل الدينامي الثاني، وهذا هو التأطير الذي يحكم ذهن فوكو في قراءته للوحة المذكورة .
اللوحة دليل ثابت، أي حدث في زمن وانتهى، لذا لا يمكن قراءته إلا بتحويله إلى حكاية. يصوغ فوكو منها قصة على النموذج البورخيسي ويحوِّل الثابت إلى متحرك وما هو متزامن إلى متعاقب.
تكمن أهمية مداخلة ذ. محفوظ في عامل النظرة » le regard « التي شكلت علامة فارقة في التحولات الكبرى داخل تاريخ الفكر الإنساني، ولأن النظرة هي أساس القراءة، فإن عملية إنعاشها والنظر إليها هو ما يهم ميشل فوكو، أو بالأحرى ما أبدعه المفكر الاستثنائي.
ذ. عبد المجيد جهاد : « كيفية تلقي
الجابري لفكر فوكو «:
لا أدري ما الذي دفع متتبعي الندوة إلى مناقشة هذه المداخلة؟ ربما لأنها مشروطة بزمنها المغربي، وبمفكرها الفقيد محمد عابد الجابري. إذ فتح ذ. عبد المجيد جهاد شهية الجمهور للحوار والمساءلة، ولولا ضيق الوقت وإكراهاته، لاستمر النقاش طويلا.
حاولت المداخلة تبيان كيف قرأ محمد عابد الجابري، منذ كتابة الثلاثيني الأول «نحن والتراث» إلى حدود مشروعه الضخم «نقد العقل العربي»، ميشال فوكو وبالأحرى توضيح كيف اشتغل على مفاهيمه الأساسية.
إن متابعة ذ. جهاد لفكر الجابري أعطاه خارطة طريق قراءة ممكنة: أولا استلهم الجابري المنهج الفوكوي كما ستلهم مفاهيم ومناهج أخرى. وثانيا انتقاده للقراءات التي قُرِئ بها التراث العربي الإسلامي:كالقراءة السلفية والماركسية... وهي قراءات انتقائية واختزالية، وإيديولوجية، لا يهمها من التراث سوى إثبات صلاحية مناهجها هي وأطروحاتها. وثالثا: إن معركة قراءة التراث تفيد في صراع السُّلط. من هذه الاعتبارات وقف الجابري على حدود المكتبة التراثية لاستجلاء المعنى الدفين فيها، أو بالأحرى المعنى الذي قيَّد راهننا العربي.
انخرط الباحث كلِّية في مشروع الجابري وفي مجموعة من المفاهيم الدالة، التي تربطه بميشل فوكو، كمفهوم التاريخ الذي اعتبره العرب تاريخا خطيا، ومتتاليا يربط السابق باللاحق، بالشكل الذي عودتنا عليه المدرسة التقليدية في تاريخ الأدب من قبيل: الشعر الجاهلي، والشعر الأموي، والشعر العباسي وهكذا دواليك. إلا أن هذا الفهم للتاريخ سيتخلخل مع الجابري في «نحن والتراث» باستلهامه مفهوم القطيعة الإبيستيمولوجية. لن ندخل في كيفية استعمال هذا المفهوم إجرائيا في مجال التراث العربي الإسلامي بين مدرستين، واحدة في الشرق والأخرى في الغرب الأندلسي، وهو المفهوم الذي أنتجته الإبيستيمولوجيا الباشلارية للحديث عن تاريخ العلم. مثلما لا مدعاة إلى ذكر الانحرافات التي سقط فيها الجابري أثناء هذا الاستعمال .
كما بيّن المتدخل دلالة مفهوم الإبيتسمي كما ورد عند ناحته والمعنى الذي اتخذه مع الجابري. وقد حاول تبيان الفرق القائم بين المفهوم في الأرض التي أنتجته والكيفية التي انتقل بها إلى مجال معرفي مغاير. هكذا صارت المداخلة كشفا للمنزلقات المنهجية والمفهومية التي سقط فيها «نحن والتراث»، وهي منزلقات تتوحد في كون الجابري، وإن كان ينتقد بشدة القراءات الانتقائية للتراث العربي الإسلامي، قد ظل ? هو الآخر ? انتقائيا.
ذ. محمد مزيان:»مسألة الذات في فكر فوكو»:
انطلق ذ. محمد مزيان (جامعة القاضي عياض/مراكش) في مداخلته من التساؤل عن مفهوم الذات في تاريخ تشكله لدى فوكو. فمن جهة؛ حدد منزلة هذا المفهوم في فكر ميشيل فوكو، فبين حدود الذات في مرحلة النقد الإيبستيمولوجي بالوقوف على تلك الانتقادات الموجهة إليها من طرف العلوم الإنسانية والمجالات المعرفية المحايثة لها. ومن جهة ثانية؛ وقف عند انشغال فوكو بالذات التي نفتها أعماله الأولى. إن الإشكال الذي راود هذا المفكر هو مسألة الذات في علاقتها بالحقيقة. ومنطلقه في مساءلة هذا الإشكال يرجع، حسب المتدخل، إلى سؤال: «ما الأنوار؟». إنه سؤال عن «من نحن هنا؟» وهو يختلف عن السؤال الكانطي: «من أنا؟». من خلال هذا السؤال تتبين جِدَّة هذا المفكر في قلب المعايير التي دأب تاريخ الفلسفة على ترسيخها. ليس في التصور الذي اتخذته الذات، والمواصفات التي خلَّفتها، ومارستها، وإنما في وضع البحث في عمق الحدث، باعتباره اللحمة الفعلية للتاريخ. لذلك؛ يستشكل الباحث مسألة الذات الفوكوية على النحو التالي: ما هي الكيفية التي ترتسم بها صناعة الذات في تاريخ معين، وبقواعد خطابات متعددة؟ وهنا يكون نظام الخطاب هو الشرط الرئيس لإمكان الذات. لا عجب إذن أن تكون علاقة الذات بالحقيقة هي المستهدف من النقد، وكذلك الشأن بالنسبة لنسق مفهوم التاريخ من حيث هو اتصال وتاريخ للعقل ليتبين أنه تاريخ عقلانيات جهوية. ولذلك فالخيط الناظم لفكر هذا المفكر الاستثنائي ليس هو السلطة كما يقال بل هو الذات، لأن البحث في السلطة لا ينبني على تحديد ماهيتها، بقدر ما ينبني على تحديد كيفية تشكلها وتصرفها .
إن مقاربة ذ. مزيان لهذه الموضوعة لا ترتبط بسرد موضوعي فقط، وإنما بوضع الذات أمام مرآتها، سواء في مفعولات السلطة التي تشكلها، وفي كيفيات المقاومة. ولا يتعلق الأمر بجدلية الخضوع والمقاومة ولا حتى بالعلاقة بين الذات والسلطة، وإنما بتفجير هذه الثنائيات. إن هذه المداخلة تقدم لنا إمكانية لتجديد المشروع الفوكوي عبر إيقاظ أسئلته المتفجرة، وهذا لا يستقيم إلا بإعادة تشكيل حرب العصابات المعرفية في مجالنا وفضاءنا العربي.
ذ. سعيد لبيب: راهنية فوكو
في مجال دراسة النوع:
حاول هذا الباحث الشاب تخصيص مداخلته بمجال جديد. نعني بذلك موضوعة النوع / الجندر باعتبارها موضوعة استقطبت اهتمامات كثيرة في العقود الأخيرة من القرن الماضي. ولأن الأمر كذلك فقد وجد الفكر النسائي ?في نضجه? في ميشيل فوكو دعامة رئيسة، ليس فقط في مجريات البحث المعرفي، وإنما في التغيير أو التحوُّل الذي طرأ على هذا الفكر. وقد انطلق المتدخل من سؤال مقام النوع من خلال سيمون دوبوفرار باعتبارها إحدى الكاتبات والمناضلات النسائيات، منذ أواخر الستينات من القرن الماضي. ولا يتعلق الأمر بتصورها للجنس والآخر، بل بتبيانها أن مفهوم الهوية إنما هو نتاج لميتافيزيقا الجوهر، وليس نتيجة للواقع. فدوبوفوار هي المدخل الذي مهد به المتدخل لموضوعته، التي سيبين فيها علاقة المفكرة النسائية باتلر بأطروحات ميشيل فوكو. وهي العلاقة التي لا تفيد في إتباع أثر هذا المفكر، بل في جعل قضاياه وموضوعاته نسبية بامتياز. إننا أمام مساءلة المعايير والقيم باعتبارها نابعة من السلطة وخاضعة لها.
إن المنطق الداخلي لمقاربة ذ. سعيد لبيب يتأسس على تفجير المواضعات التي دأب التاريخ على ترسيخها في الوعي واللاوعي، من هنا ربط مفاهيم القومي، والهوية، والجنسي، والشخصي، بالتاريخ والمعايير التي أنتجها. إنها مربوطة بالسلطة. ولأنها كذلك فقد استدعت باتلر ميشيل فوكو لتفكيك هذه المفاهيم ، عبر كشف السلطات الثاوية خلفها وأهمها اللغة التي تتحرك بين المذكر والمؤنث، والتي تفرض علينا ما يجب قوله وما لايجب. ومادم هذا هو الوضع الذي يحدّد اللغة فإن الشاذ سيُطرد من هذه اللعبة الخطابية ليعلن أن هويته خارجةٌ عن الهوية، كما لو كان محايثا للهاوية. وإذن كيف نسمي المخنث؟ هذا الموجود بين بين. ألا يعني ذلك نوعا من تأزيم الخطابات الميتافيزيقية؟ أو لا يعني هذا القول إعادة النظر في المفاهيم المؤسَّسة على الحقيقة، والتاريخ ...ثمة مقاربات متعددة لسؤال النوع، وقد نجزم ? مع الباحث ? أن ميشيل فوكو حرر الخطاب النسوي من تصوراته الأيديولوجية وأدخله إلى تمحيص النظر في المعايير التي حفظتها السلطة في الأرشيف. ألم تقل سيمون دوبوفوار أن التاريخ هو الذي صنع المرأة كآخر للرجل وكمختلف عنه، وهو الاختلاف الذي يخضع للمفاضلة!
* ذ. دخيسي عبد المجيد: الاعتقال
والرقابة الاجتماعية في نظرية فوكو:
من استعباد الأفراد إلى تدجين الجموع:
قارب ذ. عبد المجيد دخيسي مسألة راهنية فكر فوكو وتلقيه من ثلات زوايا. تتعلق الأولى بتسليط الضوء على الموقع النقدي الذي ينطلق منه فوكو، المتمثل أساسا في انتقاده الإبيستسمي الذي ينتمي إليه وانتمائه في الآن نفسه إلى هذا الابستيمي. وتتمثل الزاوية الثانية في تبيان منهجية العمل الذي قام به فوكو، المتمتلة في استعمال المفهوم المجرد لتحليل الواقع، وهو ما يظهر في كونه انطلق من مفهوم الحرية ليختبره على محك العقلانية، ويختبر هذه على محك الحرية. لذلك كانت نقطة انطلاق أبحاثه هي القبض على بداية الحداثة باعتبارها كشفا غير مسبوق للحرية والعقلانية. وقد تمثل ذلك في ظهور الإنسان باعتباره هو أساس الحقيقة والسلطة والقيم، فإذا كانت العقلانية تقوم على كشف الروابط القائمة بين الأسباب والنتائج فإنها تصير هي نموذج تفسير كل ما يحدث في العالم، وهذا هو ما يجعل الإنسان هو محور السببية لأن أساس الربط بين الأسباب والنتائج التي تحكم نظام العالم يقوم في هذا الإنسان وليس خارجه. كما أن مظاهر الحياة الثقافية الغربية قد خضعت لسيرورة كبيرة من الأنسنة تجلت مثلا في إحلال المقصلة محل أشكال التعذيب التي كانت تهدف إلى التخويف وشرعنة النظام السياسي اللاإنساني، فالمقصلة تقصد إزهاق الروح بأقل ألم ممكن لأن الحساسية الإنسانية الجديدة لم تعد تقبل بهمجية النظام العقابي التقليدي اللاإنساني. هكذا وضعت العقلانية نهاية للسّرديات التقليدية وأفقدتها معناها. فاكتسب الإنسان حرية غير مسبوقة، بفضل العقلانية التي حررته من الإقطاع واللاهوت والطبيعة. غير أن هذه العقلانية لم تحقق المعنى الأصيل للحرية، وهنا تكمن أبعاد الزاوية الثالثة التي تناولها ذ. دخيسي في مداخلته. إذ إن العقلانية قد انقلبت إلى لاعقلانية مدمرة للطبيعة وللمعايير وللهوية وللمجتمع، وانقلبت إلى أشكال مهولة من الاحتجاز وتطويع الرغبات والأجساد في نظم قانونية وأخلاقية، كانت العلوم الإنسانية هي الوريث الشرعي لخلفياتها القمعية والعقابية التي ظلت خفية وناعمة. وهذا ما يفسر إمكانية استثمار عمل م.فوكو وتلقيه في لحظة تاريخية لم يعشها هو ولم يقدم بشأنها أية «أقوال أو كتابات»، والمقصود هنا هو العولمة التي صنعت أشكال جديدة من العنف الناعم والاحتجاز والتسلط الخفيين والتدمير المهول، فعندما أمسكت العقلانية الاقتصادية المالية (الأبناك، الشركات المتعددة الجنسيات..) بزمام الحياة الإنسانية، روجت لحرية وهمية تقوم على أن يعتنق كل واحد الثقافة التي يشاء ويتبنى الهوية التي يريد، لكنه يبقى واقعيا سجين الديون، ومعتقلا في العمل، وفي المدرسة، إلى درجة أنه يحتجز في فردانيته وخصوصيته. وهذا هو آخر أشكال التطويع والتدجين الذي بات يميزها لأنها باتت تخضع الجماعات وتحولها إلى جموع وحشود مدجنة وطيعة. وبذلك صارت العقلانية الحداثية لا إنسانية وضد الحرية.
* ذ. محمد الشيخ: فوكو و نقَّادُهُ:
لا يند الطابع الألمحي لفلسفة فوكو عن النقد، بل إن انتقاده يمثل العلامة الحق على الحياة التي ينبض بها فكره، هذا هو المنحى الذي سارت فيه مداخلة د. محمد الشيخ تحت عنوان «فوكو ونقاده» وقد تبين أن تعدد قراء فوكو يصاحبه تعدد نقاده فسارتر يتهمه بالرجعية، وبياجيه يصفه بالبنيوي دون بنيوية، ودريدا، الذي حاوره حول الجنون، اعتبر قوله استمرارا للخطاب الذي اعتقل المجنون وحل محله، وبودريار دعا إلى نسيانه مادام يعتقد في وجود السلطة في الوقت الذي لا وجود فيه إلا لوهم السلطة... وهناك آخرون مثل ليوتار، وهابرماس، والآن رونو، ولوك فيري، ومارسيل غوشيه، وتشالرز تايلور، وريرشارد رورتي... من بين هؤلاء اختار ذ. محمد الشيخ إخراج أحد النقود على فوكو من غُمرتها وتبيان عمقها، وهو ذاك الذي أنجزه ميشال دو سيرتو الذي تساءل لا عن علاقة السلطة بالحقيقة كما فعل فوكو بل عن علاقة السلطة بالاعتقاد وعن دور هذا الأخير في إنتاج السلطة والمعرفة. فدوسيرتر يلتقي مع فوكو في جملة من المميزات، فهو متعدد المشارب المنهجية والفكرية، الأنتروبولوجية، والاهوتية، والسوسيولوجية، والتحليل النفسي. ويعتبر نفسه باحثا ذو تكوين تاريخي، وهو مفكر غير قابل للتصنيف. اهتم كما فعل فوكو بالمجنون والهامش، وبالفن التشكيلي، ودارت أبحاثه في مجملها على الغيرية، إذ كان يرى أن التفكير إنما هو تفكير في الآخر، وعبور إليه. لكن هذا اللقاء بين المفكرين معا يحجب اختلافا دقيقا بينهما يبرز في كون دوسارتو قد وجه نقدا قويا لفوكو يمكن إجماله في ثلاثة انتقادات. يقوم أولها في أن العلاقة بين الخطاب السياسي والخطاب الإيتيقي ليست هي الوجهة الملائمة للنظر في مسألة السلطة، بل إن العلاقة بين السياسي والديني هي الملائمة لذلك لأن السياسي والديني يتحدّدان معا بكونها خطابين شموليين يستوعبان مجمل تفاصيل الحياة ويهتمان بمعناها ولأنهما معا يتناوبان على السلطة إذ عندما يعجز رجل السياسة يسد مسدّه رجل الدين مكتسحا مجال السياسة ومهيمنا على فضائها وصانعا لتفاصيلها.
ويظهر النقد الثاني بعد صدور كتاب «الكلمات والأشياء» الذي وصفه دو سيرتو بالكتاب اللامع وصاحبه باللامع أيضا، بل وبأنه مفرط اللمعان، وهذا ما يجعل، حسب قوله، أمرا بداخلنا يقاومه. إذ يشتغل فوكو في هذا الكتاب وكأنه آلة استدلالية لا تتعب من إيراد الحجة وراء الحجة، بحيث إن هذا الإصرار المحموم، حسب دوسيرتو، على الاستدلال، يخفي خللا معينا في الفيلسوف لا يجد سبيلا إلى مقاومة أو حجبة إلا إغراق القارئ في لجة من الدلائل.
ويتوجه النقد الثالث إلى تبيان حدود العمل الذي أنجزه فوكو بل إلى تبيان كيف أن فوكو يذهب ضحية فكره، لذلك فدوسيرتو يسأل فوكو عن الموقع الذي يحتله وهو يفكر، وعن الجهاز الذي يتحكم في خطابه الذي يُعمِله آلة جهنمية للنقد، وهنا يذهب دوسيرتو إلى أن فوكو ينطلق في نقده من هاوية لا يدرك أنها كذلك، بل إنه دائما يقف على الحافة فيكون بينه وبين الوقوع في الهاوية خيط رفيع، هذه الهاوية هي التي ينطلق منها فوكو عندما يمارس نقده. لذلك فدوسيرتو يطرح سؤالا ماكرا يقول: هل نبي الإبيستيمي هو من سيصير فيلسوف الإبستيمي؟ وهنا تنبسط أمامنا المسافة الفاصلة بين النبي والفيلسوف. فإذا كان عمل فوكو يبدِّد سحر السلطة، والمعرفة، والمؤسسات والقواعد فإنه ينقلب هو نفسه إلى سحر، لأنه مراقبة أقوى من المراقبة التي ينجزها إبيستيمي العقلانية المدجِّن للأجساد والرغبات إلى درجة أن هذا الإبيستيمي يجد في فوكو امتدادا له ليتقوى من خلاله، ومن هنا يصير عمله هو أرقى أشكال السلطة والمراقبة التي انقلب إليها الإبيستيمي الذي أراد هو تبديد سحره.
* ذ. معزوز عبد العلي: راهنية فوكو من خلال أنطولوجيا الحاضر:
ليس انتقاد فوكو علامة على أن فكره متجاوز أو بائد لأن حياة كل فكر إنما تقاس بمدى تفاعله مع أسئلة الحاضر وإجابته عنها ويظهر أن فوكو لا يريد لفلسفته أن تكون فقط إجابة عن أسئلة الحاضر بل تدخلا في هذا الأخير وتغييرا له. إن تبيان هذا البعد في فلسفة فوكو هو المنحى الذي سارت فيه مداخلة ذ. عبد العالي معزوز التي انطلقت من السؤال التالي: ماذا تمثل فلسفة فوكو اليوم؟ ويظهر أن الإجابة عن هذا السؤال تقصد الإقامة داخل فكره للقبض عليه من داخله والانطلاق به جهة حاضرنا نحن الذين نسائله اليوم.
يبدو أن راهنية فوكو ترجع، حسب ذ. عبد العالي معزوز إلى الجهاز المفهومي الذي أبدعه للقبض على الراهن، وللدخول في عمق الحاضر بمعناه الأنطولوجي، لا الزمني، لأن الحاضر هو ما ينبسط أمام الذوات التي تفكر وتنتقد وتتدخل، وهو ليس لحظة عابرة من لحظات الزمن، بل هو مجموع أبعاد الثقافة والمؤسسات والأفكار، والأفعال والحساسيات التي تغطي كافة مجالات الحياة في زمن معين. ومجموع هذه الأبعاد هو ما يحدِّد للذوات أفعالها، وأحلامها، وحركة أجسادها، ويوجه أفكارها. إنه في النهاية هو ملتقى خطابات متعددة. إن اكتشاف حدث اللقاء هذا هو ما يتم عبر فن الخروج من النسق، ومراجعة البدهات، والخطابات، أي عبر انتقاد السلطة التي تأسر أفكار الذوات قبل أن تأسر أجسادهم فتلبس لبوس الحقائق، بل إنها تتستر داخل منطق الحقائق الذي يستعصي على الفكر التفلت منه فيتحول إلى مدافع عنها حتى في اللحظة التي يعترض فيها على مظاهرها.
ما يمكن أن نستعيده في راهننا من فلسفة فوكو حسب ذ.ع. العالي معزوز هو التوقف عن تأمل الأبدي والانعطاف جهة تشخيص الحاضر، وانتقاد أقوالنا وأفعالنا وأفكارنا، وعرضها على محك تاريخنا لتبيان أنها ليست تتجذر في عالم خالد لا يطاله النقد، وإنما هي نتاج صراع القوى وإرادات السلطة، وأنها النتائج المترتبة عن استراتيجيات الهيمنة القائمة في مجموع تفاصيل حياتنا. ولذلك فالفلسفة هي خروج من القصور إلى النضج وتحرر من العبودية المختارة وانعتاق منها، ونزع السحر عن السلطة ومحاصرتها في قلاعها الخفية.
* لقد كانت المأدبة الفكرية التي استضافتنا إلى الجلوس مع مفكر فذ رصين متضلع من مختلف المعارف فرصة لتجديد السؤال حول القضايا التي تهمنا كإنسان. ورسم المسافة اللازمة التي يقتضيها فكر يتيح لنا الحياة. فالعالم الذي نعيشه يغرقنا بالصور والأيقونات التي بدل أن نراها ونشاهدها تتحايل هي علينا فتصير هي من ترانا وتراقب حركتنا، فترسم لأعيننا مجالا مخصوصا للرؤية. غير أن ذلك لا يعني فشلنا في استعادة أنفسنا من أطرها. هذا هو الدرس الذي يعلمنا إياه فوكو المنتبه جيدا إلى عالم الفن التشكيلي وما ينبض به من فكر يتصرف بعيدا عن الكلمات. وتقتضي مسيرة استعادة الذات إصاخة السمع للعمل الذي قدمه فوكو، الذي يقوم من حيث المبدأ على النظر إلى الفلسفة كتشخيص للحاضر وليس كتأمل للمطلق. إنه تنبه إلى الميزة الطِّبِّية للفلسفة في أصالتها. وليس ذلك يعني أن الحاضر هو الآن المعلق في الهواء بل هو جماع خيوط عدة يمثل التاريخ مؤلفها. ومن اللازم التنبه إلى أن هذا الحاضر ليس أمرا آخر غير طيات الفكر الحديث والخطابات الموازية له التي تشكلت منذ ديكارت كما أعلن عن ذلك إدموند هوسرل ذات أزمة. ولذلك لا غرابة في أن يهتم فوكو بمسألة الذات في الحداثة. إذ هنا مولدها وفي الآن نفسه اختفاؤها. لقد وُلِدت منتصرة بالعقلانية والحرية. غير أن العقلانية هنا كانت ضيقة نسبة إلى رحابة الحرية. فقد تجلت نظاما قائما على مراقبة الأجساد ورغباتها من أجل تطويعها وتدجينها وسجنها واعتقالها في نموذج معين للإنسان. لذلك كان لزاما تبديد سحر السلطة المحددة للأنظمة والمعايير واختراقها، ومراجعة البديهيات والعنف المستميت حتى في أعذب الأفكار وأشدها استجابة إلى المنطق والعقل. لذلك تمثل المراهنة على فوكو من خلال استعادة مفاهيمه وجرأته على النقد فرصة لا مثيل لها للتفكير في الاختلاف الجنسي والمؤسسي والثقافي، بل وفرصة لتجديد فكر فوكو عبر انتقاده والتفكير معه وضده. وليست هذه المراهنة إلا تلك المقاومة التي يضطلع بها الفكر ضد كل تطرف في العقاد والأفكار، وضد ليل أفلت فيه قيم الحرية وأنوارها. وحتى تحيى الأعمال التي قُدّمت في الندوة حياتها الطبيعية فإنها ستنشر في عمل خاص إلى جانب أعمال أخرى ستُنجَز في إطار برنامج سنوي من الندوات يشرف عليه مختبر الفلسفة والشأن العام ومجموعة البحث في تحليل الخطاب، بكلية بنمسيك جامعة الحسن الثاني المحمدية- البيضاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.