ثمة صدى لسجال سياسي محموم و دائم حول مشروعية الممارسة الليبرالية و مآلها في منطقتنا و ما كان يكتنف مسارها الإقتصادي و الإجتماعي من معضلات و إشكالات و عواقب كما عرفتها بعض التجارب السياسية للبلدان الغربية ، و كيف ستغير بظهورها و تُأزّم مزيدا من معاني و دلالات متعلقة بقاموس مفاهيم - ثنائية شائعة ، كانت سلفا شبه واضحة و بديهية لدى الكل على سبيل المثال : - دور الحرية إزّاء المسواة ؛ مفهوم الفرد أمام جهاز الدولة ؛ العدالة بما فيها العدالة الإجتماعية كتصور و إجراء ضمن من مجموعة من تصورات عدّة لما يمكن أن تكونه المنفعة و المصلحة العامة و الذاتية إلخ ..... السؤال الشائك الذي ما زال مطروحا الآن علينا بخصوص تلك التجارب الليبرالية : هل كانت هناك محاولات فكرية سياسية حديثة ( ثرية مفاهيميا ) أسفرت جهودها فعلا على تليين ? ولو من الزاوية التنظيرية - جموح تلك الإيديولوجيات المتطرفة إقتصاديا الخارجة من بلوعة أسواق النظام الليبرالي الحر ؛ أو حتى على الذهاب بعيدا في تجذير تحليلها النظري بوضع مسافة نقدية من كِلا ذاك المنزع اليميني الراديكالي المفرط في وحشيته و المستميت في الدفاع عن رفاهية الفرد و مبادراته الحرة المطلقة من القيود ؛ و من ذاك التوجه الآخر اليساري المناهض للفوارق و التفاوتات الإجتماعية و مخاطرها المفترضة تحت شعار حلم واحد و بإسم خلاص واحد : قدوم ديكتاتورية الشيوعية ... في نظري ، أولا ، احتمال بروز مثل هذه المحاولات الفكرية السياسية يكون متعلقا ضمنيا و سياقيا بمطارحات و نقاشات سياسية محتدمة ، تختبرها بعض المجتمعات الرأسمالية المتقدمة و المتماسكة مؤسساتيا ، في كل دورة حرجة من مراحلها المتأزّمة و القاطعة ، كل مرة ، مع نمط من تشكيلاتها الأولى التي توالت تباعا كما هو معلوم تاريخيا إلى ان تكثفت في ما عليه راهنا ثانيا و في الغالب أبرز ما يتولد من هكذا سجالات و مواجهات فكرية سياسية خصبة على المستوى النظري ? و هذا أهم بالنسبة لي- هو تلك الأساليب الحجاجية الإستدلالية التي تحفز على إعادة التفكير و الغربلة و الدّفع بالتحليل لتفكيك بُنى و نواة المفاهيم السياسية التقليدية و شحنها من جديد ببطارية أسئلة إشكالية تكون لصيقة بالشرط التاريخي و محايثة عن كثب لتحولاته الخبيئة ، و ملتقطة بالأساس لأحداثه الفارقة لبلورتها في تركيبة مفاهيمية غنية في التصور . و أحيل هنا كمثال إلى الجدال القديم نسبيا حول مطلب حياد الدولة و عدم تدخلها في مجرى الإقتصاد كما هو معروف في التصور الليبرالي الحديث و الذي سيقع محل انتقاد صارم و شرس من طرف هيئات و حركات حقوقية كثيرة تضع المطالب المساواتية الإجتماعية على رأس الأولويات . ثالثا ليست الليبرالية السياسية ( بما أنها هي مدار هذا السجال الذي يعود لعقود ) تصورا فكريا استعلائيا غير منصف ، يتَغَيّا فقط مشروعية الحكم و التسيير و بكل الطرق المجحفة و انطلاقا من تحيُّز فاضح لنظام إقتصادي يُعلي من فعاّلية السوق و يشجع أكثر المبادرات الفردية الحرة المؤدية للرّفاه النخبوي مُقْصيا المحرومين و غير المحظوظين دون اعتبار لوضعيتهم ، إنما كذالك و خلافا لهذه النظرة الرائجة ، بإمكان بعض منظريها أن يصلوا إلى تحقيق تلطيف قيميي نظري لكل هذا و تلْيين لجموحها الإقتصادي التنافسي يتلائم مع نظام إجتماعي مثالي يتوخّى قسطا كافيا من العدالة الإجتماعية ، تحكمه مبادئ عينية و ملموسة للإنصاف . و بالفعل هناك من حاول التّأهب للقيام بهذه المحاولة الفكرية الجريئة بكل ما تستدعيه من الفطنة و التنظير و النقد مع العلم أنها كانت ستثير الكثير من الريبة خاصة لدى المناصرين للتقليد اليساري اللإشتراكي العتيد و ما هو معروف عنه من ميولات بيّنة للحلول الراديكالية في إجاد صيغة للعدالة التوزيعية بتغليب الكثرة المحرومة على صفوة الطبقات و بالقول أن المجتمع يتحدد بتناقضاته و صراعاته الداخلية أولا . فعلى مدى طويل و مند ظهور الفكر الليبرالي توالت و و انتظمت تنظيرات فلسفية أنكلوساكسونية مختلفة حول معضلة العدالة الإجتماعية و تعقيداتها و صولا إلى منتصف القرن الماضي و تحديدا آواخر الخمسينات حيث سيبزغ أحد وجوه الليبرالية السياسية الحديثة الأكثر قوة في الإستدلال الفلسفي و المقارعة بالحجج ، مع إلتزامه الإنخراط في معمعة السجال السياسي دون هوادة و على مدى عقود . فالمفكر الامريكي جون راولز john rawlsيعدّ أحد الفلاسفة السياسيين الإستثنائيين الذين ساهموا بقوة في توسيع دائرة النقاش السياسي بأمريكا بين فصائل اليسار المناهضة للتفاوتات و الفوارق الطبقية التي تعتبرها استغلالا إجتماعيا يشكل خطرا على الإلتئام الإجتماعي و بين التطرف الليبرالي الفاحش المعارض ، من الأصل ، لفكرة العدالة التوزيعية و ما تشكله من تهديد للمبادرات و الحريات الفردية . شرارة السجال ستجد منطلقها من شعلة كتابه العُمْدة ، الشهير خاصة في الأوساط الأكاديمية « نظرية العدالة « théorie de la justice 1971، و الذي ينطوي على جدل بالغ التعقيد و نقد مكثف لنظريات أخرى منافسة كالنظرية النفعية البرغماتية utilitarisme الأكثر تقليدا و رسوخا و انتشارا في المنتديات الفكرية الدولية . فمثلا ، مال إلى البحث عن فكرة في العدالة تُشكل إنصافا عَيْنِيا ً، تُعين الليبرالية الطموحة حاليا إلى التجديد ، على تجاوز دعوى من دعاوي تيار التفعيّة البرغماتية - التي يعتبرها خصمه الأول ?و الداعية إلى ضرورة ، أن يقوم مرارا جهاز الدولة ، بأخذ فائض أرباح المحظوظين الذين يمثلون الأقلية الغنية ، و إنزال إكراها يقضي بالتضحية بمصالحهم عند اللزوم ، لفائذة جلب أكبر خير ممكن و أكثر نفعا لأكبر عدد من المحرومين في المجتمع ؛ و هذا مفاده تحقيق رفاهية الجميع بحرمان البعض من مزيد من التملك و الغنى ، أي كما يقول راولز شارحا الموقف النفعي بصيغة تجريدية : « تفضيل إفادة الأكثرية على إفادة الأقلية و جواز التضحية بحقوقها متى دعت الضرورة حماية للمصلحة العامة « فتبعا لوجهة تظر راولز المضادة ، ربما يحصل أن تتحقق الرفاهية للأغلبية بحرمان أفراد قليلين من حرياتهم و مكاسبهم المستحقة لكن هذا في حد ذاته يظهر عدم كفاية مثل هذا التصور النفعي ، خاصة إذا كان المكسب من السعادة التي تتحقق للأغلبية أكبر من حرمان بعض الأفراد من سعادتهم و رفاهيتهم ؛ فلا يفعل إذا إلا أن يبرر بإجحاف ، فُقدان الأقلية الناجحة ماديا لحرياتها !! ..بالنسبة لجون راولز هذا يعني بشكل صارخ ان النفعيّة البرغماتية لا تمنح ما يكفي من الضمانات لممارسة الحريات و من بينها حرية المبادرة الإقتصادية في حدودها القصوى .فهو ، إذاً، لا يفرط في هذا المبدأ الأساسي و لا يجيز التضحية بالحريات الأساسية أصلا و من بينها الفردية حتى لو كان هذا متعلق بمصلحة الكل، لأن من عواقب ذلك إعطاء فرصة ماكرة لأطياف من الإديولوجيات التوتاليتارية الإستبدادية للانقضاض على حقوق الآخرين و مصادرة حرياتهم بكثير من المبررات الواهية و الدعاية الزائفة . لكن بالموازاة لا يستسيغ الاختلالات و تضخم الفوارق المادية بين فئات كثيرة غير محظوظة تنشط في قلب شرايين المجتمع الرأسمالي الضخم ، و الناجمة عن انحراف فائض الحريات و تهلهلها على حساب مبدأي المساواة و العدالة . فكما لو صارت قيمة الحرية التي يُمجّدها العرف الليبيرالي ، هشّة و قابلة للتبخيس في أعين من لا يحوزون أي شيء ، و هم لا يضمنون حتى الحد الأدنى من معيشتهم . و مما يروم إليه أيضا أن تكون هناك اختلافات و فوارق طفيفة مسموح بها و مقبولة تفتح على اللامساواة داخل المجتمع لكن تهدف إلى مصلحة الكل في ارتباطها بقواعد نظرية العدالة كإنصاف ، لأنها المُؤدّى عن ثمن الحرية كحق من الحقوق الأساسية التي لا مساس لها. و لتعليل هذا ، فهو يشير انه من المجحف انتزاع ما يعود إلى المستحقين المنتجين أكثر و منحه للمحرومين غير الفاعلين الأقل عطاءا و إنتاجا في دورة المجتمع ، لأنه سيتمخض عن هذا إنتاج أقل و تدهور في مجمل النشاط و الفعالية الإقتصادية حتى النزيف ..ثم إنه يقترح في بدائله السياسية نظرية للعادلة الإجتماعية يُتوّجها إنصافا إجرائيا ، يؤسسها على مبدأين إثنين و على الطريقة التالية : أولا : لكل شخص نفس الحق في النظام الأوسع للحريات و هو قاعدة المساواة بين الجميع ، و يكون متلائما مع نفس النظام الذي لدى غيره « ثانيا :يجب أن تنظم الفوارق الإجتماعية و الإقتصادية على نحو يمكن فيه من : أ ? ان نأمل في أن تكون هذه الفوارق في مصلحة كل فرد ب ? أن تكون هذه الفوارق مرتبطة بمراتب و فرص مفتوحة أمام الجميع « بمعنى أن جميع الافراد يحصلون على الحق الكامل ، في ولوج النسق الموسع للحريات بتمام التساوي .و طبعا سينتج عن هذا، تاليا ، تفاوتات و فوارق اجتماعية و اقتصادية بارزة بين الكل ، لكن بشرط أن تترتب عنها أوضاع تأتي بكيفية تكون في مصلحة الأقل حظا و الاكثر حرمانا من الثورة و التملك ، أي الملفوظين من النظام الرأسمالي و تكون كذلك ، نابعة إنطلاقا من الوضع الأصلي لتكافؤ الفرص في الوظائف و الوضعيات البدأية . و لنوضح أكثر أطروحته السياسية الخصبة هاته ؛ بما تحمله من كثافة و تعقيد ، يُسفِّه مجمل ما يُتداول من أقاويل و مغالطات عن الفلسفة الليبيرالية قديما و حديثا ، و يبرهن أن بإمكانها أن تبدع شبكة من المفاهيم الإجرائية و نسقا نظريا في السياسة الاجتماعية يضاهي حتى ما عرفناه مما كان يسمى سابقا بالفكر التنويري اليساري ؛ أقتبس مقطعا يفسر فيه دور المبدأ الثاني عند تنزيله في وضع اللامساواة فيقول : «» يطبق المبدأ الثاني في أول تقدير على تقسيم المداخيل و الثروة ، و على توجهات المؤسسات التي تستخدم الإختلافات في السلطة و المسؤولية التي لكل شخص ، فإذا لم تكن قسمة الثروة و المداخيل في حاجة لان تكون متساوية بين الجميع ، فلابد أن تكون عند ذلك في صالح كل فرد و أن تكون في الوقت نفسه مراكز النفوذ و المسؤولية سهلة البلوغ للجميع . و نطبق المبدأ الثاني مع الحرص على ان تظل هذه المراكز مفتوحة ثم بعد ذلك نرتب الفوارق الإجتماعية و الإقتصادية على نحو يكسب منه الجميع ، مع الخضوع إلى هذا الإكراه «» جون راولز thoerie de la justice page 92. باحث 2014/10/20