نقل عن وزير العدل أنه عازم على تقديم مشاريع القوانين التي أطلق عليها «قوانين الشكل» أمام البرلمان في هذه الدورة الخريفية، ويراد ب« قوانين الشكل» كل من قانون المسطرة الجنائية وقانون المسطرة المدنية. وللتذكير فلقد سبق لي أن نشرت مقالا في جريدة الاتحاد الاشتراكي حول التراجعات التي حملها مشروع قانون المسطرة الجنائية، والتي وصلت إلى 23 تراجعا ، وهو المقال الذي نشرته بعد ذلك جريدة الصباح وبعدها جريدة أخبار اليوم، كما تداولته عدة مواقع الكترونية . و بعد عملية النشر المتعددة في الصحف و المواقع الالكترونية طلب أحد السادة القضاة العاملين في ديوان السيد وزير العدل نشر رد على مقالي ذاك، وهو ما قامت به جريدة الاتحاد الاشتراكي فعلا و نشرت رد السيد القاضي المحترم . واليوم سأحاول بواسطة هذا المقال، الإطلالة على بعض المقتضيات الجديدة في مشروع قانون المسطرة المدنية، وهي المقتضيات التي لها علاقة مباشرة بمجال عمل المحامي، آملا أن أعود إلى باقي المقتضيات المنظمة في مشروع قانون المسطرة المدنية فيما بعد. والمجال الذي سيغطيه هذا المقال يهم بالأساس مجال الاختصاص القانوني لتدخل المحامي في العملية القضائية و العدلية، لنتبين هل مشروع قانون المسطرة المدنية المقدم من قبل وزير العدل أتى ليوسع من اختصاصات تدخل المحامي ، كما فعلت حكومة ادريس جطو مثلا، أم أتى بعكس ذلك من أجل التقليص من مجال تدخله في أطوار المسطرة القضائية. إن القراءة الأولية لمقتضيات المادة 44 من مشروع قانون المسطرة المدنية ومقارنتها مع القواعد القانونية المماثلة في القانون المنظم لمهنة المحاماة، تدفع إلى ملاحظة أن مشروع المادة 44 المذكور فيه: - خرق للدستور - مس بهيكلة وفلسفة التشريع - مس بورش تحديث الدولة وإعمال مبادئ الحكامة - حرم المواطن من المساعدة القانونية و القضائية التي يقوم بها المحامي - تم الاجهاز على مهنة اعتبرتها الدولة حتى في زمن الجمر، مزرعة لأطرها والمشغل الثاني بعد الدولة نفسها للأطر المتخرجة من الجامعات. إن هذه المعاينة ليست لا قاسية ولا فيها مغالاة، وإنما هي معاينة موضوعية تجد مبررها في المعطيات القانونية التالية. وقبل الدخول في كشف كل ما سبق تفصيله أعلاه هناك تساؤلان يفرضان نفسهما بشأن هذا المشروع: الأول: وهو هل هناك ضرورة تلزم تقديم مشروع جديد لقانون المسطرة المدنية ونسخ القانون الحالي. الثاني: ما الفرق بين إخراج قانون المسطرة المدنية سنة 1974 وبين محاولة إخراج مشروع جديد اليوم. إن الجواب عن هذين السؤالين هو محدد لمعرفة إرادة المشرع، أي إرادة الحكومة و منظورها وتصورها لكيفية تدبير العملية القضائية ، وعلى الخصوص لمنظورها وتصورها لدور المحامي في تلك العملية من عدمه. وبخصوص التساؤل الأول، فإنه من المعلوم أن المغرب عرف منذ 1994 حملة تشريعية كبيرة بادرت الحكومات السابقة والبرلمان إلى البت والتصويت على عدة مدونات للقوانين، مثل مدونة التجارة وقوانين الشركات، وقانون الصحافة، وقوانين التجمعات والأحزاب ومدونة الأسرة وقانون المسطرة الجنائية وعدد كبير من المدونات القانونية القطاعية الاخرى ، وكان الدافع وراء كل ذلك المجهود واضحا ، هو رغبة الدولة والمجتمع في التخلص من القوانين التي تحكم المغاربة بينما هي قوانين صدرت في ظل الحماية . وما قام به المغرب ، كبلد مستقل، وهو مثله مثل ما قامت به كل الدول حتى المتقدمة، وذلك رغبة في إشعار مواطنيها أنهم محكومون بقوانين من صنعهم وليس من صنع المستعمر. وبعد ذلك قامت هذه الدول في كل مرة تظهر الحاجة لتعديل في قانون معين، أن تباشر ذلك التعديل بطريقة جزئية مع الإبقاء على الهيكل العام للنص التشريعي، باعتباره هو البناء الذي تقوم عليه الدولة والمجتمع. لكن، عندما تقدم اليوم وزارة العدل مشروع قانون المسطرة المدنية بكامله، فإن ذلك يلزمها بأن تعلن ما هي الحاجة المجتمعية التي تلزم بأن يلغى و يطوى تاريخ قانون المسطرة المدنية و تراكماته و الاجتهاد القضائي في أعلى درجاته من مجلس أعلى ومحكمة النقض إلى أدنى درجاته من عمل قضائي استقر على تدبير معين لقضايا معينة أدت الى استقرار في المعاملات بين الاطراف. علما بأن استقرار الأحكام القضائية والإجراءات القضائية هو الدعامة الرئيسية لاستقرار التوازن في المجتمع، سواء كان مجتمعيا او اقتصاديا او أمنيا . فعندما تلغي الحكومة قانون المسطرة المدنية الحالي وتقدم مشروعا جديدا بكل فصوله ، فذلك يلزم الحكومة ووزارة العدل بالخصوص، أن تعلن للمواطن ما هو السبب وما هي الحاجة المجتمعية التي دفعتها إلى هذا العمل؟ علما كذلك بأن من شأن إلغاء قانون المسطرة المدنية الحالي أن تلغى معه كل الاجتهادات القضائية والعمل القضائي السابق، ليفتح المجال لاجتهادات وتفسيرات جديدة وضياع كل التراكمات والمجهودات في التفسير والتعليل التي قام بها رجالات القانون في المغرب و على رأسهم قضاة الاحكام. بخصوص خرق الدستور قد يظهر لأول وهلة أن وصف بعض مقتضيات المشروع بغير الدستورية، فيه نوع من المبالغة. لكن بالرجوع إلى نص الفصل 6 من الدستور، سنجده ينص على قاعدة دستورية يجب أن يخضع لها اي قانون كيف ما كان، ما دام النص الدستوري لا يحصر تلك القاعدة في نوع خاص من القوانين، كما يتبادر إلى الذهن، إذ غالبا ما نلصق تلك القاعدة بالقانون الجنائي، بينما هذه القاعدة الدستورية تهم كل القوانين ، أي كل القواعد الآمرة والملزمة للمواطنين والتي تصدرها السلطة التشريعية أو السلطة الحكومية في المجالات التي سيسمح لها الدستور بأن تشرع فيها خارج دورات البرلمان. فقاعدة «ليس للقانون أثر رجعي» تنطبق كذلك على القانون المنظم لمهنة المحاماة وعلى القواعد الجوهرية التي توجد أحيانا بداخل قوانين الشكل او المسطرة التي لها علاقة بالقانون المنظم لمهنة المحاماة ، إذ العبرة في التفرقة بين القاعدة الجوهرية والقاعدة الشكلية، ليس بالإطار القانوني الذي توجد به وإنما بطبيعة الحقوق التي تنظمها. فإذا كنا أمام قاعدة تنظم جوهر الحقوق المضمونة للمواطن، فإن هذه القواعد تعتبر قواعد قانونية موضوعية لأنها تنظم تملك الحقوق اونقلها ، وإذا كانت تلك القواعد القانونية لها طبيعة إجرائية وشكلية، أي انها لا تتعلق بتملك الحقوق او نقلها و إنما تتعلق بكيفية رفع الدعوى امام المحكمة ، فهي تحتفظ بطابعها المسطري الشكلي حتى ولو وضعت في إطار قانوني ينظم الحقوق الموضوعية. وعندما نعود إلى المادة 44 من مشروع قانون المسطرة المدنية نجدها تراجعت عما سبق للمشرع أن حصره في اختصاص عمل المحامي وحده، اذ اخرجت كل القضايا التالية من ضرورة الاستعانة بدور المحامي، و تلك القضايا هي : 1 - قضايا الزواج ، 2 - قضايا النفقة، 3 - قضايا الطلاق، 4 - قضايا التطليق، 5 - قضايا الحضانة ، 6 -القضايا التي تقل قيمتها عن 5000,00 درهم ، 7 -القضايا المتعلقة بالحالة المدنية ، 8 - القضايا التي تتعلق بطرف له صفة قاضي ، 9 - القضايا التي تتعلق بطرف له صفة محام ، 10 - كل القضايا التي ينص القانون على أن تخرج عن مجال عمل المحامي، 11 - تمديد درجة الوكيل الى الدرجة الرابعة بينما قانون المسطرة المدنية الحالي يحصرها في الدرجة الثالثة . بينما المادة 32 من القانون المنظم لمهنة المحاماة الجاري به العمل، حصرت المجالات التي تخرج عن الاختصاص الحصري للمحامي في 3 حالات فقط بدل 11 حالة المشار اليها اعلاه، وهي الحالات التالية : 1 - قضايا التصريحات المتعلقة بالحالة المدنية، أي التصريح بالازدياد او بالوفاة او غيرها من التصريحات التي لا تستلزم اجراءات قضائية معقدة، بينما مشروع المادة 44 أخرج كل القضايا المتعلقة بالحالة المدنية بما فيها المساطر المتعلقة ببطلان بعض التقييدات او المساطر المتعلقة بتغيير الاسماء و المساطر المتعلقة بالمنازعات المرتبطة بتثبيت الهوية المغربية. 2 - قضايا النفقة فقط ، بينما المادة 44 من المشروع وسعت هذا المجال ليشمل كل قضايا الطلاق و التطليق و الحضانة التي لم تبق في المجال الحصري لعمل المحامي 3 - القضايا التي تقل عن 3000,00 درهم بينما المادة 44 من المشروع وسعت هذه المجالات لتشمل كل القضايا إلى غاية 5000,00 درهم. فهذا التقليص في المجال الحصري لعمل المحامي سيؤثر بصفة مباشرة وبقسوة على ما يزيد على 70 في المائة من المحامين وأغلبهم الشباب الذين يشتغلون في القضايا المعروضة أمام قضاء الاسرة او القضاء الاجتماعي ، لأن مجال قضاء الأسرة والقضاء الاجتماعي هو المجال المفتوح لكل المحامين الشباب وحتى غيرهم من المحامين. ففتح هذا المجال بواسطة مشروع قانون المسطرة المدنية لغير المحامي لكي يمارس الاختصاصات التي حصرها قانون آخر في عمل المحامي هو القانون المنظم لمهنة المحاماة ، هو تقليص واضح لمجال عمل المحامي، وهو ضربة مباشرة موجهة للغالبية الكبرى من المحامين. وإذا ما علمنا أن هيأة المحامين بالمغرب تعتبر اليوم هي المشغل الثاني بعد الدولة لخريجي الجامعات، فإنه يتأكد مدى خطورة الإجراء الذي ستقدم عليه الحكومة ومدى الأضرار المباشرة التي ستترتب عليه. فمجال عمل المحامي محدد بنص قانوني آخر صادق عليه البرلمان بالإجماع سنة 2008، وبالتالي أصبح أي تراجع عنه او تقليصه منه هو تطبيق للقانون بأثر رجعي، وبالتالي هو خرق واضح للفصل 6 من الدستور. إن مجال عمل المحامين هو حق مكتسب لا تملك اي حكومة أو وزارة كيف ما كان المشرف عليها، الحق في التراجع عن الحقوق المكتسبة للمواطن ، وبالأحرى للهيآت المنظمة قانونا كهيأة المحامين. فما تحمله المادة 44 من مشروع قانون المسطرة المدنية هو أمر فيه مس بالحقوق المكتسبة لمهنة المحاماة وفيه تراجع عن الاختصاصات التي سبق للقانون أن حددها كمجال حصري لها و أي تراجع عن ذلك يعتبر تراجعا خطيرا ستكون له آثار وخيمة على غالبية المحامين وعلى الخصوص الشباب منهم من جهة ، كما انه سيعرقل استيعاب هذه المهنة للخريجين في المستقبل من الجامعة ما سيضاعف مشكل المعطلين خريجي الجامعة. بخصوص المس بتراتبية القوانين من بين القواعد التي أصبحت دستورية ما نص عليه الفصل 6 . ينص الفصل المذكور على ما يلي: «تعتبر دستورية القواعد القانونية وتراتبيتها...» فتراتبية القواعد القانونية أصبحت دستورية، وهو ما يعني أن أي قانون تصدره السلطة التشريعية لا يمكنه أن يخرق أو يمس بتراتبية القواعد القانونية. وتراتبية القواعد القانونية تنظمها عدة آليات ليس المجال اليوم للحديث عنها، وإنما سنقف عند آلية من تلك الآليات التي تهمنا في هذا المقال، وهي آلية إجبارية تطبيق القاعدة القانونية الخاصة بالاولوية على القاعدة العامة، وهذا المبدأ مستقر عليه في التشريع والقضاء والفقه. وفي موضوعنا، فإن القواعد القانونية التي تحدد مجال عمل المحامي لا تدخل في اختصاص قواعد الشكل، أي قواعد المسطرة المدنية التي هي قواعد عامة، وإنما هي تدخل في مجال القواعد الموضوعية المنظمة لمهنة المحاماة التي هي قواعد خاصة. فعندما تحشر الحكومة في مشروع قانون المسطرة المدنية الذي يتعلق بتنظيم القواعد العامة في التقاضي وتلغى بواسطتها قواعد خاصة ميزها المشرع بقانون خاص وهو قانون مهنة المحاماة، يكون قد خُرق مبدأ دستورية تراتبية القواعد القانونية. فالحكومة وهي تذهب إلى ما ذهبت إليه ، تخرق الدستور مرة ثانية بعدما خرقته المرة الاولى كما سبق بيانه. المس بتحديث الدولة وإعمال مبادئ الحكامة من المعلوم أن المغرب استطاع في السنوات الأخيرة، أن ينتقل من وضع الدولة المتخلفة من الناحية التأسيسية والقانونية إلى وضع أهله لكي يحتل الوضع المتقدم لدى الاتحاد الاوروبي والى عضو في الدول الديموقراطية في مجال البحر الأبيض المتوسط، وتمكن من التعاقد مع أكثر المجموعات الاقتصادية أهمية في إطار اتفاقات للتبادل الحر سواء مع اوروبا او امريكا او مصر او الاردن، وأخيرا ضمه المجلس الخليجي اليه. وما كان للمغرب أن يكون مؤهلا للوضع الذي يوجد عليه اليوم لولا الثورة القانونية التي دشنها منذ افتتاح برلمان 1993، و التي همت تغيير وتحيين وتحديث عدد كبير من المدونات القانونية. وكان الغرض هو تحديث الدولة المغربية وفرض قواعد الحكامة كمعيار للتعامل بين الأفراد والمقاولات التجارية الوطنية والدولية، فعملية التحديث هي من أهم الأوراش الكبرى التي دشنها المغرب منذ ذلك الحين. ومن تجليات تحديث الدولة ، هو هيمنة تطبيق القاعدة القانونية وسموها في التعامل كمعيار للاستقرار وللتقدم. لكن القاعدة القانونية اليوم هي متشعبة ومعقدة ومتعددة وأصبح يصعب استيعابها كلها حتى على رجالات القانون، مما فرض على المحامين اليوم التخصص في مجال معين حتى يضمنون لموكليهم استشارة و دفاعا محكما يحمي مصالحهم. واذا كان الامر بهذه الصعوبة بالنسبة للمتخصصين و الممارسين، فكيف فكرت الحكومة في أن تحرم المواطن من مساعدة المحامي وتتركه يواجه تعقيدات المحكمة التي تفرضها القوانين المتعددة وهو لا يعلم أي شيء عنها. إن مشروع قانون المسطرة المدنية يسير في اتجاه معاكس لسياسة تحديث الدولة وإعمال قواعد الحكامة. فبدل ان تخلق الحكومة الوسائل المادية والمالية لتمكين المواطن من الولوج لخدمات المحامي عن طريق دعم هذا الأخير، ها هي تلغي دور المحامي وتترك المواطن في مواجهة مع المحكمة ومع القضاء، علما بأن القاضي لا يمكنه أن يشرح لكل مواطن يقف أمامه قواعد المسطرة وما يتعلق منها بالنظام العام وما يتعلق منها بالاختصاص النوعي وما يتعلق منها بالطعن بالزور الفرعي وما يتعلق منها بالإقرار. إن واجب استقلال القاضي و حياده يلزمه بأن لا يقدم الفتوى او الاستشارة القانونية لطرف على حساب آخر من أطراف الخصومة الواقفين أمامه ، وإنما من واجبه عدم الافصاح عن رأيه حتى ولو كان يعلم أن من يقف أمامه لم يعرف كيف يدافع عن مصالحه. فالتقليص من مجال عمل المحامي هو ضربة موجهة للمواطن الذي سيجد نفسه أمام محكمة معقدة المساطر وهو ضربة موجهة كذلك للقاضي الذي سيجد نفسه في وضع صعب، إما أن يعطي الفتوى لإصلاح مسطرة للطرف الواقف امامه أو أن يسكت ويحكم ضده فقط لأنه لم يعرف الدفاع عن نفسه. كما أنه سيفسح المجال للوسطاء الذين سيسيؤون للقضاء و للمواطن بدون اي امكانية للتعرف عليهم أو محاسبتهم. فوزارة العدل ومن ورائها الحكومة، كان عليها أن تخلق الوسائل المادية والمالية لكي تخفف وتسهل عن المواطن الاستعانة بدور المحامي باعتباره الأداة الوحيدة التي تساعد القاضي للقيام بواجبه على احسن حال وتساعده على الاجتهاد في إصدار الاحكام. وليس أن تحمل القاضي دورا جديدا، وهو أن يفتي ويشرح للأطراف تعقيدات المسطرة والقانون الواجب التطبيق، بينما هذا دور المحامي وليس دور القاضي. لكون المحامي هو من يتولى شرح التعقيدات القانونية لموكله وليس القاضي. الإجهاز على مهنة المحاماة ينظر البعض الى ما يحمله مشروع قانون المسطرة و كأنه انتقام ضد المحامين بسبب المواقف التي اتخذوها اخيرا. ويدعم هذا الرأي، بالإضافة لما سبق بيانه من تقليص في مجال عمل المحامي، التعديل غير المفهوم الذي تحمله المادة 62 من مشروع قانون المسطرة الذي يوجه مباشرة للمحامين. ذلك أن الفصل 44 من قانون المسطرة المدنية الحالي أتى ينص على أنه إذا صدر من المحامي ما قد يعتبر إهانة فإن القاضي يحرر محضرا و يبعث به للنقيب. بينما مشروع المادة 62 ألزم القاضي أن لا يكتفي ببعث المحضر للنقيب وإنما يجب أن يُبعث للوكيل العام، والأخطر من ذلك أن المادة تنص على ان يتخذ الوكيل العام ما يلزم. وإذا كانت إرادة مشرع المادة 62 من مشروع قانون المسطرة من إحالة تلك التقارير على الوكيل العام تعني ان هذا الاخير ملزم بتحريك الدعوى العمومية فإن الامر سيهدد استقرار العلاقة القائمة اليوم بين القضاة والمحامين. علما بأن هذه القاعدة الجديدة ليس لها أي مبرر أو داع ولم تقدم وزارة العدل أي إحصائيات عن اصطدامات كبيرة تكون قد طرحت مشكلا في العلاقة بين القضاة والمحامين. لأن هؤلاء اتسموا دائما بالحكمة والتروي وعرفوا كيف يطوقون كل الخلافات التي قد تقع في الجلسة، والتاريخ يشهد لقضاة ولنقباء ولوزراء و لمسؤولين قضائيين كيف استطاعوا تجاوز كل تلك الصعوبات ولم يفكر اي منهم في تعديل الفصل 44 كما قام مشروع المسطرة المدنية. والمفيد اليوم إجراء مقارنة بسيطة بين الحكومة الحالية وبين حكومة مثل حكومة ادريس جطو التي كان يوجد على رأس وزارة العدل انذاك المرحوم محمد بوزوبع، عندما نظمت بصفتي رئيس لجنة العدل والتشريع لقاء بين جمعية هيئات المحامين التي كان يترأسها السيد النقيب ادريس ابو الفضل مع الوزير الاول السيد ادريس جطو حول موضوع إلزام الادارة بتعيين محامين ليتولوا الدفاع عن مصالح الادارة بدل حصر ثقل هذه المهمة في الوكيل القضائي للمملكة الذي لم توفر له الدولة الامكانيات الدنيا لمواجهة كل الدعاوى التي تكون فيها الدولة طرفا و كان ذلك بمناسبة مناقشة القانون المنظم لمحاكم الاستئناف الادارية . وان ذلك الاجتماع أسفر عن تعهد من قبل الوزير الاول بأن يطلب من كل الادارات ضرورة الاستعانة بخدمات المحامي، وهو التعهد الذي ترجمه بمذكرة وجهها لكل الادارات. بينما الحكومة الحالية تريد ان تقلص من المجال الذي يعمل فيه المحامي. ومن المفيد الاشارة الى ان تقليص مجال المحامي لن يقتصر على قضايا مدونة الاسرة والحالة المدنية وانما مشروع القانون المتعلق بالميثاق الجماعي المعروض حاليا للنقاش. تضمن المادة 241 التي أتت لتؤكد رغبة الحكومة في تقليص من مجال عمل المحامي، وهي المادة التي أحدثت المساعد القضائي وأعطته وحده أهلية تمثيل الجماعات المحلية امام القضاء. بل، وهذا هو الامر الخطير، أعطته أهلية الترافع باسمها، اي الحضور امام المحكمة بالنيابة عن الجماعات، وهو ما يعني ان المحامي لم يبق له الحق في النيابة عن اي جماعة امام المحاكم ، علما بأن الذي سيقوم بهذه المهمة ليس موظفا تابعا للإدارة و انما هو شخص يمارس عملا حرا ما دام ان المادة المذكورة تلزم الجماعة بعقد اتفاق معه بخصوص أتعابه. بالإضافة الى ما يتداول من كون القضايا المتعلقة بنزع الملكية لن يبق اللجوء للمحامي ضروري بدعوى ان مسطرتها لا تحتاج الى دفاع المحامي، لأن المحكمة تأمر بالخبرة لتحديد التعويض المستحق. كما أن مسطرة حوادث الشغل هي كذلك لا تحتاج لمحامي وسيكتفى بمسطرة الصلح مع شركة التأمين. وهي الاخبار التي تتطلب توضيحا من وزير العدل لتحديد موقفه و موقف الحكومة منها. وفي الختام من المفيد التذكير أن مهنة المحاماة والمحامين كانت دائما مكرمة ومحترمة حتى في سنوات الجمر عندما كان المحامون يواجهون الدولة ويتهمونها بكل أشكال التهم القوية والقاسية، ومع ذلك اعتبرت مزرعة للدولة تختار منها أطرها العالية من وزراء وقضاة في المجلس الدستوري وغيرها ومكلفين بالمهام الكبرى ، بينما في المقابل لم نسجل الى حدود اليوم ان السيد رئيس الحكومة الحالي عين، في إطار صلاحياته الدستورية، أي محام في منصب سام. غير أن ما يرتاح له المحاميات والمحامون هو أن التاريخ لم يسجل أن ملك البلاد المرحوم الحسن الثاني، أساء لهذه المهنة، بل كان رجالاتها دائما مكرمين لديه وعندما سئل من قبل أحد الصحفيين مرة إن لم يكن ملكا فماذا يمكنه أن يكون فكان جوابه، بدون أي تردد، «أفضل أن أكون محاميا». كما سجل التاريخ ، كذلك، لجلالة الملك محمد السادس ليس فقط تكريمه للمحاماة والمحامين، وإنما ارتداءه لبذلة المحاماة كأقوى إشارة على احترامه وتكريمه لنسائها و رجالها . واليوم، مع الأسف، نلاحظ أن وزارة العدل و من ورائها الحكومة الحالية، تنظر للمحاماة والمحامين بنظرة أخرى لم يكن أحد يتصورها.