يبين راولز أن مبادئ العدالة التي هي موضوع اتفاق بين المشاركين داخل الوضع الأصلي ،وإن شئت قلت داخل السلطة التأسيسية بتعبير أنطونيو نغري Antonio Negri في كتابه ,le pouvoir constituant يمكن توظيفها في الاقتصاد السياسي في الدولة الحديثة،غير أن هذا أمر يثير إشكالا يتعلق بالادخار وبمشكلة العدالة بين الأجيال،وهذا ضمن العدالة التوزيعية ( نظرية العدالة ، ص 299 وما بعدها ) المتعلقة بمبدأ الاختلاف الذي تقرر ضمن حجاب الجهل ،وهو إشكال يتعلق بالبرامج السياسية المتعلقة بالاقتصاد،وبالمؤسسات السياسة المرتبطة بشؤون الاقتصاد،على اعتبار أنه إذا ما اتجهنا نحو ما يقوله بيير كلاستر في كتابه مجتمعات اللا دولة أن السياسة اليوم هي البنية التحتية،وأن الاقتصاد ينتمي إلى البنية الفوقية مثله في ذلك مثل سائر الأشكال الإيديولوجية الأخرى.يعني أن السياسية هي الموجه الفعلي للبنية الاقتصادية للمجتمع،مثلما تكون هي المحددة لمختلف الأشكال الثقافية والإبداعية،بفعلها يكون للإبداع حقه ،وبفعلها يمكن أن يضيع،وذلك بخلاف النظرية الماركسية المفهومة اقتصادويا.فليست الثورات الاقتصادية،هي التي لعبت دورا حاسما في التاريخ ،وإنما التحولات السياسية الكبرى هي التي قامت بهذا الدور،يعني ظهور الدولة في التاريخ الإنساني،لأنه بظهور الدولة أو بظهور السياسة تخلصت مجتمعات اللادولة من معاناة غياب الدولة.نقول ذلك لأن السياسة ،وهي هنا تتعلق بمبدأ الحرية والعدالة عند راولز سابقة على مبدأ التوزيع،أو أن مبدأ السياسة ومبدأ المساواة والحرية أسبق قاموسيا على مبدأ الاقتصاد والاختلاف.،وأن الأسبق هو الذي يوجه اللاحق عليه .فالمساواة هي التي توجه التفاوت والاختلاف،والوحدة هي التي توجه الكثرة والتعدد،وأن الحرية هي التي تقوي القدرات والمؤهلات وتمنحها إمكانية الظهور.لذلك نجد جون راولز يفضل منح الأولوية للعدالة والحرية على الرفاهية welfare مفهومة نفعيا.فأولوية العدالة نابعة من القدرة على الاختيار وعلى الحرية ،وهي قدرة قائمة في الذات الأخلاقية.غير أن هذه الذات لا تختار لنفسها،وإنما اختيارها اختيار اجتماعي social choice ضرورة بفعل علاقتها باستدلالات العقل العملي.ومن ثمة لا تكون السياسة منفصلة عن الفلسفة،إذ الفلسفة هي التي تقيم لها إمكان استقلاليتها عن الحقول غير السياسية كي تتمكن من احتلال مركز الصدارة في توجيه الحقول الأخرى،بما فيها الحقل الديني على سبيل المثال.هذا الاختيار الاجتماعي هو اختيار للخير العام وللمؤسسات القادرة على تحقيقه.لذلك تكون مبررات هذا الاختيار أخلاقية واقتصادية معا.(ص 300) لقد طرح أرسطو مسألة العلاقة بين العدل والإنصاف فيما يتعلق بالقضاء ،موضحا أن هذه العلاقة لا تجعلهما متشابهين تماما ،إذ أنه غالبا ما يتم امتداح الإنصاف مقارنة بالعدل ،وفي أحيان أخرى يبدو لنا هذا المدح لنا عبثا،لأن ما هو منصف هو في جزء منه عادل،وهذا يعني أن الإنصاف ليس جنسا مختلفا عن العدل.إنما الاختلاف بينهما ليس اختلافا في الجنس،وإنما في علاقتهما بالقانون.فالإنصاف يُصلح العدل في علاقته بالقانون،كما يُصلح القانون في علاقته بالعدل،السبب في ذلك هو أن القانون والعدل يسِمان نفسيهما بالطابع العمومي،في حين أن الإنصاف له طابع خصوصي.فالقانون وهو يتلبس بهذا الطابع العمومي لا يستطيع أن يعبر بدقة عن حالات نوعية وخاصة أو فردية بخلاف الإنصاف،وهو في هذه الحالة يعترف بنقصه عندما يكون أمام الإنصاف،غير أن هذا النقص لا يرجع إلي القانون من حيث هو كذلك،وإنما إلى المشرع الذي يكون تعبيره عموميا عندما يشرع القوانين .غير أن المشرع ينتبه إلى هذا النقص،وهو نقص يدفعه إلى القيام بإدخال تعديلات في القانون.نفس الأمر يحصل في علاقة الإنصاف بالعدل،إذ العدل يتضمن بفعل عموميته ذات النقص.فالطبيعة الخاصة للإنصاف تصحح عمومية العدل والقانون.وهنا لا حديث عن الإكراه أو الإلزام ،وإنما فحص العلاقة القائمة بين العدل والقانون بناء على مبدأ الإنصاف،ضمن العدالة التعويضية بخلاف العدالة التوزيعية القائمة على اللامساواة التي هي في نظر أرسطو شكل من أشكال المساواة،نظرا للمبدأ الميتافيزيقي الذي يحكم تصوره للكون والمجتمع،وهو مبدأ الأفضلية،فضلا عن مفهوم الغاية الذي يحكم هذا التصور الأرسطي. مع جون راولز يضم مبدأ الإنصاف جزئين لهما علاقة بالفرد وبالمؤسسات ،الأول يتعلق بالكيفية التي بها يتلقى الأفراد عددا من أشكال الإكراه أو الإلزام ،بناء على أفعال إرادية والآخر يتعلق بالشروط التي تكون بها مؤسسة ما عادلة ،وكلا الجزأين مترابطين؛لأن هذه الشروط هي الضامنة لتلك الأشكال ،ولأن الجور لا يولد أي إلزام أو إكراه.غير أن هاهنا مشكلة يفحصها راولز وهي إمكان تأسيس الإكراه أو الإلزام على الواجب الطبيعي دون ما حاجة إلى مبدأ الإنصاف،وأن يتم تفسير الإلزام بواجب العدالة باعتبار هذا الإلزام من بين الواجبات الطبيعية.إن هذا التفسير صحيح من جهة تأويل الفعل الإرادي كفعل يوسع هذا الواجب الطبيعي .لكن راولز يرى أن ما هو أكثر صحة هو أن نميز بين المؤسسات التي تحكم حقل نشاطنا بكامله،فنكون بذلك أمام الواجب الطبيعي،وذلك مثل الخضوع للدستور والقوانين الأساسية التي تحكم هذا النشاط ،وبين المؤسسات التي تجعلنا ضمن المجرى العقلاني لوجودنا في أن نتصرف بهذه الكيفية أو تلك.هذا يعني قيام تمييز بين الواجب الطبيعي والإكراه الحاصل عن المسؤولية .فالأول يفيد الطاعة،طاعة القوانين العادلة ،والثاني يتعلق بتحمل المسؤولية عندما نكون أعضاء في مؤسسة أو جمعية ما .فالذين يشغلون وظائف سياسية يكونون أمام إكراه أو إلزام سياسي أكثر من كونهم أمام واجبات سياسية. (385)،ولذلك تجد هؤلاء أكثر ارتباطا بالمؤسسات العادلة. وباختصار؛فإنه بمبدأ الإنصاف نميز بين الواجب والإكراه ،إذ أن هذا الأخير متعلق بالمطالب الأخلاقية،والأول مرتبط بالواجبات الطبيعية .غير أن هذا الإكراه يختلف عن المطالب الأخلاقية الأخرى بعدد من المميزات .فهو أولا حاصل عن أفعال إرادية يمكن أن يتحول إلى إلزام وذلك مثل الوفاء بالعهود،وثانيا يتحدد مضمون هذا الإلزام من طرف المؤسسة المعنية،وثالثا يتجه هذا الإلزام إلى أفراد معينين بناء على مبدأ الإنصاف.(143) ففي إطار الاستدلال العملي أبان راولز عن قواعد الأولوية بالنسبة إلى الأفراد،وبالنسبة إلى المؤسسات الاجتماعية فيما يخص مفهوم العدل.فبالنسبة إلى الأفراد هناك مطالب أو مقتضيات تتوزع إلى إلزامات وإلى واجبات طبيعية .ويندرج الإنصاف ضمن هذه الإلزامات مثل الوفاء،في حين أن الواجبات الطبيعية فيها السلبي والإيجابي.السلبي مثل عدم إلحاق الضرر بالغير،والإيجابي مثل الاحترام المتبادل. لقد اختار راولز مبدأين قائمين على معايير أخلاقية. مبدأين يراعيان حقوق وواجبات الأفراد والمؤسسات ،إن على مستوى التوزيع أو على مستوى الإنصاف، إذ المستوى الأول يراعي ما هو مجتمعي،والثاني يراعي ما هو فردي ضمن هذا المجتمعي. غير أن هذين المبدأين تتفرع عنهما مبادئ أخرى ضمن عملية تنظيم الأولويات.بهذا الصدد يضع راولز خطاطة يتم التعرف من خلالها على مختلف المبادئ داخل الوضع الأصلي للعدالة،مبادئ صالحة للمجتمع والأخرى صالحة للأفراد،والثالثة تتعلق بالقانون الدولي العام،أما الأخيرة فتتبنى القواعد التي تتم بها مسألة الأولوية في اختيار هذه المبادئ. لكن هناك مستوى ثالث يتعلق بنا نحن من حيث كوننا كائنات عاقلة وذوات أخلاقية،وهو ما قام راولز بالفحص عنه في الفقرة 38 ،والفقرة 77من كتابه هذا.غير أن راولز يعلق على مفهوم الذات الأخلاقية le sujet moral موضحا أنه إن كان أغلب الناس قادرين على تصور معنى للعدالة،فإن منهم من يرفضها عند التطبيق ،فيكون خطر المؤسسات الجائرة مرتفعا ،ومن هنا تكون المساواة المرتبطة بهذا المفهوم الأخلاقي غير صارمة في التطبيق.أن يكون فرد ما قادرا على أن يكون ذاتا أخلاقية ،فإن هذا أمر مشترك؛وإنما لا تكون هذه القدرة غائبة إلا عند الأفراد المعزولين أو أنها حاضرة عندهم في درجة دنيا ،وإذا كان الأفراد مختلفين في هذه القدرة؛فإن هذا الاختلاف لا يكون مبررا لحرمان أولئك الذين لهم هذه القدرة في الدرجة الدنيا من العدالة،إذ أن مبدأ الإنصاف يراعي الحقوق الفردية. يطرح جون راولز إشكالا يتعلق بتأسيس العدالة على هذه القدرات الطبيعية؟ويجيب بناء على الوضع الأصلي،وحجاب الجهل،أن ليست هناك خصائص طبيعية تبين أن البشر جميعهم متساوون بالطبيعة،لأنهم ليست لهم نفس القدرات وفي نفس الدرجة.فتكون المساواة التي يتحدث عنها المبدأ الأول اعتبارية .فليست هناك،مثلا ضمانة لهذه المساواة في المعاملات الواقعية،إلا في مبادئ العدالة،والسبب في ذلك هو أن المساواة الاعتبارية لا تقيد اللامساواة الواقعية ،وذلك مثل نظام العبودية أو الطبقات المغلقة.الحل الذي يقدمه راولز يتعلق بما أطلق عليه اسم range property ،وذلك لفحص العلاقة بين المساواة والقدرات الطبيعية،والمقصود بهذا الاسم هو خاصية يشترك فيها عدد من الأفراد أو خاصة جماعية تنسب إليها عدالة متساوية فيما بين أعضائها.فليس هناك ما يمنع بهذا المعنى أن تكون قدرة طبيعية ما أساسا للمساواة،غير أن هذا أمر موكول إلى مبادئ العدالة وليس إلى فرضيات إجرائية. يمكن القول أيضا:إن مبدأ الاختلاف ينظر إلى التفاوت على أنه نوع من المساواة ،فضلا عن المساواة التي يؤكدها مبدأ الحرية,وهنا يرى راولز ضرورة المصالحة بين هذين النوعين من المساواة.فالمبدأ الأول للعدالة هو مبدأ أخلاقي يعطي الأولوية للمساواة والحرية لجميع البشر في استقلال عن وضعهم الاجتماعي،والمبدأ الثاني،مبدأ الاختلاف يقر بتوزيع الخيرات توزيعا يعطي الامتياز للأكثر حظا،دون إلحاق الضرر بالأقل حظا،فيكون بهذا الاعتبار أيضا مساواة،تجعل من بنية التوزيع ومن التعاون الاجتماعي أن يكونا عادلين ،في حين أن الأول له أولوية وأهمية أكبر،وهو ما يحول دون النظر إلى المساواة فيهما ضمن تصور إمبريقي هنا يطرح راولز عددا من الصعوبات المتعلقة بهذا الاختيار،ويقدم على ذلك مثالا يتعلق بمسألة أولوية الواجبات الطبيعية على الواجبات الاجتماعية ،وهو يرى أن من الواجبات الطبيعية ما هو مندرج ضمن الواجبات الاجتماعية مثل حماية المؤسسات العادلة من طرف الأفراد. ،لذلك يرى أنه من السهولة أن يتبنى الأفراد جميع المبادئ التي تصلح للبنية الأساسية للمجتمع.ويرى أن ما قاله برادلي Bradley عن الفرد بأنه تجريد محض (139)،إنما يعني،في نظر راولز وفي تأويله، أن الواجبات والحقوق المتعلقة بالفرد تفترض تصورا أخلاقيا للمؤسسات الاجتماعية،وهو بناء العدالة على متطلبات الإنصاف إن علاقة الواجبات الطبيعية بالواجبات الاجتماعية،هي بشكل ما علاقة بين الفرد والمؤسسة ،لذلك يرى ضرورة الخوض في مضمون المؤسسات العادلة قبل الخوض في المقتضيات التي يطلبها الأفراد من هذه المؤسسات. وفي هذا يعارض النزعة الفردية التي تعطي الأولوية للفرد على المجتمع كما هو الحال بالنسبة إلى النزعة النفعية،وهو مع ذلك ينتمي إلى الفردانية. فالفرد غير مقصى بذاته ،وإنما هو الأساس الذي يقوم عليه المبدأ المؤسس للعدل الذي ليس هو المنفعة،وإنما هو مبدأ الإنصاف،إذ أن ما في الفرد ليس فرديا كما يقول بيير فرانسوا مورو في كتابه جذور الليبرالية. يعلق أمارتبا سن على هذه الفكرة ،في كتابه فكرة العدالة موضحا أن نظرية العدالة عند راولز تقوم على أطروحة مركزية هي بناء العدالة على متطلبات الإنصاف.وهو يرى أن الإنصاف يأخذ أشكالا متعددة ،غير أنه في صميم جميع هذه الأشكال تقوم فكرة جوهرية هي ضرورة الحياد عندما نصدر تقويمات بصدد الوقائع ،وهو يتصور الإنصاف كآمر محايد وغير منحازimpératif d impartialité يجد وظيفته في الوضع الأصلي للعدالة. وهكذا؛فإنه إلى جانب المبادئ الصالحة للمؤسسات الاجتماعية ينبغي أن يحصل اتفاق حول التصورات الأساسية المندرجة ضمن مفهوم العدل مثل الإنصاف والوفاء والاحترام المتبادل،الخ،من حيث تنطبق على الأفراد. لكن ما المؤسسة؟إن المؤسسة هي نسق عمومي من القواعد ( نظرية العدالة،ص 543 ) التي تحدد المواقع والحقوق والواجبات والسلطات والتحصينات ،الخ،وهي قواعد يتم بناء عليها الترخيص بممارسة أشكال معينة من الأفعال والأنشطة ،وتمنع ممارسة أشكال أخرى .وإذا ما تمت مخالفة ما تسمح به هذه القواعد؛فإن هذا النسق يحدد أشكالا من العقوبات التي تتناسب مع هذه المخالفة أو تلك. ويمكن النظر إلى المؤسسة في صورتها المجردة أو في وجودها المتحقق الفعلي .في الحالة الأولى هي نمط من الممارسات السلوكية داخل نسق من القواعد،وفي الحالة الثانية هي تحقيق لهذه الممارسات والأفعال المترتبة عن هذه القواعد في زمان ومكان محددين.كما أن مبدأ المساواة في إطار مؤسسة ما يتعلق بإدارتها ،بحيث يكون تعلق المساواة بعدالة المؤسسة هو أن تكون هذه المؤسسة حقلا محايدا للقواعد وتفسيرا أو تأويلا لهذه القواعد بناء على قواعد أخرى عملية،وذلك مثل القاعدة التي تقول:ينبغي معاملة الحالات المتشابهة بطرق وكيفيات متشابهة بناء على القانون وعلى القضاء.غير أن هناك مستوى آخر أكثر إشكالية بهذا الصدد يتعلق بالبنية الفعلية والملموسة لمؤسسة ما ،وهي أن تقوم دلالة المساواة على العدالة التي تقتضي فرض نفس الواجبات الأساسية على جميع أعضائها. لكن متى نصف مؤسسة ما بالعدل أو الظلم؟هل في وجودها المجرد أم في تحققها الملموس؟ والجواب هو أن العدل والظلم يطلقان على عدد كثير من الأمور، فهما يطلقان على القوانين،المؤسسات،الأنظمة،الأفعال الخاصة مثل اتخاذ القرارات حول المواقف والسمات الخصوصية للكائنات البشرية،وعلى هذه الكائنات أيضا،الخ. وإن مؤسسة ما تكون في وجودها المجرد عادلة أو جائرة إذا كانت واحدة من تعيناتها الملموسة عادلة أو جائرة.ويقدم راولز مثالا على ذلك هو المؤسسة البرلمانية. فهذه المؤسسة نسق من القواعد تقوم بإحصاء وحصر وترتيب بعض الأفعال والممارسات بدء من انعقاد دورة برلمانية ،إلى التصويت على مشاريع قوانين إلى بناء قاعدة إجرائية.فهي،إذن،توجد في لحظة ما ومكان ما ،وذلك عندما يقوم المعنيون بتنفيذ الأفعال على الوجه المطلوب ،أي في توافق مع القواعد التي تم الاتفاق حولها.فأن تكون المؤسسة نسقا من القواعد معناه أن كل فرد يعرف ما ذا تطلبه هذه القواعد منه،ويعرف أن الآخرين يعرفون ذلك أيضا..غير أن هذا الشرط الأخير لا يلبى دائما في حالة المؤسسات الواقعية.ومن ثمة فإنه ينبغي لمبادئ العدالة أن تنطبق على تنظيمات لها طابع العمومية،يعني أن القواعد الخاصة بمؤسسة خاصة أو صغرى ينبغي أن تكون مقبولة ضمن هذه العمومية.لأنه بفعل خاصية العمومية هذه نعرف ما ذا سيحدث حتى عندما تكون القواعد المتبعة من طرف جماعة صغرى لمؤسسة ما معروفة فقط عند أعضائها،لأنها بذلك لن تحدث تأثيرا سلبيا على المؤسسات الأخرى.وعلى هذا الأساس فإن المجتمع المنظم،أي المجتمع الذي يشتغل بناء على تصور مشترك للعدالة ،هو المجتمع الذي يقوم فيه تفاهم عمومي حول ما ذا يعنيه الظلم وماذا يعنيه العدل.وشرط العمومية طبيعي في نظرية العقد كما أنه ملازم لمبادئ العدالة. إن الطابع العمومي لمؤسسة ما ولقواعدها يمَكِّن أعضائها من معرفة الحدود المتقابلة التي عليهم توقعها في تصرفاتهم المسموح بها ،إذ المؤسسة هي أساس مشترك لمعرفة الانتظارات المتقابلة. يقيم جون راولز تمييزا في قواعد المؤسسة بين قواعد بنائية مؤسِّسة للحقوق والواجبات ومختلف الاستراتيجيات،وقواعد عملية تقوم بتحديد توظيف المؤسسة لغايات خاصة.القواعد الأولى تنتمي إلى النظرية مثلها في ذلك مثل النظرية السياسية البرلمانية بالنسبة إلى المؤسسة البرلمانية.فالقواعد البنائية تحلل الكيفية التي بها يتم توزيع السلطة وتفسر الطريقة التي يستفيد بها المشاركون من الفرص التي توفرها المؤسسة.وهكذا فإنه عندما يتعلق الأمر بإصلاح اجتماعي؛فإنه ينبغي اختبار التصاميم التي يسمح بها وأنماط السلوك التي يشجعها ،وبناء قواعد تجعل الناس مدفوعين بمصالحهم ،ويساهمون بهذه المصالح في تحقيق أهداف مرغوب فيها اجتماعيا.ينبغي لأنماط السلوك التي توجهها المشاريع العقلانية أن تكون في توافق مع النتائج المقصودة والمتوقعة مع العدالة .يعتبر بنتام Bentham هذا التوافق بمثابة توحيد أو تماه مصطنع ،ويعتبره آدم سميث A.Smith بمثابة عمل يد خفية ،وفي نظر راولز يعتبر هذا التوافق هو ما يستهدفه المشروع المثالي عند وضع القوانين،ويستهدفه رجل الأخلاق عندما ينادي بضرورة إصلاحها. هناك تمييز آخر يقيمه راولز في هذه القواعد،وهو التمييز بين قاعدة بسيطة أو مجموعة من القواعد وبين البنية الأساسية للمجتمع باعتبار هذه البنية نسقا كليا.أساس هذا التمييز هو أنه من الممكن لقاعدة ما أن تكون جائرة بدون أن تكون المؤسسة نفسها جائرة،ويمكن لمؤسسة أن تكون جائرة دون أن يكون النسق الاجتماعي في كليته جائرا .كذلك فإن الكل يمكن أن يكون جائرا إذا تضمن في ذاته عنصرا جائرا ،ويمكن أن يكون جائرا إذا لم تكن أية واحدة من عناصره ،منظورا إليها في انعزال،جائرة.وعلى هذا يمكن القول:إن الظلم والعدل حصيلة توليف وتركيب نسق وتشكُّل نسق واحد. يذهب راولز إلى أبعد من ذلك عندما يبين أنه يمكن لمؤسسة أن لا تكون عادلة ولا جائرة وذلك مثل الطقوس ،وهي لا تعنيه في عمله هذا،إذ أن الذي يهمه هنا هو القيام بدراسة الحالات النموذجية للعدالة الاجتماعية.يفترض أيضا إمكان أن تتوافق قواعد بنية ما مع تصور معين للعدالة دون أن تكون مبادئها مقبولة إذ تظهر جائرة ومقيتة.لكن إن كانت هذه المبادئ تقوم بدور العدالة؛فإنها ستحدد عملية توزيع الامتيازات التي يوفرها التعاون الاجتماعي،فيكون تصور العدالة مقبولا من طرف الجميع،وتتم عملية مراقبة سير المؤسسات من طرف قضاة وموظفين.هذا النوع من العدالة هو المسمى بالعدالة الشكلية.كيف ذلك؟ لنفترض تصورا يختزل العدالة في المساواة.هنا عندما تقوم العدالة بتوظيف هذا التصور وتشغيله؛فإنه يجب على المؤسسة أن تقوم بتطبيق القوانين على الأعضاء والفئات بكيفية متساوية .وهذا النمط من التطبيق يكون مورطا بالقوانين،ويمكنه أن يقود إلى الظلم،فيما يرى سدكويك Sidgwik .يعني ذلك أن المعاملة بصورة متساوية ليس بضامن كاف لعدالة واقعية.وفي حالة المؤسسات الشرعية تكون العدالة الشكلية مجرد مظهر لسلطة القانونrule of law .فالعدالة الشكلية بهذا الاعتبار تخضع لسلطة القانون بناء على تصورها لذاتها بأنها مساواة. هكذا يصل راولز إلى نتيجة تتعلق بالعدالة السياسية ،وهي أن قوة العدالة الشكلية إنما هي في تحقيق العدالة الواقعية .أجل إن البعض يعتبرهما متطابقتين ،غير أن الظلم إنما هو آت من عدم التشغيل المحايد لهما. كما أنه سيكون هو عدم التزام القضاة والموظفين بالقواعد الملائمة ،أو بتأويل هذه القواعد عندما يتعلق الأمر بفض المنازعات.كذلك حتى في حالة وجود قوانين أو مؤسسات ظالمة ؛فإنه ينبغي أن تطبق بكيفية منطقية،يعني أن الذين يخضعون لها يمكن أن يحموا أنفسهم منها،وأن الذين يستفيدون منها ويطعنون في حقوق الآخرين وحرياتهم لا يسمحون بأن تتسرب الشكوك إلى هذه القوانين التي تضمن مصالحهم. وعليه؛فإن الطابع الفضفاض للقوانين والمجال الواسع الذي يوفره تأويلها يشجعان عملية التعسف والاعتباط في اتخاذ القرارات .